وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: إيران وسياسة الربح بالنقاط لا بالاستراتيجيا

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

قد يندرج اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة ضمن وضعية استراتيجية تسارع كل من إسرائيل وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترسيخها وتثبيتها، بحيث يتعذر على إدارة جو بايدن إلغاءها أو تجاهلها. أي وضع قواعد اشتباك معقدة وميدانية تلزم الرئيس الأمريكي الجديد بها وتكون بمثابة الأرضية التي توجه قراراته وتضبط سياساته في المنطقة.

خيارات ما بعد الاغتيال

في السياسة المتهم الوحيد في عملية الاغتيال هو إسرائيل بتواطؤ ودعم ترامب.  لذلك ليس جناية من إيران اتهام إسرئيل بعملية الاغتيال،  إلا أنّ الحرج الإيراني هو في خيارات التعامل مع هذا الاغتيال. 

فالرد العسكري ضدّ إسرائيل يعتبر استدراجاً لإيران إلى مواجهة عريضة ومفتوحة معها يؤدي إلى خلط الملف النووي الإيراني بالاعتبارات الإقليمية والسياسية، وبالتالي تحويل الملف النووي من ملف تقني يعالج مستويات التخصيب إلى ملف سياسي إقليمي يربط الاتفاق النووي بسياسات إيران في المنطقة. 

وهو أمر عملت إيران جاهدة على الفصل بين الشأنين، ونجحت إلى حد بعيد في تحقيقه في الإتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الخمسة زائد واحد. أما القول بانسحاب إيران من الإتفاق النووي الحالي كرد على الاغتيال فهو مستبعد.

الرد العسكري الايراني ضدّ إسرائيل على اغتيال زادة يعتبر استدراجاً لإيران إلى مواجهة عريضة ومفتوحة

إذ أنّ إيران وعلى الرغم من العقوبات القاسية من قبل الإدارة الأمريكية التي حاصرتها ودمرت اقتصادها، فإن ردّات فعل النظام الإيراني بقيت بحدود التظلم والتهديد وممارسة بعض الخروقات الطفيفة في الاتفاق، لكنها لم تعلن يوماً تنصّلها من الاتفاق، وظلّت تراهن على متغيرات الانتخابات الأمريكية لإحياء الإتفاق، خصوصاً مع إعلان بايدن بأنه سيتعاون مع حلفائه لإحيائه. 

 الأرجح أن النظام الإيراني سيرد بنفس طريقة الردّ على اغتيال سليماني، أي ردّ محدود ومدروس وبحدود ردّ الاعتبار المعنوي، أكثر منه ضربة موجعة أو مستفزة لإسرائيل. 

بل قد تمتنع عن الرد وتستثمر ظلامتها لجذب التعاطف معها، وللحؤول دون أيّ تصعيد عسكري يخرج عن السيطرة، يمكّن إسرائيل من توظيفه في الداخل الأمريكي، إما بتحريض الرأي العام أو اللوبي السياسي للضغط على رئاسة بايدن بالتعامل مع إيران بشدة وقسوة.

البعد الاقليمي بين بايدن وطهران

ورغم كل هذا الانضباط الإيراني بعودة الاتفاق الكنز الذي أبرمته، فإن هنالك الكثير من المعطيات داخل جهاز الرئيس المنتخب بايدن، تشير إلى عدم اعتماد نفس سياسة أوباما الخارجية، بخاصة وأن بايدن حرص على  إثبات أصالته وخصوصيته في إدارته الجديدة وأن رئاسته ليست نسخة مكررة لرئاسة أوباما.

لذلك صرّح أحد مسؤوليه بالعمل على تجنب أخطاء إدارة أوباما، بأن الإدارة الجديدة ستكون “أكثر تعاونا مع أصدقائها وحلفائها وأشد صرامة وشدة ضد خصومها وأعدائها”. 

ما يعني بأن استعادة الاتفاق النووي السابق ستكون على أرضية مختلفة، وأن الربط بين الاتفاق من جهة وبين رفع مستوى التسلح الإيراني إضافة إلى سياساتها الإقليمية من جهة أخرى بات محتوماً في أية مفاوضات قادمة. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنويية»: مشهدية السيّد والعبد في لبنان

وهي قناعة ليست مقتصرة على إدارة بايدن، بل باتت حاسمة لدى الدول الأوروبية نفسها، بخاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا.مشكلة التضخم الإيراني في التسلح وفي التمدد داخل المجال العربي، لم يعد عنصر قلق إسرائيلي فحسب، بل بات عنصراً مستفزاً للمزاج العربي، الشعبي والرسمي، بما فيه المزاج الفلسطيني نفسه، الذي تحولت إيران بنظره من مناصر للقضية الفلسطينية، إلى لاعب إقليمي ذي خلفية مذهبية هاجسه الهيمنة والسيطرة، والإمساك بقرار العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى.

لا ننسى أنّ صراعات إيران الحالية في المنطقة ليست ضد إسرائيل مباشرة، بل هي في العمق العربي: اليمن، سوريا، العراق، لبنان.

وهي معارك لا تُفهم على أنها جبهة مواجهة أو ممانعة، بقدر ما هي مساعي سيطرة وهيمنة ذات صبغة مذهبية- أيديولوجية فاقعة داخل هذه الدول. استطاعت إيران أن يكون لديها موطىء قدم داخل هذه الدول، لكنها لم تحقق حتى الساعة سوى تدمير مؤسسات هذه الدول، وتوتير العصبيات المذهبية بداخلها، وتعميم ثنائية ولاء متناقضة داخل المكونات الشيعية: الولاء للدولة المحلية والولاء لها بصفتها “دولة الولاية”.  

سياسة الأذرع.. وليِّها

لذلك لم يعد بالإمكان من الناحية الموضوعية فصل سياسة إيران عن مشروعها النووي، بخاصة وأنّ التخصيب وصل الى مراحل متقدمة ليس ببعيد عن إنتاج القنبلة النووية.  وهي وضعية تحمل علامات تهديد وعدم استقرار للدول المجاورة، فشلت إيران في تبديدها لدى أنظمة المنطقة العربية وشعوبها بمكوناتها المتعددة. 

صراعات إيران الحالية في المنطقة ليست ضد إسرائيل مباشرة بل هي في العمق العربي: اليمن سوريا العراق لبنان

فالدخول إلى المنطقة العربية لا يكون بزرع أذرع أو خلق بؤر أمنية موالية لها تستعملهما عند الحاجة، بل باعتماد سياسة وثقافة، تكون أهم ملامحها مراعاة خصوصية المنطقة وعدم التلاعب بمكوناتها، وتفهّم ذهنية وثقافة شعوبها وحتى أنظمتها، أي سياسة صداقة تضمن لإيران فك عزلتها وتبدد العداوات التي تسببت بها. 

التحدي والجدارة ليس في كسر إرادة الآخرين والانتصار عليهم، أو أن تأخذ ولا تعطي، بل في كسب ودّهم وتحويلهم إلى مؤيدين ومناصرين لها في قضاياها الوطنية المحقة.  على إيران أن تستبدل سياسة الربح بالنقاط بسياسة الربح بالاستراتيجيا.   

السابق
اللبنانيون ضحايا رفع «الدعم»..لا محروقات ولا كهرباء!
التالي
الشيعية السياسية نحو الانكفاء(1): ولاية الفقيه تُصيب من لبنان مقتلاً!