أي قانون انتخابات تحتاجه الثورة؟

الثورة اللبنانية

جرت في 6 ايار 2018 انتخابات مجلس النواب بموجب قانون جديد اعتمد للمرة الأولى في تاريخ لبنان نظام الاقتراع النسبي، بعد ان كانت القوانين الانتخابية السابقة تعتمد حصرا النظام الفردي الاكثري. وُصفَ القانون حينها بالـ “تقدمي” و”العصري” و”الديمقراطي” وأنه يلاقي من جهة طموحات المجتمع المدني والاقليات السياسية التي تعاني التهميش والاقصاء ومن جهة أخرى الفئات الطائفية التي تعاني من طغيان فئات طائفية أخرى على “مقاعدها”.

إقرأ أيضاً: «نشرة» المطالب الشعبية المزمنة!

ولكن الاطراف السياسية، “المهيمنة” بموجب القوانين الانتخابية السابقة، نجحت في تفريغ “النسبية” من حسناتها بعد أن “خاطت” قانونا درست تفاصيله بعناية فائقة، ضمنت بواسطته نتائجَ تناسبها الى حد كبير. فصار “التنبؤ” بنتيجة الانتخاب قبل الاقتراع سهلا للغاية! ما يعني في العلم الانتخابي افراغ العملية الديمقراطية من معناها وتعطيل دور صندوقة الاقتراع وتجريدها سلفا من “سلطة” اختيار ممثلي الأمة.

“كانفا” قانون انتخاب 2018

لم تستطع الفئات الضعيفة والمهمشة، المستفيدة عادة من اعتماد النظام النسبي، كسر احتكار الفئات الأقوى ولم تحقق نتائج تُذكر في انتخابات 2018. وذلك عائد لأسباب خاصة بها تتحمل مسؤوليتها، ليس مجالها الآن، ولكن أيضا وأساسا لأسباب “موضوعية” تعود لـ”كانفا” القانون المخيَّطة والمدروزة بإحكام ومنها:

  • تقسيم الدوائر الانتخابية التي جاءت مخالفة لأبسط معايير وحدة وزن الصوت (عدد المقاعد الى عدد الناخبين)، وتفاوت حجم الدوائر. فجاءت الدائرة جغرافيا “المحافظة” في مكان (بعلبك الهرمل، عكار) و”القضاء” في مكان آخر (زحلة، المتن، بعبدا)  و”عدة أقضية” في أمكنة أخرى (طرابلس المنية الضنية، البترون الكورة زغرتا بشري، صيدا جزين، الشوف عاليه، كسروان جبيل، البقاع الغربي راشيا، صور الزهراني، النبطية بنت جبيل مرجعيون). وقسمت بيروت الى دائرتين (شرقية وغربية).
  • اعتماد الصوت التفضلي في القضاء حين تكون الدائرة أكثر من قضاء شكّل عودة مقنعة للنظام الأكثري ممزوجا وممجوجا بـما يسمى “الارثوذكسي”.
  • اعتماد حاصل انتخابي مرتفع نسبيا ما حال دون تمثيل فئات “صغيرة” كثيرة وهدر الكثير من أصوات الناخبين ودفع عدد آخر من المرشحين الى العزوف عن الترشح.
  • اعتماد اللوائح غير المكتملة الأمر الذي ضاعف من حظوظ اللوائح المكتملة صاحبة الحظوة.
  • عدم تخفيض سن الاقتراع الى 18 سنة ما حرم شريحة كبيرة من المجتمع هي بالتعريف الأقل ارتباطا بالمؤسسة الحاكمة وبالعادة الأكثر طلبا للتغيير من الادلاء بصوتها.
  • عدم شمول القانون اجراءات جدية لتعزيز التنافس الانتخابي وترك بنود الانفاق والاعلام الانتخابيين دون أي قيود فعلية ما سمح لبعض المرشحين واللوائح صرف اموال طائلة ورشوة ناخبين ب”تقديمات” عينية وأموال نقدية ومشاريع الخ.. وسمح لهم أيضا باستعمال وسائل الاعلام و”صرف نفوذهم” في ساعات الذروة، فيما تُرك “صغار” المرشحين لقَدَرهم العاثر يتفرجون على خصومهم وينتظرون “طلة” اعلامية بعد منتصف الليل أو فجراً حين تكون نِسَب المشاهدة تقارب الصفر.
  • وما عزز ذلك بالاساس اعتماد سقوف انفاق في الدوائر مرتفعة جدا ما سمح للمرشحين من أصحاب المال والسلطة من صرف اموال هائلة على الدعاية والاعلان والنشاطات بالقانون فيما الاحزاب الصغيرة والمرشحون والفئات الضعيفة اكتفت بما في متناول اليد القصيرة والعين البصيرة.
  • عدم شمول القانون اجراءات جدية لحمل وسائل الاعلام على التزام القانون ومنح فترات بث متساوية لكافة المرشحين ما سمح لها بالتمييز بينهم بحجة انهم رجال سياسة درجة اولى وزراء او نواب او قادة احزاب فحازوا على اوقات بث مضاعفة كافراد وكلوائح بينما المرشحون الجدد بالكاد كانت لهم ظهورات خلف هؤلاء. من غير التطرق الى البرامج المدفوعة علنا وتلك المدفوعة سرا.
  • الاخطاء المستمرة زيادة ونقصانا في قوائم الناخبين وفي لوائح الشطب والحاجة الدائمة الى التصحيح والتنقيح، وعدم تسهيل آلية التصحيح ضمن المهلة وأحيانا عدم ادراج التصحيحات التي سجلها الناخبون قبل موعد الانتخابات وفق ما دعت اليه الوزارة.
  • اقتراع غير المقيمين الذي جاء حافلا بالاخطاء المبيتة والارتجالية ومنها تغيير اماكن الاقتراع في الخارج حتى اللحظة الأخيرة، عملية تسجيل الناخبين وما اعترتها من شكوك وشوائب في المهل والمستندات، ادارة والاشراف على العملية، تعيين لجان الانتخاب، كتابة المحاضر وتسليمها الى السفارات ومن ثم نقلها الى لجان القيد في بيروت عبر وزارة الخارجية وثم وزارة الداخلية.. الكثير من الأخطاء حدا بلجان القيد الى “تصفير” النتائج في عدد كبير من اقلام الخارج بقرار من وزارة الداخلية!
  • تعتري آلية الطعن بالنتائج في المجلس الدستوري صعوبات جمة الا اذا نجمت عن اعتراض اول الخاسرين وهو امر مقيد تماما لمبدأ الرقابة والنزاهة.
  • لم تقم سلطة الانتخابات بأي جهد حقيقي مع المواطنين لشرح مفاصل القانون الجديد وكيفية الاقتراع واستخدام ورقة الاقتراع المطبوعة سلفا واقتصرت حملاتها على لافتات اعلانية عامة او على بعض الكليبات التي بثتها على فايسبوك!
  • لم تقم سلطة الانتخابات بأي جهد حقيقي لتدريب موظفي أقلام الاقتراع على الاجراءات الجديدة وعلى قراءة ورقة الاقتراع واحتساب النتائج عند الفرز. ما انعكس في العدد الكبير للأوراق الباطلة غير المحتسبة.

كل ذلك وغيره من الأسباب دفع حوالى 51% من اللبنانيين الناخبين الى الاعتكاف عن الانتخابات ومقاطعتها وعدم الاهتمام بالاشتراك فيها ترشحا وانتخابا. وقد يكون ذلك السبب المؤسس لانتفاضة الشباب اللبناني في تشرين الاول 2019 وحتى اليوم.

مومنتوم ثورة اوكتوبر

اليوم خلقت ثورة 17 تشرين اول زخما جديدا (مومنتوم). ولأسباب عديدة، في أغلبها أسباب اندلاع الثورة، رأينا في مختلف المناطق تحركاً للكتل الشعبية غير المتحركة سابقا والتي اعتادت في السنوات الماضية مقاطعة الانتخابات وعدم الاهتمام بالمشاركة بها.

يُضاف الى هذه الكتل الجامدة المترددون من الناخبين وقد أزاحت شعارات الثورة ونشاطاتها المدنية  تفضيلاتهم، وأيضا رأينا أحيانا من فكّت الثورة ولاءه لحزبه او زعيمه التقليدي فخرج متباهيا وفخورا بحريته المستعادة.

هؤلاء الفئات الثلاث مضافا اليها الناخبون للمرة الأولى (من سيتم 21 سنة من عمره قبل يوم الانتخاب بانتظار جعل سن الاقتراع 18 سنة) تستطيع اذا ما تحرّكت انتخابيا ان تصنع فارقا هاما في النتائج وقد تنجح في قلب الطاولة رأسا على عقب بأن تنتج طبقة سياسية جديدة تمثل الناس حقا وتخدم مصالحها.

