ناغورنو قره باغ وقدرة موسكو على ضبط الصراع

حرب طاحنة في ناغورنو كرباخ

تواجه الهدنة الإنسانية التي أعلنتها موسكو بين طرفي الصراع في “ناغورنو قره باغ” صعوبة في الصمود. يحاول طرفا المواجهة فرض شروطهما على هذه الجولة من الاشتباكات استعدادا لجولة جديدة، خصوصا أن فرص الحسم السريع غير متوفرة لهما باستثناء إمكانية تحقيق تقدم ميداني محدود لا يغير قواعد الاشتباك أو الخطوط الحمراء التي فرضها المجتمع الدولي وأعطى موسكو مهمة الحفاظ عليها.

منذ بداية الصراع على ناغورنو قره باغ تتعامل الأطراف المتنازعة ومن يدعمها إقليميا ودوليا مع موسكو على أنها الجهة المعنية بالحفاظ على أمن واستقرار القوقاز، من منطلق أنها معنية بحماية نفوذها في منطقة جعلتها ثرواتها وموقعها الجغرافي عرضة للأطماع الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسي. لذلك، تتجه الأنظار دائما إلى موسكو لكونها تمتلك منفردة إلى حد ما حضورا فاعلا بإمكانها استغلاله من أجل فرض وقف الاقتتال على أرمينيا وأذربيجان كما فعلت في المواجهات السابقة.

إلا أن دعوتها السريعة لهدنة إنسانية والتي قوبلت بعدم الالتزام من الطرفين، ستدفعها إلى خيارات أكثر صرامة في التعامل مع الأزمة، ولكن ستعرضها لخسائر جانبية، خصوصا إذا اضطرت موسكو إلى الخروج عما تصفه بالمسافة الواحدة من الطرفين.

تبدو باكو مصممة هذه المرة على تحرير أراضيها المحتلة، مستغلة قرار موسكو بالوقوف على الحياد والأهم اندفاعة أنقرة إلى جانبها التي تستثمر في الغياب الأميركي

يواجه الكرملين معضلات متعددة ومركبة في مقدمتها كيفية التوفيق بين معركة من أجل انتزاع حق تقرير المصير بالنسبة لأرمن قره باغ، ومن جهة أخرى حرب السيادة الوطنية بالنسبة لأذربيجان، التي تتذرع بعدم تطبيق يريفان لكل الاتفاقيات السابقة التي رعتها موسكو والتي تطالبها بالانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة. 

هذه المعضلة المركبة تسقط كافة احتمالات التوصل إلى سلام دائم بين الطرفين وتزيد من أعباء موسكو التي لا تريد التفريط بالتحالف التاريخي مع يريفان، لكنها ليست بوارد خسارة العلاقة الإيجابية مع باكو.

إقرأ أيضاً: «مجرزة كورونية» في الهرمل..24 اصابة و300 مخالط بتأخير إصدار النتائج!

لكن استمرار التصعيد المرتبط بمحاولات باكو فرض وقائع ميدانية جديدة، وقرار يريفان الاحتفاظ بالأراضي التي تحتلها، سيضع حدا لدور موسكو المحايد أو الساعي إلى الحياد بين الجانبين، فلا يمكن ليريفان، التي تتعرض لضغوط عسكرية كبيرة أن تتقبل موقف شريكتها الاستراتيجية موسكو في البقاء على الحياد وعدم الدفاع عنها حتى لو كانت مبررات الأخيرة بأن المعارك تقع خارج الحدود الجغرافية لدولة أرمينيا، حيث تتعرض موسكو لإحراج أمام حلفائها التقليديين إذ تتنصل من تطبيق بنود اتفاقيات الدفاع المشترك لمنظمة الأمن الجماعي (csto).

في المقابل، تبدو باكو مصممة هذه المرة على تحرير أراضيها المحتلة، مستغلة قرار موسكو بالوقوف على الحياد والأهم اندفاعة أنقرة إلى جانبها التي تستثمر في الغياب الأميركي وانشغال إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملتها الرئاسية، وتراجع دور الاتحاد الأوروبي المحصور بفرنسا العضو في مجموعة مينسك والموجه ضد تركيا، حيث بدت موسكو مرتابة من انتقال المواجهة التركية الفرنسية من شرق المتوسط إلى ما وراء القوقاز حيث مناطق نفوذها الحيوية.

عدم انضباط أطراف الصراع سيحتم على موسكو استخدام دبلوماسيتها الخشنة والتلويح للأطراف المندفعة بضغوط جدية من أجل إجبارهم على التراجع

مما لا شك فيه أن تردد موسكو وارتباك طهران والغياب الدولي شجع أنقرة على دفع باكو إلى خيار التصعيد الذي قد يتيح لها فرصة للحسم السريع وتغيير قواعد الاشتباك بهدف تغيير شروط التفاوض. وهذا ما يفسر قرار أنقرة بالتورط العسكري شبه المباشر في النزاع، عبر تقديم الدعم العسكري واللوجستي للجيش الأذربيجاني ونشر مقاتلات F16 في قاعدة غانجا الجوية.

عمليا أثار شكل وحجم التدخل التركي موسكو كأول دولة تتدخل عسكريا في مناطق الاتحاد السوفيتي، والأخطر أنها ترسل مرتزقتها إلى حدود روسيا، ما قد يهدد مستقبلا أمنها القومي، وهذا ما أثار حفيظة رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية سرغي ناريشكين الذي قال لصحيفة كومسومولسكايا برافدا الروسية بأن “روسيا لا يمكن ألا يقلقها، أن بوسع ما وراء القوقاز أن يصبح نقطة انطلاق للمنظمات الإرهابية الدولية، حيث بوسع المقاتلين أن يتسللوا لاحقا إلى الدول المجاورة لأرمينيا وأذربيجان، بما في ذلك إلى روسيا”.

وعليه، فإن عدم انضباط أطراف الصراع سيحتم على موسكو استخدام دبلوماسيتها الخشنة والتلويح للأطراف المندفعة بضغوط جدية من أجل إجبارهم على التراجع، وإما أن تستجيب لضغوط صناع القرار الأمني وتتخذ قرارا بالانحياز وتتحمل كافة عواقبه مستقبلا، حيث أن كافة الأطراف بدأت تستعد لجولة جديدة بعيدا عن النتائج المحتملة لنهاية هذه الجولة.

السابق
الإنتفاضة اللبنانية تستعيد ديناميّتها فهل تكون «مفاجأة» ملف تشكيل الحكومة؟
التالي
واشنطن تدعم المبادرة الفرنسية..وشينكر يطمئن فرنجية!