نظرة على المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية في جبل عامل

شقرا

تعود تسمية أرض عاملة أو جبال عاملة نسبة إى عاملة بن سبأ الذي تفرّق ولده لما أرسل الله عليهم سيل العرم، نزحوا من اليمن، فنسبت الأرض لهم، وهي اسم لصقع واسع من الأرض، اختلف في تحديده، فكانت حدوداً تتسع تارة، وتضيق أخرى، بحسب سلطة زعمائه. وقديماً كانت حدود جبل عامل أكبر بكثير مما عليه اليوم، فكانت تشمل سهول الحولة حتى تصل إلى (طيرشيحا) في بلاد عكار فارض الخيط والأردن.

#اقرأ أيضاً: مراودة التاريخ العاملي

وحسب ما يقول المرجع الديني آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه: “والذي تستقر به، أن جبل عامل اسم لمجموع لبنان، ويدلنا على ذلك عدُّ الكرم منها في كلمات جملة من المؤرخين، وأكبر شاهد عليه قول المغربي: إنها على سفح لبنان، وهو أشهرها، يعني أشهر جبال عاملة، فهو منها ولكن شهرته أكثر من شهرتها، وعلى كل حال فإن جبل عامل منذ قرون أصبح اسماً لدائرة ضيقة باعتبار استقلاله سلطة ومذهباً، فقد كان زعماؤه يحكمون منطقة لا تبلغ تلك الحدود.

كان جبل عامل قُطراً صغيراً منزوياً عن العواصم والحواضر، وقد مرّ عليه عصر من العصور، صار فيه جامعة علمية يقصدها الطلاب من العراق وإيران وغيرهما، ورغم بُعد الشقة وصعوبة التنقل بلغ عدد تلامذته في زمان المحقق الميسي أربعمائة طالب وقيل: “اجتمع في عصر الشهيد الثاني في جزين سبعون مجتهداً بمناسبة جنازة متواضعة، وإذا كان هذا عدد المجتهدين فكم هو عدد الطلاب”!

أجل: إن بلداً هذا حاله، ينبغي الاعتراف بأهميته، وينبغي للباحثين والمنقبين، أن يتجهوا للبحث عن ماضيه، فإن ذلك حق من حقوقه، وذمتهم لا تزال مرهونة به”.

وبعد هذا فالكلام عن نظرة في تاريخ علماء ومراجع جبل عامل منذ سنة 771 هـ ولغاية أيامنا هذه في سنة 1423 هـ – وإن كان لا يوفي أولئك العظماء حقهم – ما هو إلا اعتراف بفضلهم على الإسلام والمسلمين، والشيعة والتشيع، وعلى لبنان وتاريخه، وعسى أن تقتدي الأجيال العاملية الصاعدة من طلبة العلوم الدينية بأولئك الأجداد الكرام.

جزين ومجدها الغابر

بعد النكسة التي أصيب بها الشيعة وعلماؤهم من بني عود في جبال كسروان، ولبنان على أيدي المماليك، وبفتوى من ابن تيمية في سنة 705هـ الموافق لسنة 1305م. هرب بعض بقاياهم إلى جزين. وإما من أظهر التقية منهم أو تسنن على مذهب الإمام الشافعي(رض)، فقد آثر الذهاب إلى طرابلس، أو بيروت، أو صيدا، أو دمشق، والاستيطان في تلك المدن.

كان جبل عامل قُطراً صغيراً منزوياً عن العواصم والحواضر، وقد مرّ عليه عصر من العصور، صار فيه جامعة علمية يقصدها الطلاب من العراق وإيران وغيرهما

وقد تعاون أولئك الشيعة الضيوف ومشايخهم بنو عود مع إخوانهم أهالي جزين ومشايخهم على أن تكون جزين تلك القرية العاملية الفقيرة والبعيدة عن الأمصار حاضرة علمية، تحكي قصة حاضرتي العلم والأدب والمعرفة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حلب أيام بني حمدان، وطرابلس أيام بني عمار. قبل الشهيد الأول الإمام محمد بن مكي الجزيني المكي نشط في جزين ثلة من أهل الفضل والعلم كان منهم والده الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ محمد شمس الدين والشيخ طوقان العاملي، والشيخ أسد الدين الصائغ الجزيني أبو زوجته وعم أبيه، والذي اتقن ثلاثة عشر علماً من العلوم الرياضية.

