احتقر السياسيون المفكرين… سقط لبنان

كونفوشيوس
أغلب أهل السياسة في لبنان لا يعرفون الحد الأدنى من قواعد اللغة العربية، وأكثر الوزراء و النواب، ينصبون حيث يجب الفتح، ويكسرون حيث يجب الضم، حتى أنهم لا يعرفون أن اللجوء إلى التسكين، يمكن أن يخفي عوراتهم اللغوية ويستر عيوبهم وأشياء أخرى.

لم يعد السؤال محبوبا، حين يتم توجيهه إلى الشريحة الأوسع من المسؤولين الحزبيين والوزراء والنواب اللبنانيين: ما آخر كتاب قرأت؟
هذا السؤال أصبح منبوذا ومكروها ، بل إنه أصبح مدعاة لبغض وخصومة، إذا تجرأ أحدهم وطرحه على “أحدهم” من أصحاب صولة السياسة وجولتها ودولتها.

يقول أكثر وأغلب أهل السياسة في لبنان: لا داعي لأهل الفكر ولا لأهل العقل، فهم يصدعون الرؤوس.
ويقولون: لا ضرورة للمثقفين: فهم يقلقون الدماغ بأسئلتهم ونقاشاتهم وجدالاتهم وحواراتهم.
ويقولون أيضا: لا لزوم لمؤلفين وكتاب ، فعندنا كتبة وكتائب من الحناجر.
هكذا تُبنى الأوطان؟ وهكذا تُشاد الدول؟
لا بأس من بعض أمثلة التاريخ والحاضر، لعل الذكرى تنفع وتفيد:
يسمع أهل السياسة بالإسكندر المقدوني، ويذكرونه بطلا وفاتحا وغازيا، ويختصرونه بقرنيه وسيفه وفتوحاته.
الإسكندر ذاك ، حتى استبطل وغزا، وحتى بنى إحدى أهم الإمبراطوريات والدول في العالم القديم ، كان يتكىء على عقل أعظم فلاسفة البشرية.

اقرأ أيضاً: فر الظالم وقُبض على المظلوم!

من هو هذا العقل؟: هو الفيلسوف أرسطو.
لن نعثر على شبيه لأرسطو في هذه الحقبة، ولكن هناك العشرات من المفكرين اللبنانيين، مهجرون من أهل السياسة أو مهاجرون في أصقاع الأرض.
قد لا يحتاج لبنان إلى أكثر من اثنين منهم او ثلاثة، وربما إلى واحد لاغير.
من اليونان إلى الصين.
كانت الصين قد تشظت وتدمرت وهلكت، منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وإذ في لحظة ما، يظهر كونفوشيوس وغيره من فلاسفة الصين القديمة.
كونفوشيوس كان وزيرا للعدل.

ما الذي فعله كونفوشيوس؟

إليه يعود مبدأ تكريس الإمتحانات في وظائف الدولة ، ومن خلال هذا المبدأ، عرفت الصين التاريخية ما يُعرف بـ”طبقة الموظفين ـ المثقفين”، الذين بنوا حضارة الصين العظيمة، وبصورة ما عادت تُذكر فيها الصين، إلا ومعها كونفوشيوس وأمثاله من فلاسفة الصين التاريخيين.
لنقارن هنا بين جيوش طبقة الموظفين والمستوظفين في الدولة اللبنانية، الذين لا عمل لهم ولا فعل ولا شغل ، وبين طبقة الموظفين ـ المثقفين التي أنشأها كونفوشيوس في الدولة الصينية القديمة، ورفع من خلالها الصين إلى طبقة الحضارات العالمية الأولى.
لبنان يحتاج إلى ربع كونفوشيوس، أو ربما إلى ظله.
نتابع : من الصين إلى جارتها الهند وإلى الفيلسوف كوتيليا.
كوتيليا الفيلسوف ، سطع اسمه بعد غزوة الإسكندر المقدوني لبلاد الهند، في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت بلاد الهند آنذاك محطمة وممزقة، إلا أن الملك شاندرا غويتا، رأى أن يعين كوتيليا الفيلسوف وزيرا، فعمل الأخير على وضع كتاب ” أرتاشاسترا ” ـ علم السياسة / علم الحُكم”، مما أفضى إلى تأسيس أعظم الإمبراطوريات الهندية ، وعلى هدى الفيلسوف كوتيليا، سار إبن شاندرا غويتا، ناندا سارا، ومن بعده الحفيد أشوكا، المعروف أيضا بالملك الفيلسوف.
كانت الهند محطمة بفعل حروب الخارج على الداخل، وبفعل حروب الداخل على الداخل، تماما مثل لبنان، لكن ملكا أدرك الخلاص عبر الفيلسوف.

