قراءة في ضرورات الثورة اللبنانية وانجازاتها وآليات استدامتها

مكافحة الفساد

سنوات عجاف

لاحت في أفق لبنان أنواء عاصفة مخيفة، تتكثف فيها أزمة شاملة بوجوهها الاقتصادية والمالية والنقدية، وطالت الأزمة كل شعب لبنان، بكافة فئاته ومناطقه، ونالت من حقوقه الأساسية بحياة كريمة ومستقرة، وشعر اللبنانيون بخطر داهم يهدد نمط عيشهم وأعمالهم، اضافة الى تعثر تأمين مستلزمات عائلاتهم اليومية.

وشهد لبنان ظاهرة اضافية غير مسبوقة في تاريخه، وارتكابات تخالف قانون النقد والتسليف، وهي امتناع نظامه المصرفي عن الايفاء بالتزاماته تجاه مودعيه وحقوق زبائنه، فيما تبدى خطر جدي يطال مدخرات اللبنانيين وودائعهم، وتهاوى سعر العملة الوطنية اللبنانية أمام الورقة الخضراء بنسب وصلت الى 40 % من قيمتها، فيما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بأكثر من نسبة تدني عملتهم الوطنية، وتقلصت بشكل كبير تحويلات واعتمادات التجارة الخارجية فتأثرت قطاعات الطبابة والاستشفاء واضطربت امدادات تزويد الاستهلاك بالطحين والوقود والغاز المنزلي، كما تدنت القدرات الشرائية لرواتب العاملين والموظفين الذين يتقاضونها بالليرة اللبنانية.

إقرأ أيضاً: السنيورة يفضح السلطة «الفاشلة»: هذه أسباب الإنهيار!

وكان قد سبق مشهد الانهيار هذا، انكشاف سلسلة متتالية من ملفات الفشل في ادارة مرافق الدولة وخدماتها العامة سواء بسواء: في الكهرباء والاتصالات والطرق وأنظمة السير والنفايات المنزلية واطفاء الحرائق، كما في شبكات مياه الشفة في المنازل، أو شبكات الصرف الصحي، وهي ملفات سادها غياب جودة المواصفة وافتقاد كفاءة الخدمة مع ارتفاع التكلفة وغلاء أسعارها.

في موازاة ما تقدم استمر الاستيلاء على الأملاك البحرية والنهرية، وتمادى أمراء الميليشيات في تحويل أموال المؤسسات العامة في الريجي ومصالح المياه والمرفأ والكازينو وشركات انترا وأوجيرو الى تنفيعات تدفع لحاشياتهم، وتلوثت البيئة والأنهار واستبيحت جبال لبنان بالكسارات والمقالع، وأصبح التهرب الجمركي ومعابر التهريب الحدودية نظام عمل شامل يقيم اقتصاداً أسوداً موازيا يقتطع 30% من السوق اللبنانية ويضعف الاقتصاد الشرعي، ويستنزف موارد خزينة الدولة وماليتها العامة.

الفشل في ادارة مرافق الدولة لعدم الكفاءة، الاثراء من السلطة وسرقة الأموال والممتلكات العامة، واستغلال الصفقات العمومية وتعهدات الدولة ومشاريعها لصرف النفوذ والتربح من المنصب العام، والعبث بأموال البلديات وأملاكها، و التلاعب بأرصدة الضمان الاجتماعي وصناديق تقاعد العاملين في القطاع العام، وهدر موارد الدولة في عمليات فسادٍ، يتقاذف الاتهامات بارتكابها، أطراف السلطة السياسية، بشكل دوري ومتبادل، وممارسة الزبائنية السياسية وتحويل الادارة الى دولة محاسيب غير منتجة ومتضخمة، بعد تجاوز معايير قانون الموظفين و صلاحيات مجلس الخدمة المدنية، لتشكل هذه الادارة عبئا على الموازنة العامة ,والتمادي في عدم حل معضلة عجز الكهرباء، والمبالغة المفرطة بإنشاء سدود مائية عالية التكلفة. منخفضة الجدوى، دون مراعاة لأثرها السلبي على البيئة، كل ذلك حول السلطة الى آلة نهب و اصبح الناس موضوع نهب.

