العالم بين «الطغيان النووي» و«طغيان الخفافيش»

ما لم يخرج العالم من أزمة الفيروس الى رؤية جديدة للحياة الإنسانية، قوامها التوازن بين متطلّبات الاقتصاد والصحة والبيئة، واحترام قوانين الطبيعة، فإن الفيروس التالي سيكون أكثر توحّشاً.

العالم يبحث عن أصل الفيروس ومصدره، متقلّباً بين خطأ حصل في مختبر مركزي في ووهان وبين سوق الأطعمة القريبة منه والغابات التي جرّفت ليس بعيداً عنه. اكتُشف الخطأ أو التسرّب، فكان أن خرج القاتل من انبوبه، من قمقمه، ليحقق لسلالته الكورونية هذا الغزو الكوني الهائل. ولعل تقليب الصفحات والمواقع والأشرطة، لمزيد من الفهم، يصيب بالإحباط بمقدار ما يعزّز المعرفة، فكيفما تلفّتّ يطالعك الخفّاش أو الوطواط، فتخرج متيقّناً بأنه لطالما كان ناقلاً للفيروسات والأمراض بمقدار ما أن دوره أساسي في عملية تلقيح النباتات. للخفّاش تاريخه وحملاته، ويبدو أن له مستقبلاً مضموناً كعدّو عدوّاً للبشرية، التي اعتقدت أنها في “العصر النووي”، عصر أسلحة الدمار الشامل، محكومة بالتعايش مع خطرها وتحت رحمة الضوابط التي وضعها لها الانسان، فإذا بها تكتشف أنها كانت تعيش دائماً مع الفيروسات داخل الجسد الإنساني وحوله. إذاً فالبشرية في “عصر الخفافيش”.

انكشاف المناعات على كل المستويات، بدءاً بالفرد فالمجتمع فالدولة والاقليم والعالم، كشف عصر الهشاشة الذي كانت البشرية ولا تزال تعيشه وستستمر فيه لسنوات آتية. إذ لا تتوقع دراسة جامعة هارفرد خروجاً فعلياً لأميركا من الأزمة إلا في 2022، ومع أخذها في الاعتبار كل الجهود العلمية والطبّية للمكافحة مع وجود مفترض للقاح فإنها لا ترى نهايةً للحاجة الى التباعد الاجتماعي بل الى الإغلاق والحظر ولو بشكل متقطّع، ما يعني حتميّ التعايش مع الفيروس في انتظار تكوّن مناعة اجتماعية أو “مناعة القطيع”. لكن آراء المختصّين بالبيئة والأوبئة تبدو أكثر تشاؤماً، فمع ازدياد اللجوء الى استشرافاتهم في هذه الأيام حرص كثيرون منهم على التذكير بأنهم أطلقوا منذ زمن إنذارات في شأن الخطر، إلا أن الحكومات اعتادت على “تغليب الاقتصاد ومشاريعه على متطلّبات الشؤون الصحية”. لذا تراهم عاجزين عن تصوّر حلول مستقبلية للمشكلة من دون معالجة أسبابها الكامنة في الاختلالات التي فرضها اجتياح الحياة المعولمة للبيئة الطبيعية وتجاهلها للتنوع البيولوجي، فكلّما توسّعت المدن في الاعتداء على المساحات الخضراء كلّما كبرت مخاطر المواجهة بين السكان والحيوانات.

انتشرت أخيراً صورٌ لحيوانات ظهرت فجأة في شوارع المدن، غزلان وماعز وخرفان وخنازير برّية حتى تماسيح. عدا الطرافة، كان التعليل المباشر لهذه الظاهرة سوى الهدوء الذي أعاد لزقزقة الطيور حضورها، والانعزال المنزلي الذي أخلى الشوارع من ضجيج المارة والسيارات. لعل هناك تفسيراً آخر عرفته الحيوانات بغريزتها، فما أخاف الناس لا يخيفها، وما غيّب الناس لا يغيّبها، ولذا فهي في الشوارع. وليس مستغرباً في المقابل ذلك الهذر الفيسبوكي الذي تخيّل المنازل وقد أصبحت كـ “حدائق الانسان” وتأتي الحيوانات لتتفرّج من النوافذ على “المحجورين” فيها. هو انقلاب أدوار لكن ما كان يقال او يُكتب أو يُصوّر في السينما على أنه خيال أصبح مع العزل والحجْر أقرب ولو جزئياً الى الواقع.