من يأتي بفيلسوف أو بقماشة الفيلسوف لإنقاذ لبنان؟

من بلاد الهند إلى بلاد العرب وعصورها الذهبية.
لكن قبل “حديث العرب”، من الأهمية القصوى الوقوف عند أبرز عوامل انكسار الإمبراطورية البيزنطية أمام العرب.
في عام 529 ميلادية، يُصدر الإمبراطور البيزنطي جستنيان قانونا بتحريم الفلسفة وملاحقة الفلاسفة، فهرب هؤلاء إلى مدن جنديسابور والرها ونصيبين، وخلال جيلين، فرغت بيزنطيا من الفلاسفة والمفكرين، فتضعضعت أركانها، فكان ذلك سهلا على العرب إتيانها بعد حين.
لنتمعن قليلا بالعبرة: انكسرت بيزنطيا بعدما كسر قرار امبراطوري فلاسفتها ومفكريها
ألم يكسر أباطرة لبنان مفكريه ومثقفيه؟ فعصي على الآباطرة أن يعثروا على طوق النجاة؟
إلى العرب من جديد:
تتراقص قلوب العرب فرحا، ومنهم اللبنانيون، حين يستحضرون ماضيهم المجيد، كشاهد على نبوغهم ومقارعتهم لحضارات العالم وعقوله، والمرحلة العباسية، هي الأكثر ذهبية في ماضي العرب، وعلى رأس تلك المرحلة الخليفتان العباسيان المأمون والمعتصم.
من كان إلى جانبهما؟

كان إلى جانبهما الفيلسوف يعقوب الكندي، وعلى ما قالت كتب التراث وأكده دارسو الفلسفة والمشتغلون بها، أن الكندي كان عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم ، وكانا يطلبان منه أجوبة وشروحات على ما يحتاجونه من معارف، ومما كتب الكندي إلى المأمون “رسالة في العلة والمعلول”، وإلى المعتصم رسالة بعنوان “كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”، وتحت عنوان ” في العقل ” وجه الكندي رسالة أخرى إلى المعتصم.
كم من أهل السياسة في لبنان يقرأ “في العلة والمعلول وفي” الفلسفة الأولى”، أو الثانية أو الثالثة… أو حتى الأخيرة؟

في الدولة الحمدانية، أكثر من يؤتى على ذكرهم ، الشاعران المتنبي وأبو فراس الحمداني، ولكن سيف الدولة احتضن ورعى أعظم فلاسفة العرب، أبو نصر الفارابي، المعلم الثاني.
في الدولة البويهية، تقلد ” الشيخ الرئيس ” الفيلسوف ابن سينا الوزارة في عهد شمس الدولة، فكان يقوم بالأعباء السياسية في النهار، وينصرف إلى أبحاثه العلمية في الليل.
لنعيد الكلام: الفيلسوف الفارابي مع سيف الدولة والفيلسوف إبن سينا مع شمس الدولة، ألا يوجز ذلك أسباب عدم قيام الدولة في لبنان؟

