ان تأتي الإنتفاضة «المجيدة» ولو بعد.. مائة عام!

علي الامين

كان على غالبية اللبنانيين ان ينتظروا دخولهم المئوية الثانية من تأسيس لبنان الكبير، كي يتلمسوا طريقاً محتملاً  و واقعياً للتغيير نحو دولة مدنية منزوعة السلاح تنبذ ثقافة الكراهية المدمرة والتخويف من “البعبع” الآخر في  و المذهبية “الأفيونية”.  لم يكن بالإمكان عقد الآمال على تحقيق ولو بعد حين، لولا الإنتفاضة “المجيدة” بحق، التي أطلقت شرارتها الأولى في مثل هذه الأيام، وأسست لواقع سياسي جديد، لا يُعيد،على تواضعه، عقارب ساعة الطغمة السياسية الحاكمة الى الوراء، بل بالعكس سرعت في “دنو ساعتها”.. ساعة سقوط القناع والمحاسبة ولو مع وقف التنفيد.

إذا فقد جددت الانتفاضة في ذكرى انطلاقتها السنوية في ١٧ تشرين الأول، الأمل بالحياة، وبالشعب الذي اظهر مجددا انه على سوّية واحدة في مختلف المناطق وفي العاصمة بوسطها الشاهد ومرفئها المجروح.

الانتفاضة ليست مشروعا سياسيا بديلا غبّ الطلب، لكي يحاكمها المتفرجون على الاحداث، ويصدرون بحقها احكاما ظالمة، ولا هي مشروعا حكوميا ينتظر على ضفة السلطة الضوء الأخضر من اركانها، كي تتقدم لتحتل مقاعد السراي والوزارات والادارات العامة، ولا هي فعل انتهازي يتحين فرصة الالتحاق بالمتسلطين على الشعب والطوائف ومافيا المال والفساد والتهريب والنهب، ولا هي من صنف الذين تهتز فرائصهم من العقوبات فيتراكضون نحو الحدود في محاولة استرضاء الخارج في سبيل المحافظة على ما نهبوا من مال، وما انتهكوا من سيادة، وما يمارسون من افعال تسلط على المؤسسات الدستورية والمجتمع والدولة على وجه العموم.

في الايام القليلة الماضية، لم تغب صرخة الاحتجاج عن كل مناطق لبنان من الشمال الى الجنوب والبقاع والجبل وبيروت، جدد المنتفضون الحقيقة التي تعبر عن قوة الانتفاضة التي لم تهتز، الحقيقة التي تقول ان نبض الانتفاضة هو نبض لبنان، ليس نبضاً طائفيا ولا فعلا فئويا او محاولة استجرار نفوذ دولي او اقليمي، هي فعل عصّي على الاستحواذ والمصادرة والتجيير، لأنها ببساطة انتفاضة الناس الذين يحامون عن حقوقهم كشعب وعن الوطن كابناء له، وعن الدولة كمعبر عن ارادة الخلاص العام لكل المواطنين.

ليست الانتفاضة فعل انقلاب على السلطة المفسدة والفاسدة، ولأنها فعل تغيير عميق في الوعي والسلوك، فهي لا تخضع لأحكام الانقلابات، ولا لمعايير التحالفات السياسية التقليدية تحت سقف منظومة الحكم ونظام المصالح الذي يديرها، انها فعل تغيير في المنهج الذي طالما اعاد انتاج المنظومة الحاكمة عينها ولو باسماء ووجوه جديدة.

في كل الانتفاضات التي شهدها التاريخ اللبناني الحديث، قبل الحرب الاهلية وخلالها وبعدها والتي دخلت الحكم مشاركة في السلطة او فشلت في الدخول من بداية الاستقلال وفي محطات تاريخية بدأت مع نهاية عهد الرئيس بشارة الخوري الى ما سمي ثورة عام ١٩٥٨ الى انقلاب القوميين في عهد الرئيس فؤاد شهاب، الى مرحلة الحرب الأهلية مرورا بتوحيد البندقية المسيحية وانتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية، مرورا بانتفاضة ٦ شباط ١٩٨٤، وصولا الى حرب التحرير عام ١٩٨٩ وحرب الالغاء وحروب الأخوة..ووو الى العام ٢٠٠٥ وانتفاضة الاستقلال الثاني …كل هذه المحطات لم تستطع ان تحدث تغييرا حقيقيا في منظومة السلطة، وان كان لكل واحدة منها ما حققته مما يعتبره مؤيدوها مكاسب حزبية او طائفية بما فيها من مهازل وكوارث ايضا.

بهذا المعنى يمكن ملاحظة ما لايزال جوهر انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ الصلب، لأنه بخلاف كل المحطات الآنفة، فان الانتفاضة المستمرة رغم كل العثرات ومحاولات القمع والتشويه، فهي انتفاضة لبنانية بامتياز، تغييرية لأنها عصية بطبيعتها على التآلف مع منظومة السلطة، وهي لبنانية، لأنها لا تقوم عصبيتها على الطائفة او المذهب او المنطقة او الحزب، مدنيتها عصبيتها ولبنانيتها هويتها الصريحة، وعلى رغم كل النكسات والخيبات التي طالتها، فانها لم تقع يوما في فخ الفئوية او في امراض الاصطفاف السلطوي، الطائفي او الحزبي، لم تكن يوما اسيرة اغراء المشاركة في السلطة، لأن بنيتها وطبيعة نشأتها لا تتآلف مع منظومة السلطة القائمة واليات عملها.

هنا تكمن قوة الانتفاضة التي تخيف السلطة ومنظومة الحكم، لأنها من صنف آخر، قد يبدو ضعيفا وعرضة للاندثار لدى البعض، لكنه في الواقع هو  من صنف الذي يحفر في الوعي، لأن التغيير المنشود لا يتحقق بغير هذا الحفر العميق، الذي يحصن الانتفاضة من موجات الطائفية والمذهبية التي طالما كانت وسيلة ناجعة لاستيعاب منظومة السلطة كل تطلعات التغيير وحراكها في الماضي القريب والبعيد.

الانتفاضة تنتصر وتتقدم طالما بقيت تنبض في الوقت نقسه،  من صور الى عكار وفي صيدا وجلّ الديب، الى الهرمل واقليم الخروب، وفي الشوف وطرابلس، تنبض في بيروت قبل و بعد. كل عام والإنتفاضة بألف بخير!

السابق
عبد الله رزق لـ«جنوبية»: على الإنتفاضة الإلتزام بشعار «الإنقاذ» أكثر من «التغيير»
التالي
إصابات جديدة في الهرمل.. وفريق من وزارة الصحة يصل المنطقة غداً!