مهرجانات لبنان «تطفئ قناديلها»..صوت الأزمات أعلى!

منع المهرجانات

كان اللبنانيون ومعهم السواح، عرباً وأجانب، ينتظرون إطلالة الصيف حتى تنفجر الحياة والفرح في كل المدن والقرى اللبنانية على شكل مهرجاناتٍ فنية ثقافية تشعل حماسة الناس وفرحهم وتُرَسِّخُ صورةَ لبنان كوطنٍ للفن والانفتاح وحلاوة العيش.
لكن الصيف يطلّ حزيناً هذه السنة، وحيداً مُنْكَسِراً وقد انطفأتْ شعلةُ مهرجاناته التي همدتْ حركةُ مسؤوليها وغاب عنها المتابعون الذين انشغلوا بهمومهم اليومية والبحث عن لقمة عيشهم.
هل خبا وهجُ لبنان مع غياب مهرجاناته أم هي مرحلة رمادية قاتمة يتحدّاها البعضُ بعنادٍ وصلابةٍ، فيما ينتظر البعض الآخَر عبورَها بسلامٍ ليستعيد الأمل بصيفيات مقبلة أكثر إشراقاً تُنْذِرُ بقيامةِ لبنان؟

140 مهرجاناً فنياً

صيف لبنان كان يحمل معه ما يقارب 140 مهرجاناً فنياً، تتوزّع بين مهرجانات دولية، كبرى أبرزها بعلبك وجبيل وبيت الدين والأرز والبترون وبيروت وصور وإهدن، ومهرجانات قروية صغيرة وطموحة تمتدّ على مساحة الوطن. لكن غياب المهرجانات الصيفية الكبرى وكذلك مهرجانات القرى الصغيرة عن لبنان هذا الصيف لم يكن مفاجئاً، فالإنذارات كانت قد بدأت باكراً بعيد إنطلاقة الانتفاضة اللبنانية في أكتوبر 2019 حين بدأت الأوضاع تشهد تأزماً معيشياً وبات اهتمام الناس في مكان آخَر منصبّاً على المطالبة بعيش كريم يحفظ لهم حقوقهم.
أول كلام عن مهرجانات الصيف جاء على لسان النائبة ستريدا جعجع، رئيسة لجنة مهرجانات الأرز الدولية، التي أعلنت مع بداية شهر ديسمبر تعليق هذه المهرجانات لصيف 2020 «لأن لا قيمة لأي مهرجان أو عمل فني في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها الشعب اللبناني»، مضيفة: «علينا توجيه جهودنا المعنوية والمادية لمساعدة لبنان والوقوف الى جانب شعبه لتعزيز صموده».

وأعلنت حينها أن فعاليات هذه السنة الفنية ستُستبدل بالسعي إلى تطوير السياحة البيئية، وحماية الثروة الحرجية ولا سيما بعد الحرائق التي أصابت لبنان.

صمود في وجه العواصف

في هذا الوقت كانت معالم الأزمة المالية الحادة قد بدأت تتّضح بشراسة وانعكست على كل مرافق الحياة في لبنان، وكان لا بد أن يكون الفن والثقافة أوّل المتأثرين بها. وحده مهرجان البستان الثقافي الرفيع المستوى ناضل وتشبّث بموعده الشتوي في شهر فبراير وأقام نسخته الراقية لـ 2020 رغم كل الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، مؤكداً أن بيروت تبقى عاصمة الفن والإبداع قادرةً على الصمود في وجه العواصف على اختلافها. واستضاف مهرجان البستان عازفين ومغنّين عالميين قدّموا كل الدعم له وللبنان.
لكن مصير المهرجانات الصيفية لم يكن كمصير «البستان» ولا سيما أن غالبيتها كان يشكو في الأعوام السابقة من صعوبات مادية وغياب أي دعم مالي من الدولة منذ سنوات ثلاث.

