عندما تسقط السياسة عند عتبات الخبز والأمن!

الثورة اللبنانية

يقول أهل العلوم السياسية إن السياسة  مصنفة في مدرستين: المدرسة الواقعية والمدرسة المثالية. المدرسة الواقعية غلبت عليها صفة البراغماتية في وقت لاحق، والمدرسة المثالية تم إقرانها بالأخلاقية، باعتبار الأخلاق صفة المُثل العليا. المثاليون، كانوا يلاحقون الواقعيين دائما بتهمة التجرد من أخلاقيات المثال، والنزول إلى منزلة المنفعة والمصلحة.

اقرأ أيضاً: الناس أصدق إنباء من زعمائها!

البراغماتيون

الواقعيون أو البراغماتيون، كانوا يردون دائماً واستمرارا بالقول: إن السياسة هي عملية بحث عن حاجات الأفراد أو الجماعة أو مصالح الدولة العليا، وحين تتحقق هذه الحاجات ، بطريقة أو بأخرى، تكون قد تحققت الأخلاقيات والمُثل بعينها. وعلى هذه القاعدة نكون أمام فلسفتين: فلسفة الروح وفلسفة المادة، وأي منهما أولى ولأي منهما الأولوية: الروح أم المادة؟ العقل أم البدن؟ هذا الجدال لم يتم حسمه، ولا يبدو أن حسمه قريب المنال، خصوصا حين يأخذ الإصطفاف الفلسفي بعده الغربي من جهة، وبعده الشرقي من جهة ثانية. في الغرب، كان الإنحياز إلى هذه المدرسة أو تلك  رهنا بطبيعة الظروف وعواملها، وكانت سمة التقلب بين المدرستين رفيقة تاريخ الغرب، وفي الشرق، كانت المدرسة المثالية  متلازمة مع تاريخ الشرق كله.

المدرسة المثالية، تتخذ من الرمزيات الكبرى والمعاني العالية وغير الملموسة  أساسا وقواعد لها، وتطغى عليها مفردات ـ الضمير ـ العدل ـ الأخلاق ـ الروح ـ الفضيلة … إلخ .لا تقدم المدرسة المثالية إجابات عملية على ما تطرحه من رمزيات، ويختلف أتباع المدرسة نفسها على دلالات الرمزيات، وتتباين إجاباتهم، وبما أن عالم المُثل هو أساس هذه المدرسة، فغالبا  ما تأتي إجاباتها عامة بالرغم من تعددها وتباينها واختلافاتها، إذ من الصعب، بل من الإستحالة ربما، أن تأتي إجابة قاطعة على سؤال من مثل: ما الفضيلة؟ أو ما الشرف؟  أو ما الكرامة، أو ما الدولة وما النظام؟

المدرسة الواقعية

الأسئلة المذكورة قبل حين، هي جوهر كل فلسفة سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد، وتلك الأسئلة ما زالت قائمة حتى الآن بلا انقطاع، ولكن أجوبتها منقطعة عن الحضور وعن البرهان وعن الفعل. المدرسة الواقعية، ذهبت الى تعيين الفعل وتحديده، وحين  أفاض أرسطو في كتابه “السياسيات” في شرح أنماط الأنظمة السياسية باحثا عن أفضلها وأعدلها، إنما كان يبحث عن إنزال العدل من عالم المثال إلى عالم الواقع، وذاك هو أساس اختلافه  الفلسفي مع معلمه أفلاطون. في الشرق أيضاً، لم يحدث  أن تجادل أهله بإفاضة عن شكل النظام العادل، وكاد جدالهم يجتمع حول “الحاكم الفيلسوف”، أي في النهاية الفرد، فعند  شيخ المشائين إبن سينا  أن الفيلسوف هو الملك  و”صاحب العقل الأعظم  هو من يستحق الرياسة”، وعند  الفارابي: يجب أن يكون الرئيس مفطورا على هيئة وملكة، ولا يجب أن ينازعه في سلطته قانون أو كائن، ولا يصلح للرئاسة سوى من بلغ عقله درجات الكمال القصوى،  كما  أن أفضل الحكومات  عند ابن خلدون هي التي يرأسها فرد.من يحدد  “العقل الأعظم” أو “كمال العقل”؟

