بين «وصية» محسن إبراهيم و”تقية” حسن نصرالله!

محسن ابراهيم وعرفات وكمال جنبلاط

“الخطأ الأول كان إن الحركة الوطنية في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل ، طاقة وعدالة وإنصافاً . الخطأ الثاني هو إستسهالنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم إختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي غير آخذين بالإعتبار التركيبة الداخلية اللبنانية ” . كلمات قليلة مختصرة للراحل الكبير محسن إبراهيم الذي غادرنا مؤخرا، قالها في العام 2005 بمناسبة مرور أربعين يوما على إغتيال رفيق دربه وتوأمه الثوري والمقاوم جورج حاوي، وهي مناسبة تختصر أسلوب ممارسة يناقض بدمويته وعنفه وشموليته، مارسته الجماعات التي من المفروض أنها “ورثت” النضال وتصدت له منفردة بعد تجربة محسن إبراهيم وجورج حاوي، يناقض تماما ما ذهبت إليه كلمات محسن إبراهيم من نقد ذاتي وعصارة فكر ونضال وتجربة غنية وإحساس وطني وإنساني. 

اقرأ أيضاً: الإفتراء على السيد الأمين «لن يمر مرور الكرام»!

سلطة فاسدة

نتذكر هذه الكلمات وعمقها لأنها تعبر عن واقع كلفنا وكلف لبنان ولا يزال الكثير من التضحيات، نتذكرها ونحن في أتون أزمة ناجمة عن سوء تخطيط سياسي وإقتصادي أولاً من قبل سلطة فاسدة، وسوء تقدير للعواقب وممارسات أقل ما يقال فيها أنها غير سوية ثانياً يقوم بها من نصب نفسه مرشدا للدولة اللبنانية ضاربا عرض الحائط بكل ما فيها من مؤسسات وطنية غير عابئ بما تخلفه هذه الممارسات من مآسٍ على اللبنانيين أجمعين من حيث تأثيرها على حاضرهم ومستقبل أولادهم جراء إدخال لبنان في سياسة المحاور الإقليمية وتحميله مرة أخرى من الأعباء ما لا يطيق وهذه المرة ليس دعما لنضال الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من حيث هي قضية عربية بل دفاعا عن مشروع أمبراطوري فارسي يتلطى وراء شعارات إيديولوجية إسلامية في الساحات العربية السنية، وشعارات مذهبية في ساحات الشيعة العرب، وعن محور يعتنق الممانعة ويمارسها سبيلا للمساومة وعقد الصفقات الرابحة على حساب شعوب المنطقة ومستقبلها وهذا ما يتجلى في ساحات لبنان وسوريا والعراق واليمن. 

إن أهمية كلمات محسن إبراهيم أنها تصلح اليوم كي تكون وصية ودرس للمتعاطين بالشأن العام لأنها صادرة عن إنسان ربما الوحيد في هذا الشرق الذي أنسحب من ساحة الممارسة السياسية عندما وجد أنها تخالف مبادئه التي ناضل في سبيلها سنين طويلة وهو الذي كان من الممكن أن يستمر نجما من نجوم السياسة لو أنه بدَّل من قناعاته كما فعل الكثيرون غيره ، لكنه رفض وإنسحب ليجري مراجعة نقدية لفترة من أقسى وأغنى وأخطر الفترات في تاريخ الشرق الأوسط عامة والقضية الفلسطينية بشكل خاص ناهيك عن صراع التيارات الفكرية والإيديولوحية المختلفة في أزهى صورها ومراحلها ، هذه الفترة التي بدأت بعد النكسة في العام 1967 وإنتهت بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد الإجتياح الصهيوني لبيروت. 

