الغضب الساطع آتٍ

مكافحة الفساد
"عجبت لمن يدخل بيته ولا يجد فيه قوتا كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" ـ قول منسوب إلى أبو ذر الغفاري.

الغضب الساطع آت. سيأتي هذه المرة على جياد الجوع والفقر والقهر. شابات وشباب لبنان الذين انتفضوا في الخريف وحوّلوا سماواته الداكنة إلى ومضة أمل، أو كما يقال في وصف الثورات المفاجئة “لحظة حماسية”، لم يدركوا آنذاك أنهم مقبلون على شتاء أسود، زادت من قتامته وقسوته جائحة كورونا. 

للمرة الأولى منذ قرن، يقف حوالي نصف الشعب اللبناني على حافة الجوع. هذا ما تؤكده الإحصائيات الباردة: 48 بالمئة من اللبنانيين يعيشون تحت حافة الفقر. لا نستطيع أن نقول إن التاريخ يعيد نفسه. ولكن الأوضاع المأساوية التي تعصف بلبنان والمشرق اليوم تشبه في بعض تجلياتها التجارب المرّة التي عاشها جبل لبنان ومناطق أخرى في شرق المتوسط خلال الحرب العالمية الأولى، بسبب الحصار الذي فرضه الحلفاء على مرفأ بيروت وقرار جمال باشا قائد الجيش العثماني الرابع منع وصول إمدادات القمح من سوريا إلى لبنان، وموجة الجراد التي اجتاحت المنطقة. هذه الكوارث أدت إلى وفاة أكثر من مئتي ألف نسمة، وبقيت تردداتها تعيث الخراب في مختلف أوجه الحياة في لبنان لعقود لاحقة.

حتى قبل جائحة كورونا كانت أخبار لبنان والمنطقة مخيبة ومحبطة. أنظمة وتقاليد قمعية وانغلاقية، ثقافة فساد سيطرت على جميع الأنشطة الاقتصادية والمالية والإدارية تمت شرعنتها خلال عقود طويلة من الممارسات وأصبحت جزءا عضويا من “تقاليد” هذه المجتمعات. اضطرابات سياسية، وانتفاضات شعبية، بدأت سلمية، سرعان ما تمت عسكرتها على أيدي الأنظمة الأوتوقراطية، وحركات إسلامية ظلامية تلتقي مع الأنظمة الفاسدة في عدائها لأي تمكين حقيقي لشعوب المنطقة. 

في العقد الثاني من القرن العشرين، كانت مناطق واسعة في لبنان والمشرق أرضا يبابا تعيش في خوف من المجهول السياسي والاقتصادي. في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين كانت ـ ولا تزال ـ مناطق واسعة في المشرق أرضا يبابا، بالمعنيين الرمزي والحقيقي للعبارة، بعد سنوات عجاف من الحروب والنزاعات الأهلية والقتل الجماعي والترهيب والاقتلاع القسري والتهجير في سوريا والعراق، وغيرها من المجتمعات، بما فيها لبنان، التي لا تزال تعيش في خوف من المجهول السياسي والاقتصادي. 

اقرأ أيضاً: بالفيديو.. الشيخ العاملي لـ«المجلس الشيعي»: ساعدوا الفقراء من ميزانيتكم الضخمة!

جائحة كورونا، كلفت السعودية عائدات الحج الهامة، بعد أن اضطرت إلى إلغاء موسم الحج، وهو إجراء جذري اتخذ آخر مرة في سنة 1798 حين غزا نابليون بونابرت مصر

هذه المجتمعات كانت “منكوبة” وعلى حافة وضعها في العناية الطبية الفائقة، قبل جائحة كورونا. اقتصاد لبنان، (وهذا يمكن أن يقال عن اقتصادي سوريا والعراق) ليس في حالة ركود أو حتى كساد يمكن للمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو أي مجموعة دول مانحة أن تعالجه، لأن هذه الاقتصاديات هي عمليا في حالة موت سريري.