الإنسان مفطور على القلق، قلق المرض، وقلق الأمن، وقلق الغذاء، وكل أنواع القلق تلك، مادية، فالمريض يحتاج علاجا ودواء، والخائف يحتاج سلاحا أو رادعا، والجائع يحتاج غذاء ومأكلا، وكلما غابت أو تقلصت هذه الماديات يرتفع منسوب القلق ويتحول معه الإنسان إلى الشراسة وحدة الطباع ويسلك سلوك الإضطراب، مما يوقع الناس في شر الناس

لا تجيب المدرسة المثالية عن ذلك، لا عند ابن سينا و لا عند الفارابي في “المدينة الفاضلة”، ولا تجيب أيضا مقدمة إبن خلدون عن الأسباب التي تجعل “أفضل الحكومات” يقودها فرد ، مع أن ابن خلدون أجاز قيام حاكمين اثنين  في زمن واحد، فهل قال بالأولى حتى لا  يطاله أحد في مقولته الثانية؟ ذلك يبقى في عالم التأويل والظنلكن في المقارنة، شرقا وغربا، بين العدالة المتمثلة بالحكم العادل والفرد كما نودي مرارا في الشرق، وبين  انتفاء العدالة عن حكم الفرد مثلما أبكر الغرب في التعبير عن ذلك، سنلاحظ هذين المشهدين: حين حاول الإسكندر المقدوني التأله أسوة بحكام الشرق كتجسيد أخلاقي عالي في شخصية الإمبراطور وقال لمعلمه أرسطو: يستطيع الإمبراطور أن يقتل الفيلسوف، ابتعد عنه أرسطو وقال قولته الشهيرة: لن أسمح لأثينا أن تنال من الفلسفة مرتين، في إشارة منه إلى إعدام سقراط.الواقعة نفسها تقريبا، جرت مع يوليوس قيصر في روما، إذ لما سعى إلى توريث قريبه، استدعاه مجلس الشيوخ، وانهال عليه أعضاؤه طعنا حتى قتلوه، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال قولا ذهب مثلا: حتى أنت يا بروتوس؟!

معاني ومقاصد هذه الأمثلة

أن الشرق استقر على صراط فكري واحد في عملية بحثه عن العدالة، وحصرها بوجود  أو اكتشاف “الإنسان الكامل”، أي الفرد الفيلسوف ذو العقل الأعظم الذي يقود ويسوس ويقيم العدالة، بينما تقلبات الغرب في مسارها التاريخي، أفضت إلى سلوكه صراطات  فكرية متعددة، أدت في ختامها إلى إزاحة الفكرة الحصرية المزاوجة بين عدالة الفرد وسلطة الفرد، إذ لا عدالة مع سلطة الفرد، هكذا ذهب الغرب في مقولته الختامية، ومن هذه المقولة ذهب الغرب أيضا من سلطة الفرد  كما قال بها  الفارابي  حيث لا ينافسه قانون وكائن  إلى سلطات الدولة التي تخضع  برمتها للمحاسبة والمساءلة.ماذا تعني المحاسبة والمساءلة؟ المحاسبة والمساءلة تعنيان أن السياسة تبدأ من تحت، من ممثلي العموم الذين يراقبون أعمال الحكومات التي تدير المصالح العامة، فإذا أخفقت الحكومات يسقطها مجلس العموم أو مجلس النواب، وإذا أفلحت يمنحها هذا المجلس الثقة  فتستمر في أعمالها، وكذلك هو أمر مجلس العموم، إذ يعطيه العموم ثقة مؤقتة زمنيا، فإن نجح المجلس في مهام مراقبة الحكومة تتجدد له ثقة العموم بعملية انتخابية تالية، وإذا أخل المجلس بطموحات العموم وبمصالحهم، عاقبوه بإستبدال أعضائه أو بقلب الأكثرية إلى أقلية.

تلك هي آليات السياسة  في المدرسة الواقعية، حيث تنطلق عجلة السياسة من تحت بإتجاه فوق، ومن العامة  بإتجاه الخاصة، ومن الأرض إلى الأعلى، فيما المدرسة المثالية تدور في الأعلى دائما، ولا تنزل إلى الأرض، فما يراه الحاكم ـ الفيلسوف هو عين العقل، ورؤيته  تناسب دوما  مصالح الشعب، حتى لو رأى الشعب أن مصالحه لا تتناسب مع رؤية الحاكم ـ الفيلسوف.سبق القول إن المدرسة المثالية تتخذ من عالم المثال الأعلى والرمزيات الكبرى قواعد لعملها ومن دون النظر في تفسيرها  أو في واقعيتها، فهي رمزيات عالية، والأمر نفسه مع الحاكم ـ الفيلسوف، إذ لا ينظر إلى مدى مطابقة قراره أو رؤيته لأرض الواقع ، فإنشغاله بالمُثل  العليا يماهيه مع تلك المُثل، فينتج عن ذلك حجاب يفصل بين عوالم مُثله وبين عوالم الواقع ، أي مصالح الشعب .الآن … ما السياسة ؟ في المدرسة  الواقعية : السياسة هي تنظيم المجال العام  بمستوياته  كافة : القانون ـ الأمن ـ السكن ـ العمل ـ العلم ـ الطبابة ـ الغذاء … إلخ. 