غير أن شيئاً لا يستدعي الهذر عندما تتعرّف الى المعاناة الحقيقة للمصابين بالفيروس، خصوصاً أولئك الذين تتفاقم حالاتهم ويؤخذون بعيداً عن ذويهم ليخوضوا الصراع مع الموت وحيدين وهم يعلمون أن آخرين سبقوهم ولم يتمكّنوا من النجاة. أيامٌ وأسابيع تمضي قبل أن يستعيد الجسم ما كان يُعتَقد أنه أبسط وظائفه، التنفس، وأسابيع أخرى قبل أن يخرج المريض من العذاب الجسدي والذهني والنفسي الذي مرّ به. تلك محنة يعيشها أيضاً العاملون والعاملات في التطبيب والتمريض بكل تفاصيلها القاسية الضاغطة على مدار الساعة، وأحياناً بحدّ أدنى من معدّات الوقاية، ما يعرّضهم بدورهم للموت. تراهم في استراحاتهم القصيرة واجمين ساهمين خائفين، فكل سرير يقتربون منهم هو ساحة لمعركة. وعندما تنصت الى شهاداتهم تدرك أنهم يخوضون حرباً زجّ بهم فيها “من دون أسلحة ودروع لنحمي أنفسنا”، كما قالت تلك الممرّضة. يسعدهم بلا شك التصفيق لهم خارج المستشفيات ومن النوافذ أو على عتبات البيوت لكنه لا ينسيهم أنهم لم يتصوّروا التزامهم المهني ممتدّاً الى التضحية بالحياة. الفارق بينهم وبين الجنود أن هؤلاء عندما يسمعون التصفيق يكونون خارج الحرب أو أصبحت وراءهم، أما الأطباء والممرضون فلا يزالون في خضمّها.

فجأة فُتحت العيون والأذهان على أنها أيضاً “حرب الفقراء”، فالحجْر المنزلي لا يعني أن تتوقّف الحياة بل أن تستمرّ عبر أولئك الذين يديرون عجلتها، أصحاب عشرات المهن الصغيرة الذين أظهرت إحصاءات أولية في الدول الموبوءة أن نسبة الضحايا منهم هي الأعلى. هؤلاء لا يمكنهم أن يعملوا “عن بعد” بل عليهم أن يستثنوا أنفسهم من الحجْر ويخرجوا الى العمل حتى لو كانت هناك مجازفة، ولولاهم لما استطاع الآخرون أن “ينحجروا”. فجأةً أيضاً أُعيد اكتشاف أن الحياة اليومية، قبل الفيروس وتحت سطوته وبعده، مرتبطة الى حدٍّ كبير بدور أولئك الذين يخبزون ويأتون بالأغذية ويطبخون وينقلون الأطعمة وينظفون ويرفعون النفايات ويقومون بأعمال الحراسة والخدمات شتى، وجميعهم يساهمون في الاقتصاد لكنه لا يكافئهم إلا بالقليل الذي بالكاد يعينهم على البقاء، مجرّد البقاء لا أكثر. طبعاً ليست ظروف “المحجورين” متساوية وليسوا قادرين جميعاً على إطعام عائلاتهم، وحين يكون الحجْر اغلاقاً للعمل فإنه يعني أن كثيرين سيفقدون مصادر دخلهم ولا يعرفون الحال التي سيكونون عليها بعد الأزمة التي ستلد أزمات.

حيثما توجد دولة، بما تعنيه الكلمة، تتوفّر القدرة على المساعدة لتمكين المؤسسات من تقليص جيوش العاطلين عن العمل، لئلا تكون نهاية الحجْر انتقالاً من الفيروس الى البؤس. ولذلك تعهد الدول الى أفضل خبرائها التخطيط للخروج التدريجي الآمن من الأزمة. أما حيث توجد “دولة”، بلا معنى الكلمة، فلا تتوفّر سوى سلطة مهمتها تنظيم البؤس كبديل وحيد من الفيروس.

عندما خرج رئيس وزراء بريطانيا من المستشفى، وهو أرفع شخصية سياسية أصابها الفيروس، توجّه بالشكر لـ “النظام الصحّي الوطني” الذي أنقذ حياته. وهو النظام الذي كان الفريق الحكومي يدرس رفع الدعم عنه والتخلّص من أعبائه، فهل يعيد بوريس جونسون النظر في خططه السابقة؟ وبعد يومين على تعافي “صديقه” جونسون أقدم دونالد ترامب، وهو من الرؤساء القليلين الذين قللوا من أهمية الفيروس، على تجميد المساهمة الأميركية في ميزانية منظمة الصحة العالمية. لا شك أن هناك شعوباً ستتضرّر من هذا الاجراء، لكن قصر النظر يزيّن لترامب أن قراره يعاقب الصين.

السابق
منظمة مجاهدي خلق تفضح النظام الإيراني..وفيات «كورونا» في 294 مدينة أكثر من 32 الفاً!
التالي
أسرار الصحف الصادرة صباح اليوم الاثنين 20 نيسان 2020