مأزق لبنان الراهن سوف يزداد تفاقما لأنه يعيش وسط منطقة مضطربة بأكملها، بسبب تزامن جائحة كورونا، مع الانهيار التاريخي لأسعار النفط في العالم، وهو انهيار كان سابقا للجائحة، التي سرّعت من وتيرته. دول الخليج المصدرة للنفط سوف تعتمد على صناديق السيادة التي استثمرت بها منذ عقود، ولكن جميع ميزانياتها سوف تعاني من عجز كبير هذه السنة وفي السنة المالية القادمة وخاصة السعودية، التي أقرت ميزانيتها للسنة الحالية بناء على بقاء سعر برميل النفط حوالي 80 دولار.

جائحة كورونا، كلفت السعودية عائدات الحج الهامة، بعد أن اضطرت إلى إلغاء موسم الحج، وهو إجراء جذري اتخذ آخر مرة في سنة 1798 حين غزا نابليون بونابرت مصر.

لم يكن من المستغرب أن تعترف الحكومة اللبنانية حين قدمت في الشهر الماضي لصندوق النقد الدولي خطتها الإصلاحية، لإقناع الصندوق أنها جادة بالإصلاح نظرا للشكوك المزمنة والموثقة بالتزامات ووعود الحكومات السابقة، أن “الاقتصاد اللبناني في حالة انهيار غير مضبوط”. 

في السنوات القليلة الماضية وصلت قيمة الدين العام إلى حوالي 179 بالمئة من مجموع الناتج الوطني، ما أدى إلى انكماش الاقتصاد في السنة الماضية بنسبة 6.9 بالمئة من مجموع الناتج الوطني، ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد في السنة الحالية إلى 13.8 بالمئة، بحسب خطة الحكومة اللبنانية التي قدمت لصندوق النقد الدولي. 

وفي السنة الماضية اكتشف اللبنانيون أن ربط الليرة بالدولار، والذي جلب معه معدلات فوائد غير واقعية وتضليلية كان أكبر كذبة جماعية عاشها لبنان في العقود الماضية، لأن المصارف لم تعد قادرة على دفع هذه المعدلات الاصطناعية من الفوائد بعد انحسار الإيداعات بالعملات الصعبة، ما أدى إلى تبخر السيولة بالدولار. 

الاقتصاد اللبناني الذي لا يصنع محليا أي شيء ذو قيمة تصديرية يمكن أن تجلب له العملة الصعبة وضع نفسه رهينة للمستثمرين وغيرهم من اللبنانيين في المهجر الذين كانوا يودعون دولاراتهم في المصارف اللبنانية لقاء فوائد عالية، والتي كان يستخدمها المصرف المركزي لتمويل احتياجات لبنان الضرورية من السوق العالمي. 

اللبنانيون كانوا دائما يفتخرون “بسرية المصارف”، ولكن هذه العبارة اكتسبت معنى جديدا، لأن هناك سرية شبه كاملة تحيط بعمل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الموجود في منصبه منذ 1993. “شطارة” رياض سلامة أدت إلى توفير قروض لدولة مفلسة عمليا وصلت إلى 70 بالمئة من عائدات المصارف اللبنانية، حيث تقدر خسائر هذه المصارف بأكثر من 83 مليار دولار، إضافة إلى خسائر المصرف المركزي التي قدرت قيمتها بـ 44 مليار دولار، وفقا لصحيفة فايننشال تايمز.

هذه الفهلوية المالية الإجرامية على المستوى الرسمي أدت إلى الممارسات والسياسيات المصرفية التعسفية التي فرضت على اللبنانيين في الأشهر الماضية. طبعا القطاع المصرفي بحاجة إلى إصلاح جذري، ولكن ما تفعله الحكومة اللبنانية الآن، تحت عنوان إرغام المصارف على إعادة هيكلة نفسها ورأسمالها، لجذب استثمارات جديدة، هو حرمان المودعين اللبنانيين من حقهم بسحب إيداعاتهم، بالعملة الأصلية التي أودعوها في المصارف. 