الحرب الباردة

في هذه الفترة كانت هناك الحرب الباردة بين قطبي العالم يومها أميركا والإتحاد السوفياتي بما يمثلان من أحلاف كحلف الأطلسي وحلف وارسو ، وكانت القوى القومية واليسارية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية مدعومة من جانب الإتحاد السوفياتي الذي إتخذته صديقا وحليفا في وجه “الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية”، وكان هناك من الشخصيات العربية الكبرى من كانت تحظى بالإحترام الكبير والواسع ضمن هذه المنظومة التي كانت تسمى بالمعسكر الإشتراكي من بينها جمال عبد الناصر وهواري بومدين وياسر عرفات، ومن لبنان كان كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي وغيرهم من الشخصيات السياسية والفكرية الوازنة. كانت الآمال كبيرة وعريضة وكان الحماس الشعبي العربي ما زال متقدا نصرة لفلسطين أولا ولقضية الوحدة القومية العربية ثانيا، وكانت التضحيات جسام خاصة إبان الحرب الأهلية اللبنانية والعربية على أرض لبنان التي شهدت أولى المساومات عبر ما سمي يومها إتفاق الأسد – مورفي الذي قضى بدخول قوات النظام السوري إلى لبنان للتصدي للقوات اللبنانية – الفلسطينية المشتركة بموافقة إسرائيلية على أن لا تتجاوز القوات السورية نهر الأولي وهكذا كان، وسط قبول عربي وصمت سوفياتي وكان التخلي عن الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية وتركها لمصيرها أمام قوات النظام السوري التي كعادتها لاحقا لم تقصر في إرتكاب الفظائع ومن يقرأ عن أحداث تلك الفترة يلمس مدى خيبة الأمل والإحباط الذي أحاط بالراحل الكبير كمال جنبلاط في آخر جولاته على الدول العربية التي لم يخرج منها سوى بنصيحة من الرئيس المصري أنور السادات بعدم العودة إلى لبنان والبقاء لاجئا في مصر لأنه موضوع على لائحة الإغتيال هو والعميد ريمون إده، الأمر الذي رفضه الزعيم جنبلاط مفضلا العودة والموت بين أهله ومحبيه ورفاقه المناضلين.

“نحلم” بأن يخرج من بينهم قريبا رجل عاقل كمحسن إبراهيم ليقول أن المقاومة الإسلامية في معرض دعمها المشروع الإسلامي في المنطقة عليها أن لا تحمِّل لبنان من الأعباء المسلحة ما لا يطيق

أغتيل كمال جنبلاط، وإستقرت القوات السورية في لبنان، قام أنور السادات بزيارة القدس المحتلة الأمر الذي أعاد الحرارة نسبيا للعلاقات بين النظام السوري والفلسطينيين وحلفاءهم في الحركة الوطنية اللبنانية ، تركت زيارة السادات لإسرائيل تداعياتها على الساحة اللبنانية حيث الوجودين السوري والفلسطيني وبات لبنان ساحة الصراع في الشرق الأوسط، أستؤنف الصراع الداخلي اللبناني بالسياسة تارة وبالمدفع تارة أخرى وكانت عملية كمال عدوان التي نفذتها الشهيدة دلال المغربي على الطريق الساحلية بين حيفا وتل أبيب والتي أسفرت عن مصرع 36 قتيلا صهيونيا فكان الرد بإجتياح الجنوب اللبناني وصدور القرار 425 الذي يدعو لإنسحاب إسرائيل ونشر قوات الأمم المتحدة في الجنوب وهو القرار الذي لم تنفذه إسرائيل بالكامل فأقامت منطقة عازلة أسمتها الجدار الطيب وسلمتها للضابط المنشق عن الجيش اللبناني سعد حداد، وهي المنطقة التي ستعرف لاحقا بالشريط الحدودي والقوات بجيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد بعد وفاة سعد حداد وتوسيع الجيش ليشمل مجندين من الطائفة الشيعية.