ما تحتاجه الثورة

فالشرطُ الأساسي لتحقيق ارادة الناخب هو توافر الاداة الصالحة. أي قانون الانتخاب. وقد رأينا في ما سبق كيف أن أفضل القوانين نظرياً يمكن ان ينتج أسوأ تمثيل وأسوأ برلمان، إذا ما لعبت الشياطين في تفاصيله.

القانون الانتخابي الذي تحتاجه الثورة هو القانون الذي يطبّق بالفعل وليس بالشكل مبادئ النزاهة والحيادية والشمولية والفعالية. هو الذي يضمن تنافسا حرا ونزيها بين المرشحين، وحرية الناخبين بعيدا من الضغوطات المادية والمعنوية، وهو الذي يوفّر عدالة في التمثيل بين مختلف الفئات والمناطق فتتساوى المعايير الى أقصى حد ممكن. فلا تشعر حينها فئة من الفئات بالغبن أو الاستضعاف، ولا يشعر المواطنون بالغربة عن “ممثليهم”.

هذه المبادئ ينبغي أن يؤمنها القانون الانتخابي ببنود تفصيلية دقيقة واضحة وصريحة لا تحتمل وجود هوامش تنفَذ منها لتغتالها السلطة المخولة اجراء الانتخاب أكانت هذه السلطة مستقلة محايدة أو حكومية.

بعض الثوار لا يطمئن للمطلب الشهير باعتماد لبنان دائرة واحدة وقانون نسبي خارج القيد الطائفي ويعتبره مطلب حق يراد به باطل! تطرحه فئات طائفية معروفة (الثنائي الشيعي) لتهيمن على أصوات فئات من الطوائف الاخرى، بالرغم من عدالة الطرح ظاهريا الذي يدغدغ احيانا أهل اليسار ويضلل بعض المجتمع المدني. ويقول أحد الثائرين ان لهذا الطرح اليوم تداعيات لن تكون ايجابية، خاصة وانه ينسف ركائز النظام الحالي باسم تخطي الطائفية والتوجه الى دولة مدنية في حين ان من يطرح هذ الاقتراح ما زال يرفض بقوة أبسط أسس الدولة المدنية وهو قانون موحد للأحوال الشخصية والحق في الزواج المدني إضافة الى لامركزية موسعة وحياد دولي يحمي الدولة بديلا من المحاور التي تحمي الدويلات.

 من هنا يرى البعض ان الواقعية الثورية تفرض اليوم الذهاب الى تطوير النظام وليس الركون الى وهم نسفه بالكامل لأن من شأن ذلك، في ظل ميزان القوى الحالي الطائفي/المدني، أن يعيدنا بقوة الى كنف الطائفيين بدل تحريرنا منهم مهما بدا البناء على ظاهر ترنح النظام العميق جائزا.

لذلك يرى بعض الثوار ان النظام الأكثر ملاءمة لمنطق الثورة اليوم قد يكون نظام اللوائح النسبية في دوائر متوسطة الذي يتضمن:

  • لوائح مغلقة مكتملة
  • ترتيب مسبق للمرشحين والمرشحات في اللائحة ونسبة المرشحات لا يجب ان تقل عن 40%
  • ترتيب اللوائح بشكل زيبرا اي مرشح-مرشحة-مرشح-مرشحة-الخ
  • عدم وجود اي صوت تفضيلي
  • تعيين عتبة وصول انتخابية غير مرتفعة وعدم اعتماد الحاصل الانتخابي تلقائيا
  • اعتماد دوائر انتخابية متوسطة الحجم يراعي الى حد كبير معياري تساوي عدد الناخبين وعدد المقاعد

بينما لا يرى بعضهم مانعا من الاستمرار بالنظام الانتخابي الحالي (لوائح نسبية مفتوحة في 15 دائرة) بعد إدخال الاصلاحات الاجرائية عليه.

وبعضهم الآخر يرى في العودة الى النظام المختلط (اقتراعان في الوقت نفسه: نسبي في دوائر متوسطة وأكثري في الأقضية) الذي صاغته هيئة خبراء محترمة ومستقلة برئاسة الوزير فؤاد بطرس سنة 2006 ونام في أدراج الحكومات المتعاقبة، حلا لعدة مآزق تمثيلية (طائفية ومناطقية ومدنية)، علما ان معظم الاصلاحات الانتخابية المطروحة الاخرى مُستقاة منه.

ولكن ما لا غنى عنه!