بعلبك «تنتقل» الأحد إلى البيوت وتوحّد الشاشات


المهرجانات كانت تنفق من «اللحم الحي» وتتعاقد مع فنانين عالميين وفرق كبيرة وتصْرف بلا حساب لتطلّ على الجمهور بأرقى صورة ممكنة وبأحدث التقنيات، وهو الأمر الذي وضعها في مصاف كبريات المهرجانات العالمية. فالاستمرارية ضرورية ومطلوبة ولو رافقتْها خسائر مالية أو على الأقل ربح محدود جداً.

والجمهور كان متشوّقاً لملاقاة الفنانين العالميين، حتى أن بعض المُغْتَربين والسواح والأجانب كانوا يوقتون موعد مجيئهم الى لبنان ليتزامن مع هذه الحفلة أو تلك ويحجزون تذاكرهم باكراً ليكونوا ضمن جمهورها.
وقد بدأت ملامح التردد تظهر على الجمهور اللبناني منذ الصيف المنصرم حيث بات انتقائياً في اختيار الحفلات التي يشاهدها لا لنقصٍ في الحماسة عنده بل لأنه بات يحسب ألف حساب لأسعار البطاقات والنقل وسواها.

المهرجانات بين الاستمرار والتخبط

تراكمتْ الأزمات خلال 2020 وتَسابقتْ، من جائحة كورونا والتباعد الاجتماعي الذي فرضتْه، وصولاً إلى الأزمة المالية ونقص الدولار والارتفاع الجنوني للأسعار وتراجُع القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما تَرَكَ تداعياتٍ بلا شك على المهرجانات وجمهورها.

تداعيات شبه مدمّرة حاول وزير السياحة رمزي مشرفية الحدّ منها فدعا مسؤولي المهرجانات الى اجتماع في الوزارة للبحث في أساليبَ تعيد ضخ الحياة في شرايين المهرجانات.

إقرأ أيضاً: خوفاً من إنكشاف «الدفاتر القديمة»..تواطؤ أكثري لتطيير المفاوضات مع «الصندوق»!

حياةٌ تحتاج الى أمصال لتستمرّ وهي في رأي الوزير تتلخص بالاستعانة بفانين لبنانيين وفرق تقنية لبنانية تقدّم مجهودها وعملها مجاناً لإعادة إحياء السياحة في لبنان وتحريك العجلة الاقتصادية المُرافِقة لها.

وقد خرج الاجتماع بضرورة إعداد نشاطات مختلفة تسمح بحضور جمهور محدود العدد بما يتماشى مع قواعد السلامة العامة واحترام التباعد الاجتماعي بدءاً من شهر أغسطس، وقد لا تكون على مستوى الأعوام الماضية لكنها تساهم في الحفاظ على ديناميةٍ سياحية ما.
لكن الاستجابة الى توجهات الوزير جاءت ضعيفةً، لا لعدم رغبةٍ لدى المسؤولين عن المهرجانات في الاستمرار بها بل لصعوبات جمة يستحيل تخطيها.

لكن مهرجانات بعلبك وجدتْ ما يشبه الحل، وهو ليس حلاً بقدر ما انه «صمود» كما تقول لـ «الراي» السيدة نايلة دو فريج رئيسة لجنة المهرجانات، «فبعلبك هي رمز للبنان وهي عالَمٌ ثقافي وحضاري وسياحي لا يمكن أن يغيب».
وتشرح دو فريج «كيف أن الناس في الحجْر ضاقت أنفاسهم و أرادوا أن يُطْلِقوا بأعلى صوتهم صرخة أمل وصمود فجاء حفل مهرجانات بعلبك في الخامس من الجاري (الأحد) صدى لصرخاتهم».

حفلٌ حمل عنوان The Sound Of Resilience أو صوت الصمود للمايسترو هاروت فازليان، وهو الأول من نوعه عالمياً بعد جائحة الكورونا من حيث حجم المشاركين فيه الذي بلغ 150 شخصاً بين عازفين وكورال.

