لبنان.. عزلة كورونا وعزلة الأيديولوجيا

علي الأمين

لا يمكن التعامل مع فايروس كورونا بوصفه جائحة وبائية توزع شهادات الموت أو تأذن بحياة أطول، إنما أبعد من ذلك ليتحول في معرضه إلى مناسبة غير سعيدة بالطبع، لتعديل دفتر من السلوكيات والأدبيات الجديدة حول العالم. في خضم المواجهة التي يخوضها معظم دول العالم في مواجهة جائحة كورونا، تبرز مؤشرات سياسية واجتماعية ودينية في سياق ما يرتبه عنصر الوقاية من تداعيات الفايروس على البشر.

التجمعات البشرية سواء كانت تظاهرات أو حفلات أو صلاة جامعة في المعابد الدينية أو زيارة المقامات الدينية والمراكز السياحية، وحتى الانتفاضات الشعبية، باتت في قانون المواجهة مع الجائحة المستجدة والقادمة من الصين، شرا مستطيرا وفعلا مدانا.

في لبنان الذي طالما كانت فيه التجمعات مظهرا من مظاهر الحياة، توافقت معظم الجهات الدينية وغير الدينية على نبذ التجمع مهما كانت أسبابه، وباتت الدعوة إلى البقاء في البيوت ديدن الإعلاميين والسياسيين، وحتى المنتفضين على السلطة وسياساتها باتوا يبحثون عن وسائل جديدة للانتفاضة، تقيهم شر التجمع في الساحات والشوارع للتعبير عن رفضهم وغضبهم من السلطة وسياساتها.

الكورونا باتت بداية فعل تغيير اجتماعي، يفتتح مسارا جديدا، لا يُعرف إلى أين سيؤول في بلد اعتاد فيه الساسة ورجال الدين، على إدارة التجمعات ورسم معالم سيرها وصياغة جملتها في النصّ اللبناني العام.

ليس مألوفا في الحياة الاجتماعية اللبنانية، إغلاق المنتجعات السياحية وأماكن اللهو والمطاعم، وليس معتادا إغلاق المساجد كمركز لصلاة الجماعة ولا الأندية الحسينية التي تقوم بوظيفة الاجتماع بمناسبات الموت وحفلات الترويج الحزبي، ولا الكنائس التي تحتضن المصلين وأكاليل الزواج وغيرها من مناسبات دينية.

ثمة اهتزاز في نظام السلطة الذي يشكل البعد الطائفي والديني، وهذا البعد يوفر لأحزاب شتى ولاسيما ذات النفوذ السلطوي مجالا لممارسة فعل التوجيه والقيادة وإصدار التعليمات، لإرساء المزيد من الانضباط والسير في ركب هذه الجهة أو تلك.

إقرأ أيضاً: في السنة العاشرة، سنة “كورونا”، يرحل الأسد

تتفاوت المنهجية بين هذه الجهة أو تلك، بقدر التفاوت في طبيعة الأيديولوجيا أو الانتماء، لكن السمة العامة في طبيعة التجمعات التي يجري استثمارها في الحياة اللبنانية، هي أنها تجمعات ذات طابع ديني وطائفي.

على أن الأكثر افتتانا بتجيير المناسبات الدينية وتلك المتصلة بوداع الموتى، هو حزب الله الذي يجمع الكثيرون على أنه رسم لهذه المناسبات معالم جديدة، وأرسى قواعدها المستحدثة كي تتناغم مع أيديولوجيته الإيرانية، وسخّر لتحقيق ذلك أجهزة إعلامية وأيديولوجية، من أجل صناعة مشهد واحد لا يتبدل بين قرية صغيرة أو مدينة كبرى، حتى الشعار واحد والصورة من علي خامنئي إلى حسن نصرالله، بل الحرف المكتوب هو عينه من دون أن تظهر أي خصوصية يمكن أن تعبر عنها منطقة أو حي أو قرية.

تبدل كل شيء في لحظة وصول الفايروس إلى لبنان. ثمة جهاز توقف عن العمل وظيفته تحويل المجتمع إلى كتلة متراصة. مجتمع لا يظهر تنوعه إلى السطح بل يكتمه لحساب الطاعة والولاء. هو جهاز أمني يلتحف بالعباءة الطائفية والدينية ويعمل على وأد الاختلاف لصالح الولاء باسم الأيديولوجيا.

العزلة التي فرضتها جائحة الكورونا، لا تشكل ردة فعل طبيعية وطبية من قبل الأفراد فحسب، بل بدت أبعد من ذلك، وكأنها تستبطن فعلا اجتماعيا يرتكز على ثقافة العزلة التي أسّست لها الأيديولوجيا الإيرانية في الثقافة الدينية الشيعية في لبنان. بالطبع لا علاقة بين الكورونا كفايروس يفتك بالإنسان، والأيديولوجيا الإيرانية كنموذج سياسي اجتماعي رسّخ فكرة العزلة الثقافية والحدود السياسية بين الشيعة اللبنانيين، وكل من يحيط بهم من مواطنين لبنانيين أو من سوريين وغيرهم من عرب.

فايروس كورونا كان دافعا موضوعيا نحو العزلة المنزلية، بينما كانت الأيديولوجيا الإيرانية في تمثلاتها الشيعية اللبنانية وفي خلاصاتها الاجتماعية والسياسية والطائفية، مشروع عزل وانكفاء مفروض على هذه الجماعة اللبنانية، وضرب لكل ما قامت عليه هذه الجماعة ثقافيا وسياسيا منذ تأسست دولة لبنان الكبير، أي أن هذه الجماعة في الزمن الإيراني، تشكلت عناصر وجودها كطائفة على مجرى من الدماء سال في مواجهة بقية اللبنانيين، وعلى مواجهة جموع السوريين ممن رفعوا لواء الثورة، وعلى جموع العرب بما يمثلون من فضاء قومي وانتماء حضاري، شكل الشيعة العرب أحد روافده منذ ظهور الإسلام وانتشاره.

العزلة التي فرضتها جائحة الكورونا على اللبنانيين، قد تسمح بالنجاة من المرض الجسدي، وقد تتيح فرصة للعودة إلى الذات واكتشاف ضعف الجسد وقوته، والتقاط معنى الوجود الإنساني وغايته في هذا العالم وفي هذا الوطن المقهور والمصادر، غير أن العزلة التي فرضها النموذج الإيراني على الجماعة الشيعية في لبنان، هي عزلة ليس عن محيطهم الاجتماعي والحضاري والوطني فقط، بل عزلة عن تاريخهم الذي لا ينفصل عن تاريخ لبنان وسوريا وفلسطين، وعن تاريخ المنطقة العربية.

هذه العزلة في مؤداها الاجتماعي جعلت المجتمع المسيّج بالأيديولوجيا عبارة عن تجمع بشري يفتقد التنوّع، بل ممنوع من التعبير عن تنوعه.

هذا المجتمع هو مجتمع مستسلم ومهزوم، فالمقاومة هي فعل تحرر دائم من كل استبداد وفعل انتماء إلى الشعب والدولة، وإلى محيطه العربي، ويكفي أن تشعر الجماعة الشيعية في لبنان في زمن الأيديولوجيا الإيرانية بأنها غير آمنة في محيطها العربي، ليمدّ بنيامين نتنياهو رجليه ويطمئن إلى مقامه وإلى طول عمر كيانه.

السابق
«المجلس الشيعي»: «الموظفون» (ليسوا) أولى بالمعروف!
التالي
هذا ما جاء في مقدمات النشرات المسائية لليوم 16/3/2020