اختفاء السيد موسى الصدر

بعد الإجتياح وأثناء زياراته للدول العربية لحشد الدعم للجنوب، قام السيد موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بزيارة لليبيا حيث فقد أثره هناك وعجزت كل المداخلات والمحاولات عن كشف سر إختفائه ما ترك أبلغ الأثر على الطائفة الشيعية في لبنان عامة والجنوب خاصة لما كان له من مكانة كبيرة في قلوب أبناء الطائفة فكان غيابه نقطة تحول وليس من المبالغة القول بأنها كانت لحظة خروج الشيعة بغالبيتهم من الفضاء العربي بالمعنى السياسي إلى العودة للتقوقع ضمن الطائفة في بلد يحكمه نظام قائم على التوازنات الطائفية، فكان الصدام بين حركة أمل وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية على أرض الجنوب جراء بعض التجاوزات ضد المواطنين على الأرض في ظل تفشي السلاح وكذلك جراء الخسائر التي مني بها الجنوبيون الناجمة عن الرد الصهيوني على كل عملية فدائية أو إطلاق صاروخ من جانب القوات المشتركة ضد إسرائيل وهو ما كان يرى فيه الجنوبيون عبئا لا طاقة لهم على حمله – وهذا ما أشار إليه محسن إبراهيم في مراجعته موضوع الحديث – هذه التطورات إستغلها النظام السوري أحسن إستغلال في صراعه مع الجانب الفلسطيني الذي كان مصرا على الإحتفاظ بإستقلالية قراره في وجه النظام السوري، فضلا عن فقدان الكيمياء الشخصية إن لم نقل الكراهية الشخصية بين حافظ الأسد وياسر عرفات ، فكان أن إحتضن النظام السوري حركة أمل خاصة وأن إرهاصات الثورة الإسلامية الشيعية في إيران كانت قد بدأت تعطي ثمارها، وهكذا كان إنتصرت ثورة الخميني وبدأت الحرب العراقية – الإيرانية التي إتخذ فيها النظام السوري موقفا مؤيدا لإيران على عكس الموقف الفلسطيني الذي كان أقرب إلى العراق ما أجج الموقف أكثر في لبنان والجنوب فأقتنص النظام السوري الفرصة مرة أخرى ليصفي غريمه حزب البعث فرع العراق الذي كان له الكثير من المريدين في لبنان والجنوب خاصة، وكان الإجتياح الصهيوني عام 1982 الذي أخرج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وسط تخاذل عربي أللهم إلا من بعض البيانات، وعجز سوفياتي وصل درجة التغاضي والسكوت عن إحتلال الجيش الإسرائيلي للسفارة السوفياتية في بيروت، وأخرج القوات السورية من بيروت والمناطق إلى البقاع وكانت الخيبة الثانية ، ليطلق بعدها محسن إبراهيم وجورج حاوي في السادس عشر من أيلول من العام 1982 نداء المقاومة الوطنية اللبنانية وكان الشرارة الأولى لإطلاق مقاومة وطنية شريفة إستطاعت بجهود قادتها وإيمان مناضليها من تحرير غالبية الأراضي اللبنانية المحتلة بمشاركة فاعلة عسكرية وشعبية من حركة أمل قبل أن تتحول المقاومة بفعل التطورات الإقليمية ودخول إيران على خطها عبر مجموعات الحرس الثوري بداية ومن ثم حزب الله، وبالإتفاق مع النظام السوري إلى مقاومة إسلامية شيعية حصرا إستطاعت بتضحيات كبرى لا ينكرها أحد تحرير الشريط الحدودي المحتل عام 2000، لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من قوة إقليمية كبرى تحارب في سوريا ولها إمتدادات في العراق واليمن، الأمر الذي ترك آثاره على لبنان ووضعها في مواجهة مع فئة كبيرة من اللبنانيين ترفض الدخول في صراع المحاور ما أدى إلى إهتزاز الوضع السياسي الداخلي، ووضع لبنان كذلك في