رحلة قبطان سفينة الموت الى بيروت: السلطات اللبنانية على علم مسبق!

انفجار مرفأ بيروت
بعد 14 يومًا من انفجار بيروت المزلزل، لا يزال قائد الباخرة حاملة مواد الموت والدمار إلى بيروت في العام 2013 "روسوس سي أل" (RHOSUS CL) القبطان الروسي بوريس نيكولايفيتش بروكوشيف في دائرة الضوء بقوة، بعد أن قفز إليها بسرعة قصوى إثر الكارثة البيروتية، باعتباره مصدر المعلومات شبه الوحيد عن الحادثة التي صدمت العالم لهولها وفظاعتها.

صُنعت “روسوس” في اليابان عام 1986 وتغيرت ملكيتها ومكان تسجيلها وأسماؤها مرات عدة إلى أن استقرت أخيرًا في ملكية متموّل روسي يعيش في قبرص اسمه إيغور غرتشوشكين سجّلها في مولدافيا في العام 2012 (انظر الكشف التاريخي البياني للباخرة مستقى من شركة الشحن البحري الدانماركية BALTISHIPPING). أما بروكوشيف، فقد قاد “نصف” الرحلة الأخيرة للباخرة بعد أن هجرها قائدُها الأول فياتشسلاف أباكوموف في تركيا إثر إبحاره بها من مرفأ غيورغيليستي في مولدوفا، وتحميله النيترات على متنها خلال الرحلة في مرفأ باتومي بجورجيا، ثم ليمخر بعدها ليس وفق ما هو مدوَّن في بوليصة الشحن عن الوجهة النهائية، إلى مرفأ بيرا بموزمبيق، بل إلى مرفأ توزلا بتركيا بنيّة التخلّي عنها هناك بسبب –كما يخبر بروكوشيف- عدم تقاضيه والبحارة أجورهم.

استغل بروكوشيف وضعه الجديد الذي ساقته إليه الأقدار خير استغلال، ولربما رآها فرصة ذهبية لن تسنح ثانية لتعويض المعاناة التي لاقاها في بيروت، فانطلق “بتغوِّل” في إجراء المقابلات مع مختلف وسائل الإعلام الأجنبية والعربية، ساردًا وقائع ما حصل معه، إذ شكّلت ضخامة حدث بيروت دافعًا لتنافس وسائل الإعلام على استضافته، حتى وصل إلى المحليات اللبنانية “نيو تي في” و”أل بي سي”.

 جاء في بوليصة شحن البضاعة المشؤومة التي عرضتها وسائل إعلام كثيرة، تحت بند (Shipper’s Description of goods = “وصف الشاحن للبضاعة”) عبارة (High Density Ammonium Nitrat = “نيترات الأمونيا المركزة”)، وتحت بند (port of  loading = “ميناء التحميل”) عبارة (port of Batumi = ميناء باتومي) في جورجيا، الجمهورية السوفياتية السابقة التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، أما المشتري فهو شركة متفجرات في موزمبيق ورد اسمها بالبرتغالية (اللغة الرسمية لموزمبيق التي كانت مستعمَرة برتغالية) وهو(Fabrica de explosivos av. Samora Machel, Parcela 10, Matola-Mocambique). أما اسم القبطان في البوليصة فكان Viacheslav Abakumov فياتشسلاف أباكوموف (القائد الأول).

يقول بروكوشيف في إحدى مقابلاته (لتلفزيون “العربي”) إنه وقّع عام 2013 في بلاده عقد عمل لمدة ستة أشهر مع “شركة تيتو المحدودة للشحن” Teto Shipping Limited الروسية على الإبحار بـ”روسوس” من مرفأ توزلا بتركيا (وهو مرفأ حاز اهتمام وسائل الإعلام في 28/ 2/ 2020، عندما جرفت فيه الرياح إحدى السفن وتدعى “كلافيغو” فاصطدمت بأخرى، ما تسبب بخسائر كبيرة في الممتلكات وسقوط 13 جريحًا وإغراق السفينتين لاحقًا)، مقابل أجر 3500$ أميركي في الشهر. وعندما توجه القبطان الروسي إلى المرفأ فوجئ بالسفينة خالية من بحارتها، ليعلم بعدها أنهم تركوا العمل على متنها بعد أن لم يُدفع لهم أجرهم (وهو كان اتهم أباكوموف في مقابلة مع قناة “أل بي سي” بأنه “كذب عليه يوم اتصل به ليتسلم السفينة في تركيا، عبر إيهامه بأنه كان يتقاضى راتبه”، وهو تصرف يُفهم منه أن القبطان الأول إمّا كان يحاول عدم إخافة بروكوشيف وجعله يتورط بتسلم المهمة الخطرة، وإما أنه كان والبحارة جزءًا من مافيا روسية متآمرة مع أطراف حليفة لإيصال الشحنة إلى بيروت عبر شخص ثالث لا علم له بشيء). عندها، وبطاقم جديد من ثلاثة بحارة من الجنسية الأوكرانية (انظر الجدول أدناه بأسمائهم) وبطلب من مالك السفينة توجه بروكوشيف إلى مرفأ بيريا باليونان للتزود بالمؤونة والوقود.