نقرأ هذه القائمة

الفيلسوف إبن مسكويه تولى وزارة المال لدى الأمير الديلمي علاء الدولة ـ أبو حامد الغزالي كان من أقرب المقربين إلى نظام الملك السلجوقي ـ أبو الريحان البيروني كان على صلة وثيقة بمحمود الغزنوي غازي بلاد الهند ـ إبن الهيثم الملقب ببطليموس الثاني سعى الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله إلى استقطابه ـ السهروردي المقتول كان صديقا ومقربا من حاكم حلب الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي ـ إبن حزم الإندلسي تقلد الوزارة لدى عبد الرحمن الخامس ـ إبن باجة تم توزيره في بلاط فاس في المغرب ـ إبن طفيل كان وزيرا لثاني خلفاء دولة الموحدين في المغرب يعقوب بن يوسف ـ إبن رشد عمل قاضيا في اشبيليا وقرطبة وفي إمارة يعقوب بن يوسف ـ إبن خلدون تولى مناصب رفيعة في سلطنة بني المرين ، ثم قاضي القضاة في مصر.
قائمة الفلاسفة والدول تطول … ولكن من يجرؤ في لبنان على إيلاء وزارة أو إدارة لفيلسوف أو مفكر؟

بعض الأمثلة من الغرب والشرق لا بأس بها أيضاً

في اليابان، شغل فلاسفة ومفكرون وعلماء وأدباء مواقع رئيسة في الدولة، والأخيرة أخذت بنظريات وآراء فلاسفتها ومفكريها حتى لو عزفوا عن الإنخراط في إداراتها ، سواء في مرحلة النهضة الأولى خلال عهد أسرة ميجي في آواخر القرن التاسع عشر، أو في النهضة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم على سبيل الذكر: المفكر التربوي الذائع الصيت فوكوزاوا، وكبير الروائيين ناتسومي سوسيكي، وعالما الكيمياء والجراثيم شوكي شيباتا و شيباساتو كيتاساتو، والفيلسوف هاجيمي تانابي، وفي طليعة من تأثر بهم السياسيون اليابانيون بعد الحرب الثانية، الفيلسوف أوكاماتسو كي نيم ، صاحب نظرية العلاقة بين القيادة وهيكلة الإنتاج.
هل يمكن أن نتوقف عند كبير الروائيين اليابانيين ناتسومي سوسيكي، ونتخيل على سبيل المثال الروائي أمين معلوف وزيرا في حكومة لبنانية؟

المفكر الإستراتيجي ألكسندر دوغين، شكل العقل الإلهامي للرئيس بوتين، وبالتحديد بما يرتبط بنظرية “أوراسيا”، وكيفية إعادة إنهاض روسيا ما بعد الشيوعية عبر المزج بين الوطنية والأرثوذكسية.

في روسيا، وخلال مراحلها الثلاث، القيصرية والشيوعية والبوتينية، كان للفلاسفة والمفكرين أدوار استثنائية وذات قيمة عالية في صوغ السياسات والإستراتيجيات، فأحد أهم قياصرة روسيا ، بطرس الأكبر، عين المفكر والأديب أنتيوخ كانتمير مستشارا له لشؤون الشرق، وجمع قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين حوله كوكبة من المفكرين الكبار أبرزهم ليون تروتسكي وغوركي بليخانوف وجريجوري زينوفييف وليف كامنييف، فيما كان أول وزير تربية سوفياتي بعد إسقاط حُكم القياصرة، الأديب والفيلسوف اناتولي لوناتشارسكي، كما أن علاقة لينين بالوسط الأدبي لم تكن أقل شأنا، خصوصا مع الروائي الروسي مكسيم غوركي أو مع الروائي الإنكليزي هربرت ويلز أحد مؤسسي روايات الخيال العلمي.

ماذا عن فلاديمير بوتين؟

المفكر الإستراتيجي ألكسندر دوغين، شكل العقل الإلهامي للرئيس بوتين، وبالتحديد بما يرتبط بنظرية ” أوراسيا “، وكيفية إعادة إنهاض روسيا ما بعد الشيوعية عبر المزج بين الوطنية والأرثوذكسية.
هل علاقة الرئيس بوتين تقتصر على هذا المثال دون غيره؟
بالطبع … لا…
الرئيس بوتين أعاد اكتشاف كتابات ونظريات الفيلسوفين الروسيين في العهد القيصري ، الأول قسطنطين ليونتييف (١٨٢١-١٨٩١) والثاني إيفان إليين ، الذي كان معاديا للشيوعية ( توفي في سويسرا سنة 1954)، و يعمد بوتين في العديد من مواقفه وخطبه المتحدثة عن مصالح الدولة العليا الروسية ، إلى الإقتطاف من مصطلحات ومفاهيم هذين الفيلسوفين.