شراء الوقت بطباعة النقد

كما تم اتباع سياسة نقدية تعتمد استجرار الودائع والتحويلات الخارجية بفوائد عالية الكلفة، لتمويل عجز مزدوج مستمر ومتراكم في موازنات الدولة السنوية من ناحية أولى، وفي ميزان المدفوعات الوطني من ناحية ثانية، وعلى مدى سبع سنوات متوالية، فيما قلصت ادارات المصارف اللبنانية من استثماراتها في الاقتصاد الحقيقي وفي لعب دورها الطبيعي المفترض لها كمساهم رئيسي في التنمية، وفي تشجيع استثمارات مستدامة في القطاعات الانتاجية، وخلق فرص عمل جديدة للأجيال اللبنانية الشابة، واكتفت بتسليف مصرف لبنان بكل ما يحتاجه من رساميل لتمويل سلطة فاسدة فاشلة، وبتمويل قطاعات محددة في التطوير العقاري والتجارة الخارجية، الممارسات هذه، حولت النظام المصرفي اللبناني، الذي تغنى به اصحابه عشرات السنين، حولته الى حوانيت ربا فاحش، وجعلت كل من تبوأ شأناً عاماً، موضوع مساءلة أو تهمة.

يظهر الرسم البياني الصادر عن مصرف لبنان عجز في ميزان المدفوعات تراكم منذ سنة ٢٠١١، فيما أصر خبراء المصارف لتضليل الشعب اللبناني والادعاء أن سبب الازمة المالية إقرار سلسلة الرتب والرواتب والخطأ في احتسابها الذي بلغ مليار$

وقد سهل هذه الارتكابات وعممها، استتباع القضاء من قبل نافذي السلطة والأحزاب الطائفية، مع تقليص متعمد لأدوار أجهزة الرقابة والمحاسبة العمومية، من ديوان المحاسبة الى التفتيش المركزي مالياً كان أو ادارياً، كل ذلك أوصل الى كارثة شاملة.

خلل سياسي في بنية السلطة

لم يكن هذا السلوك الذي خلخل بنيان لبنان وهيكلياته، ممكناً أن يحدث أو أن يتمادى ويستمر، لولا الخلل السياسي في بنية السلطة ومؤسساتها السياسية والدستورية وفقدانِ الدولة لسيادتها على حدودها وداخل حدودها، ولولا الامعان في ممارسة الحكم من خارج المؤسسات الدستورية تارة بتعطيلها وأخرى بتطويعها، وذلك عبر انتهاكٍ واضحٍ للقانون والدستور، وباللجوء الى القوة السافرة أو التهديد بها، لتعديل موازين القوى السياسية وتشويه النظام البرلماني اللبناني، ولَيْ عُنقِ النصوص الدستورية والقانونية، بغرض فرض غلبةٍ سافرة، تجعل من لبنانَ جرماً في منظومة الممانعة الاقليمية. تأسس هذا الامر خلال الوصاية السورية واستمر بوضوح بعد اتفاق الدوحة وانتقال لبنان الى وصاية أخرى.
في الموقع الجيوـ سياسي الجديد هذا، فقد لبنان دوره التقليدي كمركز اقليمي للاستثمار والخدمات والتسوق والسياحة، بعد أن تَحوّل متراساً متقدماً لمنظومة الممانعة ومخيما لمئات الاف اللاجئين عبر فريق لبناني مسلح، مارس غلبته الداخلية لكي يستسهل الانخراط في حروب اقليمية وعداوات دولية وعربية متعددة، ولم يكن احتلال وسط بيروت لإقفال البرلمان ومنع انتخاب رئيس جمهورية سنة ٢٠٠٧، وشل حركة وسط بيروت الاقتصادية وتحويله الى هياكل مهجورة، سوى مثال واضح من عدة امثلة، لأثر الاستقواء السياسي على النشاط التجاري وضرب فرص الاستثمار، كما بينت ازمة احتجاز حجاج العتبات الدينية الشيعية في مدينة اعزاز شمال سورية، وما تلاها من استهداف الوافدين والرعايا العرب وخطفهم، من قبل اجهزة تغطت بأجنحه عائلية مسلحة، بينت هذه الازمة الاثر الكارثي على السياحة والقطاع الفندقي، لانخراط طرف لبناني في الفتن والحروب الاهلية في الجوار المشرقي.