بيد ان إصلاحات إجرائية ستبقى أكثر من ضرورية لضمان تمثيل حقيقي وفعال مهما كان شكل النظام الانتخابي لجهة عدد الدوائر او طريقة الانتخاب.

وهذه الاصلاحات تحظى على توافق أغلب المجموعات المنتفضة وأبرزها:

  • إنشاء هيئة إدارة واشراف مستقلة ومحايدة وذات مصداقية وخبرة تخضع لها أجهزة وزارة الداخلية المعنية بالانتخابات بالكامل طيلة فترة الانتخابات أي منذ دعوة الهيئات الناخبة وحتى انتهاء فترة الطعون. كما لها سلطة تحريك النيابات العامة والقضاء، وتناط بها كافة مراحل الانتخابات. فهي السلطة العليا للانتخابات التي تضع مخططا شاملا ومفصلا وتوزع المهمات وتسهر على تنفيذها بحسب جدول زمني معلن. كما تسهر على التثقيف الانتخابي وعلى التواصل مع كافة الشركاء في العملية الانتخابية.
  • إنشاء مصلحة القوائم الانتخابية في وزارة الداخلية وتخضع المصلحة لهيئة الانتخابات. مهمة المصلحة تنقية وتحديث قوائم الناخبين في لبنان وفي الخارج والاعلان عنها طيلة السنة.
  • تعديل الدستور لجهة تخفيض سن الاقتراع الى 18 سنة.
  • تعديل الدستور لجهة إدخال كوتا نسائية حد أدنى في المقاعد وفي الترشيح.
  • تعديل قانون انشاء المجلس الدستوري لجهة إعطائه صلاحية الطعن في قانون الانتخاب كاملا أو في بعض مواده عفواً وإبطاله، من غير الحاجة لانتظار طعن مرشح خاسر في النتائج.
  • تعديل آلية الطعن في نتائج الانتخابات لجهة تمكين المجلس الدستوري من البت في الشكاوى من أي مواطن ومن هيئات المراقبة وكذلك من هيئة الانتخابات وليس بعد طعن المرشح الخاسر فقط.
  • تعيين سقف للانفاق الانتخابي غير مرتفع يراعي مبدأ التنافس الديمقراطي.
  • تعزيز التنافس الانتخابي عن طريق وضع بنود واضحة تحدد كيفية تعامل وسائل الاعلام مع المرشحين كافة والتشدد في تطبيقها. والفصل التام بين تغطية الأخبار السياسية وبين تغطية نشاطات السياسيين الانتخابية.
  • اعطاء حق الناخب الاقتراع في مكان سكنه للوائح دائرة قيده بعد تسجيله المسبق. لتحريره من قيود مادية ومعنوية درجت على محاولة تكبيله ورشوته بها طبقة المتنفذين. وذلك إما باعتماد بطاقة انتخابية الكترونية وعملية اقتراع ممكننة بالكامل أو باعتماد مراكز اقتراع مخصصة لذلك في مواقع جغرافية معينة (ميغا سنترز في مراكز المحافظات).
  • السماح لمنظمات المراقبة المحلية والدولية بالرقابة على كامل العملية الانتخابية وبالوصول الى كافة المعلومات المتصلة واعتماد اعلى معايير الشفافية في ذلك.

علماً أن حكومة حيادية ومن غير المرشحين هي شرط حاسم لضمان نزاهة الانتخابات حتى ولو أنيط تنفيذها بهيئة مستقلة ذات صدقية. لأن الوزير المرشح قد لا يتدخل في الاجراءات الانتخابية وتطبيقها مباشرة ولكن شبهة استغلال نفوذه الوزاري ستلطخ العملية بالكامل. رأينا كيف هرع وزراء عديدون الى حشو إداراتهم بموظفين لا فائدة ترتجى منهم الا يوم الانتخاب في صندوقة الاقتراع، وكيف سخّروا وزاراتهم للقيام بمشاريع انمائية هبطت زفتا على الطرقات هبوطا اضطراريا في مناطق انتظرته طويلا، وكيف احتالوا على قانون الاعلام الذي فقد السيطرة على وسائله وهي تتسابق لتغطية قص شرائط افتتاح هذا الوزير أو ذاك وجميعهم يعزون مقصّاتهم إما لشخصهم الكريم أو لحزبهم المُلهَم.

السابق
بعد المطاردة الدامية.. قيادة الجيش تشيّع شهداءها!
التالي
سوريا في الأوسكار.. من المدن المُدّمرة إلى السجادة الحمراء