وقد أرادته لجنة المهرجانات مناسبة للاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لاعلان دولة لبنان الكبير.
وتقول دو فريج: «حين وجدْنا أننا قادرون على الذهاب الى بعلبك ومعبد باخوس بالذات أردْنا أن يكون الحفل من قلب مدينة الشمس، ليجتمع التاريخ مع الثقافة والفنون في حفل مباشر فريد من نوعه.

اتصلنا بالقنوات التلفزيونية لنرى مَن منها مستعدّ لنقل الحفل، فإذ بها كلها تتجاوب باندفاعةٍ كبيرة واتفقنا على ان تقوم قناة واحدة بتصوير الحفل ليتم نقله مباشرةً على جميع القنوات المحلية ووسائل التواصل من دون حضور جمهور بالطبع وضمن معايير الوقاية اللازمة من فيروس كورونا.

لقد شئنا الذهاب الى بيوت الناس بدل أن نطلب إليهم القدوم إلينا في هذا الظرف الصعب».

صوت الصمود

ألم يمكن تمويل حفل بهذه الضخامة أمراً صعباً؟ تجيب: «رغم ضخامته وحرفيته فإن تكلفة الحفل جاءت بسيطة، لأن الجميع قدّموا خدماتهم مجاناً. فلدينا علاقاتنا الطويلة مع كل القطاعات الفنية والثقافية والموسيقية في لبنان، وقد تجاوب معنا الجميع فنياً وتقنياً رغم أنني أنا شخصياً ضد أن يعمل هؤلاء بلا مقابل بل يجب عليهم أن يعتاشوا من موهبتهم. لكن الظروف المالية والصحية دفعتْ بنا الى هنا وخصوصاً في غياب الرعاة التجارييين المعتادين للمهرجان.

إلا أن ثمة صديقيْن للمهرجان ساهما على نفقتهما الخاصة بجزء من التكاليف، أما مساهمة الحكومة فقد نسيناها منذ زمن ولا سيما أن لنا عندها ثلاث سنوات من المساهمات المالية غير المدفوعة، كما أن اهتماماتها اليوم في مكان آخَر».
وأضافت: «لا شك في أن حال لبنان مُبْكِية، وحال المهرجانات من حال الوطن ولكن الإحباط غير وارد. لقد أقمنا حفلات في ظروف أصعب.

ولا يمكن أن ننسى حرب يوليو 2006 وحفل السيدة فيروز حينها، ولا حفل ابراهيم معلوف الذي جرى على وقع الرصاص والانفجارات القريبة. وكان 2016 بصعوباته عاماً ذهبياً.

وقد واجهنا تحديات كبيرة جداً في السابق لكننا استمرينا، أما اليوم فالأزمة خانقة وفي غياب أي تمويل لا أدري كيف يمكننا المضي قدماً. كنا نعرف ان المهرجانات هذا العام ستكون أصغر من السابق، وألغينا حفلاً موسيقياً مهماً كنا نتفاوض معه منذ ثلاث سنوات.

لكننا شئنا الحفاظ على رسالتنا ووجهنا الثقافي بحفل»صوت الصمود«لبناء مستقبل أفضل».
وسيشارك في هذا الحفل الاوركسترا الفلهارمونية اللبنانية مع جوقة الجامعة الانطونية، وجوقة جامعة سيدة اللويزة وجوقة الصوت العتيق وموسيقيون لبنانيون شباب بقيادة المايسترو هاروت فازليان، بالاضافة الى مشاركة رفيق علي أحمد.أما السينوغرافيا التي يتخللها صور من الأرشيف وإبداعات بصرية فهي لـ جان لوي مانغي.

هل تكون المهرجانات المحلية هي الحل؟

توجهنا الى رئيس لجنة مهرجانات جبيل المحامي رافايل صفير نسأله عن واقع مهرجانات بيبلوس لهذه السنة. وبحسرة مشوبة بالغضب يخبر «الراي» أنه كرئيس لجنة مهرجانات بيبلوس «غير قادر على القيام بشيء هذا العام وما طرحه وزير السياحة غير عملي ولا يمكن تنفيذه.