كل ذلك أنهك اقتصاد لبنان، وشوه صورته لدى رواد ربوعه والمستثمرين في اقتصاده، وفقدت بيروت ريادتها في عالم الثقافة والاستشفاء والاعلام والفنون والتعليم العالي، وترنحت قطاعات لبنان الانتاجية، وفقد الاقتصاد اللبناني القدرة على خلق فرص عمل كافية لاستيعاب موارده البشرية والكفاءات العالية لشبابه، وخسر ميزان المدفوعات اللبناني، فائضه التقليدي منذ استقلال لبنان، فتضاعفت مرتين مستورداته من الطحين والبنزين وثلاثة أضعاف من الفيول، تحت وطأة المأساة السورية وتداعياتها، وتقلصت خياراته داخل عزلة صنعها انفصال سياساته عن خيارات مداه العربي وصداقاته الدولية التقليدية.

يصف العالم الالماني ماكس فيبر «الدولة الفاشلة»: ” هي التي تغيب فيها السيطرة الكاملة للدولة على أراضيها، وتتراجع فيها القدرة على الاستخدام المشروع لوسائل القوة، وتتآكل فيها السلطة الشرعية لصنع القرار، وتنعدم فيها القدرة على توفير الخدمات العامة، وينتشر فيها الفساد والجريمة، ويتدهور فيها الاقتصاد، ويتفلّت فيها العنف الطائفي “. لا تتصف الدولة اللبنانية، بكل هذه المواصفات فحسب، بل تضيف اليها؛ غياب الاعلام الناجح، وتآكل الحيز العام، والعجز عن اقامة قضاء نزيه ومستقل، والخروج عن الدستور والقوانين المرعية الاجراء، وصرف اموال الدولة خارج الاصول القانونية المالية.

قيم وطنية حديثة

في مواجهة الواقع هذا، وعندما اكتشف اللبنانيون جميعا انهم خدعوا من كل تسلم ادارة امورهم واملاكهم، انفجرت انتفاضة شعبية شاملة وتصاعدت الى شبه ثورة، انتفاضة لا تتناول فقط تعديل موازين القوى في السلطة، وتبديل غلبة طائفية حزبية بغلبة أخرى، وهي لعبة أجادت احزاب السلطة استغلالها وجعلها صمام أمان لاستمرارها، بل هي ثورة تهدف الى اسقاط السلطة كلها، وطرد أحزاب الطوائف من الحكومة، وتصبو الى تغيير عميق، يرسي مجموعة من القيم الجديدة التي تم اطلاقها على كل لسان، في كل ساحات الحراك. هذه القيم هي:

  • 1_ نبذ الطائفية وتبني المواطنة لبناء دولة القانون والمؤسسات والدولة المدنية.
  • 2_ ادانة الفساد كجريمة بحق الوطن والناس والدعوة لاستعادة الأموال المنهوبة.
  • 3_ ادانة العنف والالتزام بالثورة السلمية وعدم ممارسته، حتى لو تعرض الثوار لعنف مقابل.
  • 4 – اعلان الخروج من عباءة الزعيم، وادانة أحزاب السلطة الحاكمة، والتبرؤ منها ومنعها من الانخراط بالحراك وقبول قواعدها كأفراد تخلوا عن أحزابهم.
  • 5_ ظاهرتان اضافيتان واعدتان في بنية الانتفاضة وقواها أكدتا:
  • مشاركة المرأة بشكل طليعي
  • وتصدر الشباب من الجيل الجديد لوضع أجندة الثورة وشعاراتها.

