جريمة في قطار الرافدين

مصطفى فحص

هو ليس الاغتيال الأول، ويبدو أنه لن يكون الأخير. فالجريمة السياسية في العراق أخذت شكلها الأكثر تنظيما وانتظاما بعد الأول من أكتوبر الفائت، وليس مستبعدا أن تكون ممنهجة إذا أصبحت الوسيلة الوحيدة التي يعتمدها محترفوها للدفاع عن عقيدة القاتل، وحماية لمصالحة الخاصة.

يريد القاتل ألا يعلو صوتا فوق صوت رصاصه. وهو إن أسكت صوت هشام الهاشمي، لكنه بدون شك دفع كثيرين ممن يشبهونه إلى أن يخفتوا صوتهم، إما خوفا، وهذا من حقهم، في بلد يَصف فيه الروائي أحمد سعداوي مواطنيه بقوله “العراقي زائر خفيف لهذه الحياة ويغادر بسرعة”، وإما يأسا وهذا ما يريده القاتل بعد عجزه في إصلاح حاله.

اقرأ أيضاً: شاهد.. آخر مداخلة تلفزيونية لـ«هشام الهاشمي» قبل إغتياله في بغداد!

جريمة اغتيال هشام الهاشمي بحساسيتها السياسية هي جزء من حدثين، وتقاطع من حادثتين: الحدث الأول جرى في ٩ أبريل، يوم تم تكليف مصطفى الكاظمي تشكيل الحكومة العراقية، أما الحادث الثاني فهو في تقاطعها مع عملية اعتقال خلية الكاتويشا، ما يجعلها مكملة لمجموعة معطيات ستؤرخ لتاريخ جديد يشق طريقه الوعرة في بلاد النهرين.

التحديات أمام الكاظمي كبيرة، فهو يحتاج إلى التحقيق في جريمة أعدت سياسيا ورُكبت على حدث سياسي، وهي تُربكه وتسرق منه عامل الوقت

السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الأسباب التي دفعت كثيرين إلى ربط الاغتيال بحدث تكليف الكاظمي إدارة الدولة، واعتبار أن حدث الجريمة جرى داخل غرفته المغلقة، وبين من يراها حادثة ترتبط بمحاولة لمأسسة الجريمة واستخدامها كأداة في الصراع مع متغيرات تفرض نفسها ببطء شديد على العراق.

في واحدة من مقصورات قطار الرافدين، جرت الجريمة على مقربة من غرفة القيادة، وليست بعيدة عن مقصورة الركاب، وما بينهما مقصورة مسلحة تحاول وضع يدها على غرفة القيادة ولا تجد مانعا في توجيه سلاحها تجاه الركاب، لكن أزمتها المُركبة أنها مُربَكة بعدما خسرت فرصة قيادة القطار ولم تعد تتحكم بمسلكه، وتخشى أن يقوده الكاظمي إلى حيث يرغب ركابه العاديين وهم أغلبية، فيما تحاول أقلية مسلحة مقتدرة خطف القطار وتغيير وجهته، حتى لو أدى ذلك إلى الانتحار الجماعي، على غرار ما فعل من خطف طائرة الركاب المدنية التي اصطدمت ببرج التجارة العالمي، الذين حددوا وجهتها دون الاكتراث لوجهة الركاب.

أزمة الدولة العراقية مع خاطفيها أنهم لن يسمحوا لها تغيير وجهتها وشكلها ولغتها، أما أزمة القائمين الجدد عليها أنهم يقومون بخطوات بطيئة في مرحلة يستخدم خصومهم العلنيين والسريين وحتى المحتملين وأصدقائهم الافتراضيين والمترددين سرعتهم القصوى، في مواجهة مفتوحة دون فرامل، قد تؤدي إلى فكفكة عربات القطار أو تعطيله نهائيا، وحتى إخراجه عن سكته بهدف طمر كافة الأدلة الجنائية، التي تساعد على كشف ما ارتكب في مقصوراته من جرائم وسرقات.

يريد القاتل ألا يعلو صوتا فوق صوت رصاصه. وهو إن أسكت صوت هشام الهاشمي، لكنه بدون شك دفع كثيرين ممن يشبهونه إلى أن يخفتوا صوتهم

مما لا شك فيه أن التحديات أمام الكاظمي كبيرة، فهو يحتاج إلى التحقيق في جريمة أعدت سياسيا ورُكبت على حدث سياسي، وهي تُربكه وتسرق منه عامل الوقت الذي بات يخضع لتسارع الأحداث. فالكاظمي الجالس في غرفة القيادة خلفه مقصورات تعج بالتناقضات، ومعضلتها أن تناقضات ركاب القطار آيلة للانفجار في حال زاد من سرعته أو خفف منها، ما يعني أنه لم يعد يملك خيارات كثيرة، إما التضحية بالركاب الذين يجبرونه على القيادة ببطء حتى يتسنى لهم تحسين وتعميد مقاعدهم، وإما إرضاء الذين يرغبون أن يُقلع دون النظر إلى الأثقال التي وضعت فوق العربات، وهو أيضا خيار قريب من الانتحار.

فرصة الكاظمي في قدرته على استيعاب الصدمات، لكن مقتله في تأجيل كشف الجُناة، لأن المجرم من عادته أن يعود إلى المكان الذي ارتكب فيه فعلته، وهنا وقاحته ستحرج الكاظمي وتعرقله، لكن يمكنه أن ينتظر فرصة قد تلوح بعد تمكنه، ولو بمحدود، من قيادة القطار كما يشاء، خصوصا أن قيادته جاءت كخيار سياسي وليس انتخابا، وشرعيته تأتي من خلال تحقيق إنجاز أهم وهو إيصال القطار إلى محطته التالية، وإلا العودة إلى مكان الانطلاق حيث فوضى ركاب الدرجة الأولى وصراعهم على وجهة القطار.

السابق
«لا استقالة حكومية».. دياب من دار الفتوى: لبنان لن يكون تحت السيطرة لهذا السبب!
التالي
«حزب الله» يزرع «ريح» الفساد ولا يحصد إلا «عاصفة» الخراب!