بعد توقف في اليونان أسبوعًا أبلغهم مالك السفينة بأنه لا يملك نقودًا لدفع تكاليف عبور السفينة قناة السويس (وقد شكّك بروكوشيف في مقابلة مع  قناة “أل بي سي” في صحة كلام المالك، قائلًا إنه قبض مليون دولار مسبقًا فكيف يُعقل أنه لا يستطيع الدفع لقناة السويس؟)، وطلب منهم التوجه إلى بيروت لتحميل معدات ثقيلة من هناك وتفريغها في الأردن والاستفادة من أجرة نقلها للدفع في قناة السويس، لكن القبطان بروكوشيف أوقف التحميل في مرفأ بيروت بعد أن تبين له أنها معدات ثقيلة الوزن جدًّا تستخدم لحفر الطرقات وأن سطح السفينة الصدئ بدأ بالتقوّس، كما أن العمال رفضوا الإبحار بعد علمهم بعدم حيازة المالك الأموال اللازمة للرحلة كي لا يحصل معهم ما حصل لزملائهم السابقين فلا يحصلوا على أموالهم. أخبر القبطان غرتشوشكين بما حصل فطلب الأخير منه التوجه بالسفينة إلى قبرص ليتفاهم مع البحارة، إلا أن سلطات مرفأ بيروت لم تسمح لـ”روسوس” بالإبحار بسبب عدم سداد أجور الرسوّ واحتجزت القبطان وثلاثة آخرين وأفرجت عن البحارة المتبقّين.

بقي الطاقم على “روسوس”، مدة عشرة أشهر من دون أي اتصال مع مالك السفينة الذي غاب عن السمع تمامًا رغم الاتصالات المتكررة، ما أعطى الانطباع بأنه تخلى عنها، متسبِّبًا بأزمة معيشية خانقة للطاقم. يقول بروكوشيف: “لم يعد غرتشوشكين يدفع ثمن الغذاء ومياه الشرب وكان الطرف اللبناني يدفعها ولا أدري من أي مال”، ويضيف: “كتبت خلال احتجازنا احتجاجًا لـ”منظمة العمال الدولية” ولقائد المرفأ ولوزارة النقل ولم يبال أحد”.

قام بروكوشيف ببيع جزء من الوقود لتوكيل شركة بارودي للمحاماة لإخراجهم من لبنان، فتمكنت خلال ثلاثة أشهر بالفعل من انتزاع حكم بالسماح للطاقم بالمغادرة، أما السفينة التي أخليت من بضاعتها فوصل خبر إلى بروكوشيف من أصدقائه البحارة بأنها غرقت.

حاولت “بي بي سي” العربية التي أجرت مقابلة مع بروكوشيف الاتصال بمالك السفينة لكنها لم تتلق إي تجاوب منه. وتحدثت صحيفة الشرق الأوسط السعودية عن اهتمام وسائل الإعلام الروسية بخبر الانفجار، إذ جاء في شبكة «ميدوزونا» الإلكترونية الروسية تفاصيل عن غرتشوشكين تفيد بأنه كان يملك أسطولاً صغيراً للنقل البحري، وأن كثيراً من الشبهات أحاطت بنشاطاته التجارية، ما أسفر عن إعلان إفلاسه وإغلاق شركته (تيتو شيبينغ إل تي دي) في العام 2014، أي بعد عام على احتجاز روسوس في مرفأ بيروت». وتتابع الشرق الأوسط أنه بعد تخلي صاحب السفينة عنها واجه ملاحقات من الدائنين و3 مذكرات اعتقال ضده، مشيرة من جهة أخرى إلى معطيات غير مؤكدة باعتقاله في يوليو (تموز) 2013 في إشبيلية. ووفقاً لخدمة هيئة أوكرانية مشرفة على نشاطات النقل البحري، فقد تم آخر تسجيل لموقع السفينة في العام 2014 وكانت حينها بالقرب من الرصيف 12.

