وجيه قانصو يكتب لـ«جنويية»: مشهدية السيّد والعبد في لبنان

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

دُعيت منذ أسبوع إلى حلقة تلفزيونية في إحدى المحطات اللبنانية المحلية. كان عنوان الحلقة “هل نبقى معاً” والمقصود بضمير “نبقى” هنا المسلمون والمسيحيون.  في البداية تفاجأت بالعنوان، بل أحسست بالقلق من وصول تساؤلات بعض اللبنانيين وتشكيك بعضهم الآخر بالبديهة المقدسة التي يقوم عليها الكيان اللبناني، وهي بديهة بقاء المسيحيين والمسلمين معاً في وطن واحد.  هو سؤال يستبطن بداخله لا إمكانية عيش مكونات متنوعة داخل لبنان فحسب، بل يستدعي بذاته التساؤل عن إمكانية بقاء الكيان اللبناني، أو قدرته على البقاء في وجه سلسلة المآسي والكوارث التي نزلت باللبنانيين ولم تتوقف حتى الآن.  أي انتقل السؤال في لبنان من سؤال تدبير الحياة اليومية إلى سؤال الوجود والبقاء نفسه. 

هروب من رؤية المشهد على حقيقته

كان تعليقي الأول على هذا العنوان، أنه السؤال الخطأ في فهم أسباب الأزمة اللبنانية واقتراح الحلول لها. فالمشكلة لا تكمن في عدم إمكان تعايش أو تشارك مكونات متعددة، بل تكمن في الفشل في صنع دولة أو إدارة دولة. وهو فشل يتحمل الجميع مسؤوليته بالتساوي. أيّ لم يكن هنالك طائفة تريد دولة بالمعنى الحديث، وطائفة أخرى لا تريد، فالجميع كانوا شركاء في إجهاض الدولة بل كانوا بارعين في ذلك. لذلك وبدلا من الحديث عن جدوى البقاء معاً، لا بد من التفكير معاً في الاسباب والخيارات الممكنة، أمّا الخيار بعزل كل مكون نفسه عن الآخرين والتفرد بتدبير شؤونه، فليس سوى عودة قرون طويلة إلى الوراء، والركون إلى عصبوية قاتلة، وهروب من رؤية المشهد على حقيقته والتهرب من تحمل مسؤولية مواجهته بشفافية.  هو ليس سوى إعلان مضمر بموت لبنان ونهاية الميزة التي تفرد بها عن محيطه.   

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوببة»: الكارثة عندما تُفسَّرُ انتصاراً

ذكرت هذا لأبيّن الفارق المخيف بين واقع لبنان الذي بات بقاءه محل تساؤل وقلق عامّين، وبين القوى السياسية المتحكمة بالحياة العامة، التي تعتقد أو توهّم أتباعها أنها تخوض معركة حقوق طوائفها، وأنّ القضية عندهم قضية نكون أو لا نكون. هو الفارق بين حقيقة الأزمة وهواجس اللبنانيين وأوجاعهم من جهة، وبين المشهد السياسي القائم على قضايا مزيفة وصراعات ذاتية، ومحكوم بذهنية حرب لا ذهنية إدارة دولة، وعقل قبلي لا يتزحزح ولا يتراجع حتى لو كلف ذلك التضحية بكل أفراد القبيلة من جهة أخرى.

عبودية طوعية

كانت وسيلة رموز السياسة وما زالت خلق الخوف وزرعه لا في صفوف خصومهم بل في صفوف أتباعهم، حيث نجحوا إلى حدّ بعيد في ترسيخ قناعة لدى أتباعهم وأبناء ملّتهم أنّ الخلاص يمر عبرهم وأنهم ضمانة البقاء والاستمرار، بالتالي مراكمة مديونية لهم لا بد من استيفائها بالولاء والتنازل عن الحق، لا في التعبير والمطالبة فحسب، بل في التفكير أيضاً. وهي وضعية تطابق بكل صورها وأوجهها علاقة السيد والعبد، الذي لم يصبح عبداً رغماً عنه، بل دخل في عبودية طوعية منه نتيجة تصوره أنّ سيّده يملك إمكانات كليّة القدرة، وأن خلاصه وتحقيق ذاته يكون بتسليم زمام أمره إلى سيده. 

كشفت الأزمة اللبنانية، حجم تفاهة وحماقة صناع القرار في لبنان، الرسميين وغير الرسميين

كشفت الأزمة اللبنانية، حجم تفاهة وحماقة صناع القرار في لبنان، الرسميين وغير الرسميين. ففي ظل الأزمة والمعاناة الاقتصادية والأمنية (تفجير المرفأ)، كانوا خارج السمع، مرتبكون حائرون خائفون على مصائرهم، وإذا نطقوا زادوا الأمور سوءاً وكارثية. بل كشفت كم هم أنانيون وخبثاء، حين جهدوا في تعطيل أي تحقيق شفّاف، وفي تعمية الحقائق، ورغم عجزهم وفشلهم، ظلّت نرجسيتهم الذاتية تلازمهم، فهم بنظر أنفسهم استثنائيون متميزون ومصطفون، ويصرون على أن الهمّ المعيشي والاقتصادي ليس سوى صرف النظر عن قضايا مصيرية وكونية كبرى، هي أقرب إلى ألغاز ومغالطات وأكاذيب، يخوضونها لأجل أتباعهم وأبناء مللهم.   