فالفنانون المحليون غائبون عن السمع والتقنيون غير مستعدين للعمل مجاناً وتعريض معداتهم للعطب أو الكسر، وإنشاء المسرح وحده يتطلب كلفة خيالية تقارب 600000 دولار.

مصادر التمويل كلها غائبة، فلا الدولة قادرة على المساهمة بل هي غائبة عنها منذ سنوات ولا الرعاة موجودون، والناس بدورهم غير قادرين على شراء البطاقات».
وأضاف صفير: «منذ سنوات ونحن نعاني وبتنا مديونين، ولم تلغِ الدولة أي ضرائب عنا وخصوصاً أن المهرجانات بالكاد تردّ كلفتها، وربحها غير موجود بل يمكن التحدث عن خسارة.

لا يمكننا التراجع عن المستوى الذي وصلنا إليه وتحويل المهرجان الى»كرمس«قروي نقيمه في ساحة أو حديقة عامة. نودّ المشاركة بالطبع في الدفع بعجلة السياحة قدماً لكننا في الواقع غير قادرين على ذلك.

لقد راجعْنا العديد من الفنادق والمطاعم في المنطقة لكن الجميع غير متحمسين للإنفاق على التجهيزات مقابل وعد بربح غير مضمون ابداً».
وتابع: «مصاريف المهرجانات كبيرة ولا سيما إذا أردنا التعاقد مع فرق عالمية. فحتى تأمين الفيزا لهؤلاء ارتفعت كلفته من 25000 ليرة الى 550000 ليرة هذا عدا رسوم» الساسيم «وصندوق تعاضد الفنانين التي يجب دفعها قبل الحفل، وكذلك الضرائب والرسوم. العام الماضي اضطررنا لإلغاء حفلين كبيرين لأسباب معروفة وهذا العام كنا قد تعاقدنا مع الفنانة العالمية الكبيرة سيلين ديون لكننا ألغينا التفاوض إثر انتفاضة اكتوبر، وبعد جائحة كورونا ألغت ديون جولتها العالمية».

الانتظار سيد الموقف
أسماء كبيرة غابت عن لبنان هذا الصيف: كاظم الساهر الذي لم يغب منذ أكثر من 15 عاماً، ماجدة الرومي، جوليا، شيرين عبد الوهاب، وغيرهم الكثيرين.

فنانون لبنانيون متردّدون، خائفون، ينتظرون ما ستؤول إليه أوضاع البلد الاقتصادية من جهة وجائحة كورونا من جهة أخرى. فهم مواطنون لبنانيون في النهاية يعيشون حالة الإحباط ذاتها التي يعيشها مواطنوهم. مهرجاناتٌ عديدة ما زالت تلتزم الصمت المطْبق بشأن ما يمكن أن تقوم به من نشاطات: بيت الدين، البترون، إهدن وغيرها.

حتى مهرجانات القرى الصغيرة لم تستعدّ بعد رغم إعادة فتح المطار وتوقّع وصول المغتربين. الانتظار سيد الموقف والميزانيات في حال وجودها مختصَرة الى أبعد حد ولا تنبئ بنشاطات على مستوى متقدّم من الحرفية، والناس رغم شوقهم الى العودة للحياة منشغلون بهمومهم المعيشية فيما الإخوة العرب والسواح لم يحزموا أمرهم في العودة الى لبنان بعد.
فهل تكفي بعض الحفلات المحلية لإعادة الرهجة الى مهرجانات لبنان أم تبقى حرفاً ناقصاً في روزنامة الصيف المعتادة؟

السابق
أسرار الصحف اللبنانية الصادرة ليوم السبت 4 تموز 2020
التالي
بالفيديو: الإنتفاضة ضد حكومة التجويع والإنتحار مستمرة..قطع طرق صباحي احتجاجاً!