أين الصين؟

الرئيس الصيني هو جينتاو ( 2003 ـ 2013) عين الفيلسوف زينغ بيغ يان في موقع المستشار السياسي الأول، وهذا الفيلسوف أوحى إلى الرئيس نظرية ” الصعود الصيني السلمي والسلام الدولي”، وصنفته دورية “فورين بوليسي” الأميركية الإستراتيجية في عام 2010، واحدا من أكثر المفكرين العالميين تأثيرا في السياسيات الداخلية والعلاقات الدولية.
من الشرق إلى الغرب، وحيث يصعب العد ويستحيل الحصر ، من زمن أثينا وروما إلى زمن الفلاسفة والمفكرين الجدد في الغرب الحالي.
هذان نموذجيان إنكليزيان يختصران دورة الزمن، ومنعا للإفاضة والإطالة، الأول هو الفيلسوف فرنيسس بيكون (1561 – 1626) المعروف ب ” السيد المستشار” لدى الملكة اليزابيت، والثاني الفيلسوف الذائع الصيت برتراند راسل ( ت ـ 1970) الذي كان العقل المفكر لحزب العمال البريطاني حتى استقالته منه عام 1965 كموقف اعتراضي مسبق على احتمال انجرار المملكة المتحدة إلى التورط في حرب فيتنام استنصارا للولايات المتحدة.
وأما ألمانيا الموصوفة بوريثة أثينا و بلاد الفلاسفة ، ففي كل دوراتها السياسية ، كان للفلاسفة وكبار المفكرين والعلماء حضور طاغ وقوي، ولو تم خفض الأمثلة إلى العقود السبعة أو الثمانية الأخيرة، سيبرز مع أنظمتها الشمولية الفيلسوف مارتن هايدغر مع الحزب النازي وأدولف هتلر، و ارنست بلوخ الفيلسوف الرسمي للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية حتى انفضاضه عنه عام 1956 إثر ربيع بودابست.

اقرأ أيضاً: ووهان.. أبعد من مسقط رأس كورونا!

ومع التحول الألماني نحو الليبرالية سيقفز إلى الواجهة الفيلسوف رالف دارندورف ( ت ـ 2009) وقد شغل مناصب هامة في وزارة الخارجية والمفوضية الأوروبية، وإليه يعود الإسهام الكبير في صياغة السياسة الثقافية الألمانية في المجال الخارجي عام 1970 ، في حين أن الفيلسوف الحي ، يورغن هابرماس، يُعتبر الأب والمرشد السياسي والنظري لجمهورية ألمانيا الجديدة في مرحلة ما بعد النازية كما قال وزير الخارجية الألمانية الأسبق يوشكا فيشر عام 2002 ، ويقول عنه وزير الشؤون الخارجية الألمانية هايكو ماس (2018) بأنه كبير الكبار الذي بنى الجسور بين فرنسا وألمانيا.
هذان مثالان أخيران:
الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، المصنف في تيار الفلاسفة الجدد ، تم تعيينه وزيرا للتربية في عهد الرئيس جاك شيراك.
والفيلسوف الأخير، وليس آخر الفلاسفة الذين تستعين الدول الحقيقية بعقولهم، هو ريكاردو رودريغيز، وزير التربية في البرازيل، المعين في عام 2018.
هل عرفتم لماذا سقط لبنان؟
عشتم وعاش لبنان.

السابق
بالفيديو.. الشيخ عودة يهاجم «اتباع الفاسدين»: لن ينفعكم صوم ولا صلاة
التالي
عون تحدث عن حظوظ باسيل بكرسي الرئاسة.. ماذا قال؟