 لكن لا يتوقع أحد أن هذا الفضح لحال سياسيينا الآسن سيستدعي ورشة محاسبة ومحاكمات من قبل المجتمع.  فالسياسيون لم يكتفوا بالإمساك بصناعة القرار، بل تجذروا بالتحكم بقواعد اللعبة نفسها، أي وضع قواعد المشروعية ومعايير القانونية والصحة والخطأ. ما جعلهم كائنات فوق معايير الشرعية وفوق نصوص القانون، لأنهم مرجع تأويلها وفهمها.  فلم يعد هنالك ضابطة يمكن الرجوع إليها في فضّ النزاع أو الخلاف الداخلي، ولم يعد هنالك قاعدة جلية يطالَب على أساسها المقصّر والمنتهك. بات الثابت والجوهر الوحيدين في لبنان هو الرمز السياسي وما عداه نسبي ومتحرك وهامشي وعرضي. 

انتقلت العبودية والاستلاب الموضوعيين إلى استلاب ذاتي وعبودية طوعية انسلك بها أكثر اللبنانيين

هي وضعية أنشأت ثقافة لم يستطع اللبنانيون مقاومتها، أو قصّروا في مقاومتها. فلم تعد قواعد السياسة خارجية، بل باتت تسكن العقول والنفوس، أي انتقلت العبودية والاستلاب الموضوعيين إلى استلاب ذاتي وعبودية طوعية انسلك بها أكثر اللبنانيين. لم تتعطل إرادتهم في التغيير ومقاومة الشرير فحسب، بل بات الشرّ قدراً لا يمكن ردّه، والفساد أمراً طبيعياً وضرورياً في معركة صراع البقاء بين اللبنانيين، وفضيلة مميزة للزعيم نفسه. 

تبعية مخجلة للزعيم

استطاع المشهد السياسي الفاسد التسرب إلى العقول والنفوس، فباتت الثقافة العامة ذات الصلة بالشأن العام ملوثة ومشوهة إلى حدّ بعيد، تركت أثرها في وعجز وشلل كاملين في المجتمع من إحداث تغيير أو الحدّ من فساد واستبداد القوى الحاكمة، بل تجلّت في أوضح صورها بتبعية مخجلة للزعيم السياسي تصل إلى حد العبادة، نجحت في تشكيل مجتمع عبيد يخجل من مطالبة سيده بالكف عن سرقتها أو أذيتها لأنه يشعر بمديونية تجاهه، وأن ما يفعله هذه السيد ليس واجباً عليه بل منّة ومعروف يتفضل به عليه.  باتت العبودية سجية سياسية وطبع اجتماعي وقع فيهما أكثر اللبنانيون من حيث لا يدرون ولا يريدون.     

يبدأ مسار الحرية (أي التحرر) بنظر هيغل حين يعي العبد ويدرك حقيقة عبوديته

نتفنّن في تمويه المشهد السياسي في لبنان، تارة نسميه ديمقراطية توافقية، وتارة تعددية غنية، وتارة مشهد التعايش والشراكة، وتارة بلد المبادرة الفردية الخلاقة.  هي تسميات نلجأ إليها لا للدعاية والسمعة التي لم تعد تنطلي أكاذيبها على أحد فحسب، بل للهروب من رؤية أنفسنا والتخفيف من عدمية المشهد وكارثية المآل.  حين نكثر من ذكر الأشياء بنقائضها، أي نعبر عن الفشل بالفرادة، والطائفية بالتعايش، والعجز والاستلاب بالمبادرة الفردية الخلاقة، وعن الاستبداد المتفشي تحت السطح بإعلام رخيض ومبتذل، حين نفعل كل ذلك، فإننا لا نفعل سوى تأكيد وترسيخ عبودية باتت متغلغلة في جميع جوانب الحياة العامة والخاصة، وتتخذ تعبيرات وصياغات وعلاقات متعددة، لأننا نخاف من مواجهتها والاعتراف بوجودها.  يبدأ مسار الحرية (أي التحرر) بنظر هيغل حين يعي العبد ويدرك حقيقة عبوديته.   

السابق
أكثر من 190 مريض كورونا في مستشفى بعلبك الحكومي.. وصرخة من المُحافظ!
التالي
تضارب بآلات حادة وسكاكين في عين الحلوة.. وسقوط جرحى!