بعد 12 يوماً، من اندلاع الانتفاضة، قدم الرئيس الحريري استقالة حكومته، يقول مثل فرنسي: “عندما يشير الاصبع للقمر، ينظر الأحمق إلى الاصبع” – لم تفهم قوى السلطة معنى ثورة شعب لبنان أو لم ترد أن تفهم، وهي ثورة وضعت أجندة متدرجة، لكنها شاملة، لتغيير كامل في السلطة، وطرد احزاب الطوائف من جنة الحكم، وفي الوقت الذي كانت ساحات لبنان ترنو بأعين آلاف الثوار فيها الى حكومة تنتشل لبنان من أزمته وتُجَنِّبَه كارثة الجوع والانهيار، تم الذهاب الى حكومة مستشارين لأطراف السلطة السياسية ذاتها، واجبر الشعب على الدوران في نفس الصحن القديم.

لم يكن ينقص لبنان لتشديد الخناق على شعبه وارساله الى هاوية مجهولة القاع، سوى انفجار المواجهة بين أميركا وايران في العراق، بعد قيام ادارة الرئيس الاميركي ترامب باغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والتي وضعت لبنان على جدول أعمال الثأر لسليماني، وجر لبنان شعباً وموقعاً اليها، وبعد احتمال استدراجه لاستراتيجية يتولي فيها المساهمة بإنهاء الوجود والنفوذ الاميركي في المنطقة.

خط المواجهة

فيما تقدم يبدو واضحا الى أين وصلنا، فماذا بعد والى اين نتجه، وعلى اية قضايا يستمر الصراع والنضال. والاجابة بسيطة وسهلة:

• الصراع على تحديد من يتحمل تكاليف الازمة واعباءها أولا؟ اي كيف توزع خسائر الكارثة، هل يدفع اثمانها من استباح الدولة وماليتها العامة؟ وهل تستعاد منهم الاموال التي سرقوها؟ وهل تستعاد من ارباح اصحاب المصارف واداراتها ومساهميها وكبار المودعين فيها، وهي ارباح جنوها من فوائد غير شرعية وغير منطقية على مدار عشر سنوات على الاقل؟ واي الودائع ستتم المحافظة عليها او التحفظ على حركتها؟، وعلى حساب من سيجري تخفيض قيمة الدين العام من ٨٦ مليار دولار الى اقل من ٤٠ مليار دولار، ومن سيدفع هذا الفارق الهائل!؟ وكيف سيطبق تشريع ال Capitale controle الذي تعتمده المصارف اليوم بشكل غير قانوني وبطريقة انتقائية، وانطلاقا من اي تاريخ ومفعول رجعي سيطبق؟ هل من تاريخ الفضيحة في ١٧ تشرين ٢٠١٩، أو من تاريخ الازمة في نهاية سنة ٢٠١٨وهو خيار اذا ما تم اعتماده، سيعيد حوالي ٢٧ مليار $ الى لبنان وودائعه، ويتبدى سؤال خطير لحاكم مصرف لبنان لماذا لم يلجأ الى الCapitale Controle منذ نهاية سنة ٢٠١٨، ولماذا لم يجري تخفيض الفائدة على الودائع منذ ذلك التاريخ؟ وما هو حجم الاقتطاع من الاجور المرتبط برواتب اللبنانيين جميعا الذي هو نتيجة فعلية لانهيار سعر الليرة وباي مقدار.؟

خرج من النظام المصرفي اللبناني طيلة سنة 2019 مبلغ 30 مليار دولار، وهي موزعة 22,609 مليار دولار $ حتى17 تشرين ( يظهر ذلك في الرسم البياني لمصرف لبنان نقصان الودائع الشهري بعد تحييد حساب فوائد الودائع) و 5,6 مليار $ حتى نهاية السنة، اضافة لمبالغ رفعت رصيد بعض المصارف في الخارج في الصناديق المراسلة، والاموال هذه عائدة لكبار السياسيين واصحاب المصارف ومديريها وكبار المقاولين والمودعين، من الذين تؤهلهم مواقعهم الرسمية والمالية والسياسية، لمعرفة واستكشاف الكارثة التي حلت ب لبنان قبل عامة الناس، ( انها فضيحة أخرى تدعى الاموال المهربة ) فأصبح الCapitale Controle الذي طبق خلافا للقانون موجها فقط لعامة الناس ولأصحاب الودائع الصغيرة، هذا الفعل هو جريمة فساد موصوفة بالقانون اللبناني ( 2011/160)، اسمها جريمة ( التربح عبر التداول من الداخل= délit d’initié)، وهي جريمة طالب بملاحقة مرتكبيها نادي القضاة اللبناني .