غير أن الحلم بأن تغدو جزين حاضرة علمية لم يتحقق إلا على يدي الشهيد الأول وخلفائه من المراجع الأعلام الذين اتخذوا من قرى جبل عامل الفقيرة: جزين، وجباع، وميس الجبل ومشغرة، وكرم نوح، وبعلبك وغيرها من قرى عاملية ولبنانية محطاً لرحالهم.

المرحلة الأولى بين 771 هـ و1195هـ

معرفياً امتاز علماء تلك الفترة بسعة الاطلاع على المذاهب الإسلامية الأخرى، ونبوغهم في الحوار وإحاطتهم باللغة العربية وآدابها، ونظمهم الشعر، وإطلاق النظريات العلمية في الفقه والأصول والتفسير والحديث والرجال، ولامتيازهم بالتواضع والخُلق الحسن، والعسي الدائم للإصلاح بين ذات البين، وحقن دماء المسلمين، وتشجيع الناس على طلب العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق حازوا احترام العامة والخاصة منهم.

كما كان المسلمون الشيعة بعامة وفي البلاد الشامية بخاصة يرجعون إليهم بالتقليد أو بالأخذ ببعض فتاويهم ونظرياتهم. أبرز علماء تلك المرحلة الشهيد الأول الإمام محمد بن مكي الجزيني العاملي المستشهد على أيدي المماليك في دمشق سنة 786 هـ، وقد عُرف – رحمة الله تعالى – بالاجتهاد في البحوث الفقهية وفي مقدمتها: (الصرف، النحو، المنطق، الأصول…) على المذاهب الخمسة (الاثني عشرية، الحنفية، المالكية، الحنبلية، الشافعية)، ولم يتسن الأمر لأحد غيره من علماء المسلمين.

وكان قد زار كثيراً من مراكز العالم الإسلامي، وشارك علماء المسلمين السُنّة في محافلهم الكبرى، ودرس كثيراً من كتبهم العلمية، وينقل عنه في إجازته لابن الخازن: “وقابلت أربعين عالماً من كبار علماء أهل السُنّة في مكة والمدينة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام إبراهيم الخليل ورويت عنهم”.

أشهر مؤلفات الشهيد الأول كتاب “اللمعة الدمشقية” في الفقه الجعفري والذي يعد من أهم مصادر البحث والدراسة والاستنباط عند المسلمين الشيعة الإمامية منذ سنة 786هـ، ولغاية أيامنا هذه.

كما أسس حوزة علمية فقهية في بلدته جزين على غرار حوزة الحلة في العراق بعد أن قام بمحاربة البدع والخرافات والغلو وجماعة البالوش في جبل عامل، والانتصار عليهم في معركة الشهداء في “النبطية الفوقا” على تفصيل معروف في تاريخ جبل عامل. وقد نبغ من تلامذته وتلامذة تلامذته، ومن الأجيال المتعاقبة بعد ذلك عشرات الأعلام في الفقيه والأصول والتفسير والأدب، كان أعظمهم على الإطلاق:

1 – الشيخ نور الدين علي بن عبد العالي الكركي المشهور بالمحقق الثاني المتوفّى في إيران سنة 940 هـ. والذي قصد أصبهان فأكرمه الشاه طهماسب الصفوي غاية الإكرام، وجعل أمور الممالك الصغوية بيده، وكتب إلى جميع عمّاله في البلاد بامتثال ما يأمرهم به الشيخ، وأن أصل الملك إنما هو له لأنه نائب الإمام المهدي عليه السلام.

اقرأ أيضاً: قلاع الجنوب: جبهت التاريخ… وأهملها الحاضر!

من آثاره في الفقه: شرح القواعد في ستة مجلدات، والرسالة الجعفرية، ورسالة الخارج، ورسالة الرضاع، ورسالة الجمعة وغير ذلك.

2 – الشيخ عبد العالي بن الشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي، من كبار فقهاء جبل عامل وأصبهان، توفي سنة 993هـ في أصبهان، من آثاره في الفقه شرحه الكبير على رسالة الألفية، ورسالة عملية في فقه الصلاة اليومية، ورسالة في القبلة. توفي في أصبهان ودفن فيها.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد الثامن أيلول 2002)

السابق
حارث سليمان.. هذا ما فعلته إيران بالشيعة العرب!
التالي
أوبرا وينفري تتبرع بثلاثة ملايين دولار لمساعدة ضحايا كورونا!