هذه العوامل، تجعل الأمل بحدوث تغيير سياسي سلمي في لبنان في المستقبل المنظور أمرا بعيد المنال. وهذا يؤدي بنا إلى الغضب الساطع

القرار الاعتباطي بتحويل الإيداعات بالدولار إلى الليرة بعد أن تم نحرها بالنصف وبعد أن فقدت حوالي 60 بالمئة من قيمتها خلال ثلاثة أشهر، هو بمثابة ابتزاز رسمي وعلني تقوم به الطبقة المالية ـ السياسية الحاكمة، والمفترسة بامتياز للشعب اللبناني. 

هذه دولة مارقة “تحلق” أموال وحقوق كل لبناني لديه مدخرات بسيطة في مصرف محلي. ما نراه اليوم في لبنان، هو الموت البطيء لما تبقى من الطبقة الوسطى، وهي الطبقة التي كانت تاريخيا غنية بطاقاتها ومهاراتها والتي ميزت لبنان منذ الحرب العالمية الثانية. حتى الواحة الأميركية التي يعرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر باسم الجامعة الأميركية في بيروت والتي علمت أجيالا من الطلاب والطالبات من لبنان ومحيطه القريب وحتى البعيد، تواجه اليوم، كما قال رئيسها “ربما أكبر أزمة منذ تأسيسها في 1866”.

سوف يكون من الصعب على لبنان أن يحصل على المساعدات التي طلبها من صندوق النقد الدولي والبالغة 10 مليارات دولار. العلاج الذي يوفره الصندوق عادة يأتي بعد إصلاحات جدية وموجعة من الدولة الطالبة للمساعدات. الحكومات السابقة كانت تعد بالإصلاح ولكنها لم تقم به. وليس من المتوقع من حكومة عراّبها ائتلاف فاسد ومارق مؤلف من ميليشيا تعتبر جزءا عضويا من المنظومة العسكرية الإيرانية وتسمي نفسها “حزب الله”، ومن تيار سياسي مضطرب أسسه جنرال دونكيشوتي فاشل ومسنّ اسمه ميشال عون، أصبح رئيسا للبلاد، على الرغم من أن العديد من اللبنانيين يشكّون بقدراته الذهنية، أن تنفذ أي إصلاحات بنيوية وجدية تحظى بمباركة صندوق النقد الدولي.

في السابق كان لبنان خلال أزماته المالية يعتمد جزئيا على المساعدات من دول الخليج العربية وتحديدا السعودية، إضافة إلى الولايات المتحدة. ولكن السعودية في حقبة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والولايات المتحدة في حقبة الرئيس دونالد ترامب، ينظران إلى لبنان اليوم على أنه دولة ضعيفة فقدت الكثير من أهميتها الإقليمية وتدور في فلك إيران ويتحكم بحاضرها ومستقبلها القريب “حزب الله”. 

في الماضي، كان هناك احتياط من النوايا الحسنة تجاه لبنان في الكونغرس والأجهزة البيروقراطية الأميركية وفي المجتمع المدني ككل. هذا الاحتياط تبخر إلى حد كبير حتى قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض.

الغضب الذي شهدته شوارع بيروت وطرابلس، ودفع بالعديد من اللبنانيين لأن يخرجوا من جحرهم الصحي ويجازفوا بحياتهم، لأنهم لا يعرفون ما هو أخطر على أرواحهم جائحة كورونا، أم جائحة اقتصاد لا يعرف الرحمة. إحراق المصارف، والمواجهات الأولية بين المتظاهرين والجيش وقوى الأمن، هي الشرارة التي ستسبق الحريق الكبير. ويبدو أن هذه الحكومة اللبنانية، مثلها مثل الحكومات السابقة سوف تزج الجيش، بجنوده الذين يعانون كما يعاني المتظاهرون من ضائقة مالية خانقة، في مواجهات قد تكون كارثية، لأن واجب الجيش، في أي دولة تستحق الاسم، هو حماية الوطن والمواطن من الأخطار والتهديدات الخارجية، وليس استخدامه كأداة قمع في يد الحكومة وضد الشعب.