مواجهة مع الدول العربية الخليجية منها على وجه الخصوص، ما أثر سلبا على الوضع الإقتصادي والمالي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من شبه إنهيار تام على كل المستويات، واليوم ومع صدور قانون قيصر الخاص بحماية المدنيين السوريين وما يرتبه من إلتزامات على لبنان يجد لبنان نفسه في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية كرمى لعيون نظام الأسد والإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وهذا ما يعيدنا إلى قراءة محسن إبراهيم في الشق الأول من كلامه والذي يبدو أن القابضين على أمور البلد والناس هذه الأيام ليسوا بوارد الإستفادة من التجربة، في الوقت الذي لم يعد الداخل اللبناني متفقا حول ما تفعله هذه المقاومة الممثلة بحزب الله سواء في الخارج أو في لبنان بعد أن إستخدمت سلاحها في الداخل في العام 2008 بغض النظر عن المبررات وما تفعله في مواجهة فعاليات الثورة منذ إنطلاقتها خاصة شعار مريديها الشهير شيعة شيعة، وما حصل مؤخرا في 6/6 ليس عنا ببعيد وهذا ما يوحي بإستسهال ركوب سفينة الحرب الأهلية بدافع ربما من الغرور الذي يتيحه فائض القوة ولو على سبيل التهويل، وهو الخطأ الثاني الذي أشار إليه محسن إبراهيم في كلامه بداعي عدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى، ولكن يبدو أيضا أن هذه المقاربة ليست موضوعة في حساب القيمين على الوضع، فالأهم بالنسبة إليهم هو المشروع الإيديولوجي الذي يعتنقونه وهم جزء لا يتجزأ منه والذي يعتقدون  أنه سيحقق آمالهم غافلين عن أن هذه المشاريع الكبرى هي بالنهاية ملك أصحابها الذين لا يترددون بالتضحية بأي كان في سبيل تحقيقها خاصة بالأدوات التي هي في النهاية دورها أن تكون رأس حربة في الهجوم على الخصم، وخط دفاع أول عن الحليف عندما يقتضي الأمر ذلك وكبش محرقة عند أي إتفاق أو تقارب بين أصحاب  المشاريع المتضاربة، فهل نطمع بعودة الوعي قبل فوات الأوان، أم سيأتي علينا يوم قد نسمع كلام من أحدهم على غرار لو كنت أعلم، أم “نحلم” بأن يخرج من بينهم قريبا رجل عاقل كمحسن إبراهيم ليقول أن المقاومة الإسلامية في معرض دعمها المشروع الإسلامي في المنطقة عليها أن لا تحمِّل لبنان من الأعباء المسلحة ما لا يطيق، وعلينا عدم إستسهال ركوب سفينة الحرب المذهبية التي إذا ما إستعرت لن تبقي ولن تذر ، بل علينا الأخذ بالإعتبار التركيبة الداخلية للبنان؟

اقرأ أيضاً: «حزب الله» يحثّ على «الحصائد» وهو يغني القصائد!

حلم يبدو أنه سيبقى بعيدا عن الواقع والمنال خاصة مع إستمرار التغول على اللبنانيين الأحرار خاصة الشيعة منهم لكسر إرادتهم لرفضهم الإلتحاق بالمشروع الإيراني، وما الدعوى المقامة على السيد علي الأمين اليوم إلا عينة ودليل على ما نقول، فهم لم يغفروا له بعد وقوفه بوجه مشروعهم الفارسي في منتصف الثمانينات إبان الصراع بينهم وبين أمل يومذاك يوم كان رئيسا لمؤسسات الإمام الصدر، ولكن لعبتهم مكشوفة وإتهاماتهم باطلة، وإذا كان للباطل جولة، فللحق ألف جولة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.     

السابق
أكثر من 300 شخصية يهبّون لنصرة العلامة الأمين: عبثاً يحاولون!
التالي
عاصفة إستنكار للادعاء على العلامة الأمين..تحرك قضائي عاجل لمحاسبة المُفبركين!