لم تكتف المصارف بما تقدم، بل اقدمت على بيع سندات الeurobonds بقيمة 400 مليون دولار$، اي تحويل دين داخلي الى دين خارجي ورصيد محلي الى رصيد خارج لبنان في ظل تقييدها لحركة ودائع زبائنها.

واتى هبوط سعر صرف الليرة بنسب %70 مع ارتفاع اسعار السلع بنسبة 70% ل يخفض قيمة اجور عامة الناس الى النصف، بمعنى ان عموم الشعب سرقت ودائعه، ثم سرقت نصف مداخيله.

كما يظهر الرسم البياني لتطور ارباح المصارف كيف استغلت المصارف عجز ميزان المدفوعات لزيادة ارباحها، فيما يظهر الرسم التالي توزع ودائع اللبنانيين في النظام المصرفي اللبناني، وتبلغ قيمة هذه الودائع مجتمعة ١٦٢ مليار $

• والصراع يستمر حول طبيعة السلطة البديلة التي ستتولى تنفيذ المهمة من جهة اولى، وعلى من يتولى اعادة بناء الدولة والاقتصاد اللبناني من جهة ثانية.

فأحزاب السلطة التي اساءت ادارة لبنان على مدى خمسين عاما، واستباحت أملاكه ومرافقه العامة وعطلت عمل مؤسساته الدستورية وخربت اجهزة الدولة وادارتها، وسرقت ودائع اللبنانيين وجنى اعمارهم، وانكشفت امام دول العالم، كشريحة عاجزة وفاشلة وفاسدة، وبالرغم من ذلك، مازالت هذه الطبقة السياسية متمسكة باستمرار بقائها، وما زالت مصرة على النجاة بجرائمها وارتكاباتها، وهي تنوي، ليس تحميل الشعب أثمان الازمة فحسب، بل التربح والاستفادة من تداعيات كارثة صنعتها بأياديها.

على مفترق هذه الخيارات تتفاقم كارثة لبنان وتتعمق بين خيارات متناقضة لا تصالح أو تساكن بينها، فأمامنا حكومة لون واحد، تجري فيها محاصصة حاملي شهادات جامعية، ويخضعون بقراراتهم وخياراتهم لأحزابها، فيما مطلب الثورة وفرصة انقاذ لبنان تتطلب حكومة مختلفة عنها، تتألف من كفاءات مستقلة وترسل أحزاب السلطة الى اجازة قسرية. كما يتطلب هذا الانقاذ الخروج الى موقع النأي بالنفس الفعلي، مما يسمح بتأهيل لبنان ليعود الى كنف الاحتضان العربي والدولي، ويمكّنه من الاستعانة بدعم دولي وعربي يخفف تداعيات الأزمة ويلطف خسائرها و آلامها.

لذلك يصبح انتصار الثورة وتحقيق مطالبها واهدافها، بإسقاط هذه السلطة السياسية، واعادة بناء دولة مدنية حديثة أمرا ملحاً، عادلاً ، شرعياً، ضرورياً وممكناً.

ملح: لأننا نواجه كارثة تهدد عيش كل لبناني في كل لبنان.

عادل: لان هذا الانتصار يكفل محاسبة فاسدين اساؤوا لوطن وشعب.

شرعي: بعد ان فقدت السلطة شرعيتها بتعطيل وظائف الدولة ومؤسساتها والحكم من خارج الدستور والقانون والعجز عن تسيير خدمات الدولة ومرافقها العامة.

ضروري: لأنه بغير اعادة انتاج سلطة بديلة، لا رغبة لأحزاب هذه السلطة ولا قدرة لها على اخراج لبنان من الكارثة ولا مصلحة لها في قيام دولة حديثة.