عندما يستمعون إلى شكاوى أحبائهم وأطفالهم وأهلهم المحرومين من الغذاء والدواء، سوف ينزلون إلى الشوارع دون خوف من جائحة كورونا، أو حراب “حزب الله”

تظاهرات الخريف الماضي، على الرغم من أهميتها السياسية والرمزية، والتي أبرزت وجود فئة لبنانية واسعة ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والدينية تطالب بتغيير نوعي في النظام السياسي اللبناني البالي والمختلف وغير المنصف. ولكن التظاهرات لأسباب عديدة، لم تتحول إلى حركة سياسية قادرة على فرض قانون انتخابي جديد، والتقدم بلوائح لمرشحين يمثلون المطالب الرئيسية للانتفاضة في مختلف المناطق اللبنانية، والعمل مع اللبنانيين في الداخل والخارج للخروج بوسائل خلاقة لتمويل الحملات الانتخابية لمواجهة أموال الاوليغارشية والإقطاع السياسي المتجذرة. هذه ربما الوسيلة السلمية الرئيسية التي تعد بتحقيق تغيير نوعي في الجسم السياسي اللبناني.

الحركات الاحتجاجية التي لا تغير أو تعدل جذريا البنية السياسية الحاكمة، لا ترقى إلى مستوى الانتفاضة، وحتما ليس إلى مستوى الثورة. حتى ولو تطورت الحركة الاحتجاجية في لبنان بشكل حقيقي على الأرض، سوف تبقى في مواجهة طبقة سياسية مستعدة لاستخدام القوة ضدها، وسوف تكون هذه السلطة مدعومة بحراب وبنادق ورصاص ونار تنظيم متعصب ومذهبي مرتبط بنظامين قمعيين متخلفين ودمويين، في دمشق وطهران. 

هذه العوامل، تجعل الأمل بحدوث تغيير سياسي سلمي في لبنان في المستقبل المنظور أمرا بعيد المنال. وهذا يؤدي بنا إلى الغضب الساطع. في الأسابيع والأشهر المقبلة سوف نرى لبنانيين لم يختبروا في حياتهم السابقة العوز الحقيقي، والفاقة الموجعة، والحاجة المذلة. سوف نرى لبنانيين شرفاء، يحترمون القانون، وكانوا يكسبون عيشهم بكرامة، ينامون للمرة الأولى في حياتهم على معدة خاوية. 

هؤلاء، عندما يستمعون إلى شكاوى أحبائهم وأطفالهم وأهلهم المحرومين من الغذاء والدواء، سوف ينزلون إلى الشوارع دون خوف من جائحة كورونا، أو حراب “حزب الله”، أو حتى جيشهم الذي يفترض به أن يحميهم من سطوة تنظيم مثل “حزب الله” تابع لدول خارجية، بدلا من أن يقمعهم باسم الأمن والقانون والاستقرار.

قبل عقود غنت فيروز في سياق آخر: الغضب الساطع آتٍ، من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ. كل المؤشرات تقول إن اللبنانيين سوف ينزلون إلى الشوارع والساحات ليهتفوا وليقولوا بأصواتهم وسواعدهم وقبضاتهم: الغضب الساطع آتٍ، بجياد الكرامة آتٍ.

السابق
ظهور جديد لداعش والنصرة في سوريا.. توقيت حساس وأجندة غامضة!
التالي
هل يدخل «حزب الله» في المقايضة؟