السلطات على علم مسبق

يؤكد بروكوشيف أن السلطات اللبنانية كانت على علم بالحمولة الخطرة على متن السفينة وأنها رفضت مرارًا تفريغها، ويقول في ذلك: “كنت أرى نيترات الأمونيا تفرَّغ من سفن أخرى، وعندما سألتهم لماذا لا يفرغون حمولتنا أجابوا بأن ما يتم تفريغه تركيزه أقل، أما حمولتنا فتركيزها عال ويمكن بها تصنيع متفجرات”. ويضيف: “وبعد مغادرتنا إلى بلادنا علمت من المحامي الذي أوكلناه لإطلاق سراحنا أن الشحنة فُرِّغت”.

ويستغرب البحار الروسي المخضرم ما حدث من تفريغ هذه الشحنة قائلًا: “كان الأحرى بالسلطات أن تدفع هي أموالًا لغرتشوشكين عندما علموا بنيته سحب السفينة إلى قبرص لا أن يطالبوه بأموال، وذلك كي يزيلوا مصدر الخطر من المرفأ، لكنهم بدلًا من ذلك حجزوا السفينة وفرغوا حمولتها، فهل هذا منطقي؟!!ّ”.

“الاستغراب الشديد” نفسه مما حصل في مرفأ بيروت في العام 2014 أبداه متحدث باسم “شركة موزمبيق لصناعة المتفجرات” بعد انفجار بيروت في مقابلة مع شبكة “سي أن أن” (CNN) الأميركية، وهو استغراب مبعثه طول المدة التي جرى الاحتفاظ بها بشحنة الأمونيوم، قائلًا: “هذه ليست مادة يمكن تخزينها من دون استخدام، فهي خطيرة جدًّا وتحتاج إلى نقل وفق معايير صارمة للغاية، فأوكسيدها قوي جدًّا”، مؤكدًا ما أدلى به بروكوشيف من أن “الشحنة كانت في طريقها من جورجيا إلى موزمبيق لصناعة المتفجرات لشركات التعدين”، وأنه عندما لم تصل لم تدفع شركته ثمنها واشترت شحنة أخرى عوضًا عنها.

وكرت الأيام، والشهور، بل وحتى السنون، و”التنين النيتراتي” قابع بين الغافلين من البيروتيين وعلى مقربة أمتار من مرتادي مينائهم -الذين يبلغون الآلاف في وقت الذروة- والقاطنين حوله، إلى أن فغر فاه الملتهب في يوم 4 آب 2020 المشؤوم حاصدًا بهديره وجبروته ونيرانه مئة وثمانين روحًا بريئة منهم، ومن خلفهم جرحى بلغوا الـ4000 آلاف، وأهال تأكل أكبادهم الحرّى اللوعةُ على أحباء فُقد أثرهم تحت الركام الهائل أو ذوبانًا بوهج نارٍ غير عاقلة صهرت الحديد فلم ترحم أجسادهم الضعيفة وأذابتها.

في “قطعة السما” لبنان، والمحسود من له “مرقد عنزة” فيه، كما في معظم عالمنا العربي المنكوب بحكامه، القضاء لم يحاكم الأقوياء يومًا، فبعد 14 يومًا على “الانفجار-المأساة” لا تزال أطراف أربعة رئيسية تسرح خارج القضبان: مسؤولو المرفأ، مسؤولو الجمارك، السياسيون ذوو العلاقة، والعسكريون ذوو العلاقة.

أي صدفة وتوافق عجيبين هذين اللذين يجعلان مالك السفينة الروسي يوجّه السفينة نحو بيروت ومسؤولي المرفأ اللبنانيين يصممون على إبقائها وحجزها؟؟!!! مدير الجمارك بدري ضاهر طلب نقل الشحنة الخطرة  قبل سنوات من التفجير، كما تفيد مستندات المحكمة التي تم الحصول عليها من الناشط وديع الأسمر بأن ضاهر عرض الشحنة على الجيش اللبناني ولشركة المتفجرات اللبنانية فأبلغه الجيش أنه لا يحتاج إلى نيترات الأمونيوم، وفي هذا تقصير بالغ من الجيش بتركه المادة القاتلة بين المدنيين مع علمه بخطورتها، فهل ستصل المحاكمة إلى الجيش؟ كما أنه تقصير بالغ من ضاهر، الذي اكتفى بالتبليغ ولم يتحرك بعدها، فهل يُحاكم بدري ضاهر؟ لا نظن أيضًا، لأن القضاء –كما أشرنا- لا يحاكم الأقوياء.

السابق
أزمة المصارف تابع.. مواطن يُحاول إحراق نفسه في صيدا!
التالي
قوى الأمن تعتقل جريح الإنفجار خلال ترميمه لـ«كافيه ام نزيه».. وابنته تُناشد خلف!