ممكن: لان هذه السلطة ونظامها السياسي المعلق برافعات خارجية وبرعايات اقليمية لأطرافها، صنعت سلطتها وادامت هيمنتها على جمهورها ومحازبيها. هذه السلطة والنظام هما في لحظة ضعف مفصلية حيث اهتزت داخليا ولاءات اتباعهما القائمة على الزبائنية والفساد، بعد ان تقلصت موارد الدولة ووظائفها، كما توقفت مساعدات الرعاية الخارجية وتعطلت رافعات اطرافهما الإقليمية.

الثورة؛ انجازات

انجزت الثورة في فترة قصيرة انجازات هامة وجوهرية, منها:

  • صياغة اجندة سياسية واحدة، تهدف الى اعادة تكوين السلطة وتعتمد تدرج الانجازات عبر المسارات الدستورية.
  • أظهرت القدرة على حشد مئات الوف المشاركين، وتعدد ساحات التظاهر وشمولها كافة المدن الرئيسة، فاستعاد المواطنون المجال العام وتمت محاصرة رموز السلطة السياسية في الفضاء العام والاعلام.
  • تجاوزت كل اتهامات التخوين والتشكيك والتهويل بالحرب الاهلية، وانتصرت مطالباتها لتصبح بديهياتٍ، سلم بصحتها كل اطراف السلطة.
  • استطاعت عبر فعالياتها المختلفة أن تصوب أتهاماتها الى كل ملفات فساد السلطة ومكامن الهدر بقطاعاتها.
  • فرضت استقالة الحكومة وعطلت جلسات نيابية خصصت لتمرير قوانين ملتبسة الاهداف والغايات، وفككت تحالف اطراف السلطة واجبرت هذه الاحزاب على تمويه قبضتها على السلطة من خلال حكومة مستشارين لأحزابها، نالت ثقة نيابية هزيلة بعملية قيصرية.
  • يبقى الانجاز الاهم لهذه الثورة هو الوعي الحديث لقيم المواطنة والدولة المدنية وتكريس هوية وطنية لبنانية واحدة واعلاء حقوق الانسان الفرد في الصحة والتعليم والعمل والخدمات العامة، والالتزام بمسارات يومية للمساءلة والمتابعة. الثورة هي هنا في هذا الوعي الجديد وفي شبكة الناشطين الذين تعارفوا وتآلفوا وتشاركوا.

الثورة والتحديات

التحدي الاول والاساسي هو استدامة الثورة واستكمال مسيرتها، وذلك بالحفاظ على هذا الوعي وتعميم مفاهيمه في مجالات الثقافة والسياسة والاعلام، كما بتوسيع شبكة الناشطين وتمتين صلات التواصل والحوار والتفاعل بين مجموعاتها، والحرص على خلق ديناميات ايجابية تتيح توسيع المشاركة لقطاعات وفئات جديدة في فعاليات الثورة وانشطتها.

اما التحدي الثاني فهو القدرة على بناء النواة الاولى لسلطة بديلة للسلطة القائمة وذلك عبر استنباط الادوات الثورية اللازمة لذلك ويمكن ان يتم اعتماد ثلاثة محاور للعمل متناسقة ومتكاملة:

  • الاستمرار بمواجهة الحكومة والتصدي للمجلس النيابي والضغط عليهما من اجل السير بثلاثة اهداف متكاملة ؛
    أولها انتخابات نيابية مبكرة عبر قانون انتخاب مناسب (يمكن ان يكون قانون لجنة فؤاد بطرس مثلا)
    وثانيها اقرار قوانين محاربة الفساد والاثراء الغير مشروع، واصدار مراسيمها التطبيقية.
    وثالثها اقرار قانون السلطة القضائية المستقلة نصّاً وهيكليات وموارد بشرية.
  • انشاءForum الثورة كمساحة لقاء وحوار وتفاعل ومشاركة والتركيز على مشاركة المجموعات كافة في فعالياته وصناعة اجنداته وطروحاته، مع الحرص على اشراك نقابتي المحاماة والمهندسين ونادي القضاة والجامعات الاساسية في نشاطاته اضافة طبعا لمجموعات الحراك في مختلف الساحات. وتشكيل لجان تنسيق افقية تربط ساحات الثورة وتنسق فعالياتها، اضافة للجان اختصاص تقيم “ورش عمل” تتابع ملفات محددة وتصوغ حلولا لها.
  • اما التحدي الثالث فهو حل مشكلة العلاقة مع الجيش والاجهزة الامنية، بحيث تمتنع عن أن تكون في صف السلطة لمواجهة الثورة، واستعادة القضاء لدوره في تنفيذ القانون وحماية الحقوق المندرجة في الدستور، وتكون اجراءاته نابعة من نصوص القانون لا من تعليمات السلطة، ويكون ذلك عبر:
  • التواصل مع الجيش والقوى الامنية والنيابات العامة القضائية، لتحميلها مسؤولية الانحياز الى السلطة الفاشلة والفاسدة وتحذيرها من ممارسة العنف في وجه الفعاليات السلمية للثورة وتحييدها من موقع ان تكون اداة طيعة في يد السلطة،
  • حض القضاء على ان يرفع فعالية دوره في ملاحقة الفاسدين واخضاعهم للقانون، بدل التغاضي عن احقاق العدالة ومحاربة الفساد.
  • ايلاء نقابة المحامين ونادي القضاة، دورا رئيسا في صون الحريات العامة والحفاظ على حرية التعبير والتجمع والتظاهر، كما في التدخل في صياغة القوانين وتعديلها، وتصويب اداء الاجهزة الامنية وسلامة اجراءات النيابات العامة.

الثورة والانتظارات

تختلط في ازمة لبنان الراهنة معضلة التصدي ل ست (٦) أزمات استحقت جميعها في جدول الاعمال الوطني
١) التغيير السياسي بإرساء عقد اجتماعي جديد عبر قيام دولة مدنية حديثة، واسقاط فئة من الحكام ثبت فشلها وفسادها وارتهانها للخارج
٢) اعادة بناء الادارة العامة والأجهزة الامنية والرقابية على اساس الكفاءة والعلم والانتاجية والمهنية والحيادية، وصولا الى الحكومة الالكترونية.
٣) بناء السلطة القضائية المستقلة وتحديث القوانين وقيام آليات فعالة للمساءلة والمحاسبة، وتفعيل اجهزة الرقابة والتفتيش، وتطبيق القوانين المرعية الاجراء، واستعادة الاموال والاملاك العامة المنهوبة
٤) حل الازمة المالية العامة وعجز الموازنة واعادة جدولة الدين العام وا طفاء ٨٠% منه عبر اقتطاع جزء من فوائد كبار المودعين على مدى السنوات العشر الماضية، والحفاظ على القدرة الشرائية لأجور اللبنانيين
٥) اعادة بناء اقتصاد منتج وحديث في القطاعات الاساسية ويتطلع في المدى المتوسط، الى الاعتماد على اقتصاد المعرفة والاستثمار في البحث العلمي والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
٦) التزام سياسة النأي بالنفس والعودة للالتزام بإعلان بعبدا، وانسحاب حزب الله من ساحات المواجهة الاقليمية، وتنفيذ قرارات مؤتمرات الحوار الوطني وصولا لامساك الدولة اللبنانية بقرار السلم الحرب في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية الالتزام بقرارات الشرعية الدولية كافة، وتحسين علاقات لبنان العربية والدولية.

٧) اجراء اصلاحات هيكلية واقتصادية، في المدى القريب، لرفع انتاجية وكفاءة مرافق الدولة ومؤسساتها العامة وذلك عبر:

  • أ_ اعادة النظر بالنظام المصرفي بعد جدولة ديون لبنان واعادة رسملة المصارف وتقليص عددها، وتحميل اصحاب الودائع الكبيرة والبنوك تسديد ٦٠مليار دولار من الدين العام؛ من خلال استرجاع رساميل البنوك واموالها الخاصة؛ ٢٥ مليار+ اعادة احتساب الفوائد بمفعول رجعي حتى عشر سنوات على قاعدة (فائدة لايبر= 2.75+ 2%) ويمكن تحصيل أكثر من ٣٥مليار دولار.
  • ب_ اعداد موازنة تخفض خدمة الفوائد الى اقل من ٣% من سندات الدين وتخفض عجزها الى ما دون ٥% من الناتج الوطني الاجمالي، وحل مشكلة الكهرباء وزيادة سعر الKw ليعادل سعر الكلفة، وتشركتها مع القطاع الخاص.
  • ج_ تغيير عقود الخليوي وتشركتها مع القطاع الخاص، واعطاء رخصة ثالثة لشبكة جديدة، وبيع الMEA والكازينو وكل موجودات شركة انترا،
  • د_ استرجاع قطاع النفط من الشركات لأنه رابح، وانشاء مصفاة نفط في طرابلس واستجرار النفط العراقي.
  • ه_ تشغيل مطار رينيه معوض بطريقة ( public–private partnership = ppp ) مع شركات صينية اضافة لمنطقة حرة في مرفأ طرابلس بالاتفاق مع دولة الامارات المتحدة، وحل مشكلة مرفأ بيروت واسترجاعه للدولة.
  • و_ التشدد في استرجاع الاملاك البحرية والنهرية والبلدية وتحصيل رسومها وهدم اجزاء منها ليصبح البحر مفتوحا لكل الناس، واستيفاء رسوم وعائدات المقالع والكسارات بمفعول رجعي واجبار اصحابها على معالجة نتائج جرائمهم البيئية.
  • ز_ اعادة النظر بحجم القطاع العام ووضع خطة لرفع كفاءته وانتاجيته وتقليص حجمه، وفتح المجال لإعادة تأهيل الفائض فيه والذهاب الى مكننة شاملة وصولا الى الحكومة الالكترونية.
  • ح_ اعادة النظر في حجم القوى العسكرية وتقليص ملاك الرتب العالية (العمداء) في الجيش والاجهزة الامنية والجمارك.
  • ط_ حل شرطة مجلس النواب واقفال مجلس الجنوب وصندوق المهجرين وهيئة الاغاثة، واستبدال “مجلس الانماء والاعمار” بوزارة للتصميم والتخطيط، واعادة تنظيم مصالح المياه والمستشفيات الحكومية، لتصبح مؤسسات رابحة ومنتجة، وعدم دفع رواتب العاملين فيها في حالة تسجيل خسائر في ميزانيتها.
  • ي_ ضبط معابر التهريب، واصلاح الجمارك اللبنانية وضبط ادائها، واعادة هيكلة الريجي واصلاحها واستعادة مواردها.

خاتمة

خلاصة الأمر ان الثورة لا يقاس نجاحها بالحشد الشعبي والمشهدية الجماهيرية فحسب، لان هذا الامر هو حاجة اعلامية وتعبوية، لكي يصل الحراك الشعبي الى مرتبة الاستفتاء على الخيارات الوطنية، وقد انجزت الثورة هذا الاستفتاء وربحت نتائجه، ولا ضرورة لتكرار الاستفتاء بشكل دوري بعد ان اعترفت مجبرة اطراف السلطة بأحقية المطالب و وطنيتها، ما هو مطلوب بعد هذا الاستفتاء بلورة ديناميتين ايجابيتين الاولى

  • أرضية سياسية تتيح جردة مكامن الازمة وخطوط الصراع القائم حولها والاتفاق على قواسم مشتركة وتحديد اجندة مطالب واهداف موحدة وآليات تحرك وفعاليات متناسقة متكاملة.
  • الدينامية الثانية هي قيام Forum الثورة وهي مساحة تفاعل وحوار تشبيك بين المجموعات من أجل التنسيق والتواصل بين ساحات المناطق وبين مجموعات الناشطين، بما يحفظ ويطور القيم الوطنية للثورة، ويديم سيادة هذه القيم في وعي الشعب واجياله الجديدة، ومتابعة الفعاليات الدورية للمجموعات لتنفيذ كل اهداف الثورة ومطالبها واسقاط منظومة السلطة الفاسدة، واقامة سلطة بديلة.
السابق
ما حقيقة لقاء الحريري نصرالله؟
التالي
كتاب جديد من مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي: بين صحوتين.. الاسلام السياسي في شرق أوسط متحول