وفي المدرسة المثالية: السياسة تعني  العلو إلى عالم المثال  ومن عناصره: الكرامة ـ العنفوان ـ الشرف  ـ النُبل ـ الفروسية ـ الفضيلة ـ الشجاعة ـ الحكمة ـ القناعة… إلخ. وكما يُلاحظ في مقارنة ثانية بين المدرستين، أن الواقعية تتحرك في مجال المجتمع بهدف تنظيمه وضبطه وتلبية حاجاته، والمثالية تعمل  في مجال الفرد بهدف الإعلاء من شأن روحه، وفيما المدرسة المثالية تعتبر الترفع عن المادة قيمة روحية عُليا، فإن المدرسة الواقعية ترى في تلبية حاجات الإنسان المادية رفعا لقيمة الإنسان ذاته. فارق كبير بين المدرستين، وإذ تجادل المدرسة الواقعية فتقول، إن المدرسة المثالية وعلى الرغم من كونها أقدم عهدا ودهرا وعصرا، فإنها لم تقدم نموذجا رائدا طوال تاريخها، منذ ما قبل التاريخ وإلى التاريخ الذي نحن فيه، ما خلا أفراد قلائل، وهذا يعني أن المدرسة المثالية تأثيرها محدود في دائرة الفرد وليس في دائرة الإجتماع البشري العام، ولو كان للمدرسة المثالية ذاك التأثير الحيوي والعملي، لعرف التاريخ على الأقل، مرة واحدة، مجتمعا فضيلا وحكيما ونبيلا وقانعا، قائما ومبنيا على الرمزيات العالية للمدرسة المثالية.

اقرأ أيضاً: إنتفاضة جنوبية ذات حدين!

وتقول المدرسة الواقعية أيضا، الإنسان مفطور على القلق، قلق المرض، وقلق الأمن، وقلق الغذاء، وكل أنواع القلق تلك، مادية، فالمريض يحتاج علاجا ودواء، والخائف يحتاج سلاحا أو رادعا، والجائع يحتاج غذاء ومأكلا، وكلما غابت أو تقلصت هذه الماديات يرتفع منسوب القلق ويتحول معه الإنسان إلى الشراسة وحدة الطباع ويسلك سلوك الإضطراب، مما يوقع الناس في شر الناس. كيف يمكن كبح جماح الشر ؟يمكن ذلك من خلال العمل على تبديد عناصر القلق أو خفضها إلى حدودها “النفس طبيعية”، فحين يتوفر العلاج تهدأ النفوس، وحين يتأمن الأمن ترتاح النفوس، وحين يجد الناس ما يأكلونه تستقيم نفوسهم ويغادرون حالات الإضطراب التي أنتجها ارتفاع منسوب القلق. وعلى ذلك، تقول المدرسة الواقعية، إن السياسة هي مجموعة الأفعال المعاشة في مجال  المجتمع، حيث يتحسس الأفراد  تلك  الأفعال ويعيشونها من خلال توفير الأمن والدواء والغذاء، ومن خلال توفير الماء النظيف والشارع النظيف والبيئة النظيفة. وبحسب المدرسة الواقعية: أن السياسة لا تعني شيئا إذا فقد الناس أمنهم السياسة لا تعني شيئا إذا لم يجد المرضى أدويتهم السياسة لا تعني شيئا إذا فقد الناس أعمالهم السياسة لا تعني شيئا إذا لم تكن قمحا وطحينا وخبزا.

السابق
دولار السوق السوداء يُحلّق مُجدداً.. الى حدود الـ٩٢٠٠!
التالي
4 ملايين دولار بقبضة أمن المطار.. تشكيك بشرعيتها واتهامات بتمويلها تحركات عنيفة!