كفررمان سنديانة الجنوب وملجأ ثوار تشرين: أهلاً بالتنوع

كفررمان

اضطلعت بلدة كفررمان في قضاء النبطية، بدور محوري في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، نظرا للخصوصية السياسية والثقافية التي تنفرد بها، بين بلدات المنطقة، وبفضل وعي أهلها المتقدم في شؤون السياسة وشجونها، وتمرسهم في الشأن العام. وتحولت البلدة على مدى أيام الانتفاضة الشعبية، إلى مساحة حرية وأمان لكل أبناء المنطقة، خصوصا أبناء مدينة النبطية، الذين استمدوا من أجوائها، الكثير من الحماسة والإندفاع والأمل، بعد ما تعرضوا له من أعمال عنف وقمع وتخوين.

فشكل “دوراها”، دوار كفررمان، حضنا لحراك النبطية، ونقطة لإعادة تجميع أنفاسه، بعدما كادت تخفت أو تتلاشى، بحكم الضغوط والحساسيات التي سيطرت على أجوائه. وأعادت الحوارت السياسية التي تقام في خيمة “الدوار” ترميم نسيج الثقة في نفوس ثوار النبطية، للإنطلاق مجددا نحو المواجهة، وترجمت كفررمان هذا الزخم المعنوي، بخطوات عملية، حيث ساندت حراك النبطية، بمسيرات شعبية نحو المدينة، تكللت أمس بمسيرة حاشدة، وصلت إلى محيط السراي الحكومي، وتلاقت مع المعتصمين هناك. يضاف إلى ذلك كله أنها بقيت وعلى مدى 22 يوما من عمر ثورة تشرين الملجأ الليلي للثوار الذين كانوا يسيرون إليها للإنضمام إلى المعتصمين في دوارها مع حلول المساء، بعدما تعرض ثائرو النبطية لما تعرضوا له في منطقتهم.

اقرأ أيضاً: ثوار الجنوب يزيحون.. «عبء العباءة»!

ولكن لماذا كفررمان؟     

ما حصل ويحصل ليس غريبا على كفررمان، التي عادت وبرزت مجددا، كملتقى للباحثين عن الخبز والحرية، فللبلدة تاريخ من النضال السياسي والمقاومة، منذ نكبة فلسطين حتى يومنا هذا. 

أول عهد كفررمان بالنضال، كان في أواخر الأربعينيات، حين نظم أوائل المنتمين إلى الحزب الشيوعي اللبناني، الذي دخل البلدة باكرا، مظاهرة في ذكرى الثورة البلشفية، أدت إلى اعتقال كل من شارك فيها.

بعدها،  قرر الرفاق الشيوعيون، البدء بتكوين أول خلية للعمل الثوري المنظم في البلدة، واضعين ضمن جدول أعمالها، التثقيف السياسي، تحريض الفلاحين والعمال على الإقطاع، وتشكيل مجموعات مقاومة للدفاع عن فلسطين، وكان أبرز وجوهها أبو سمير بصار، أبو خلدون أبو زيد وحسن محيي الدين، فكانوا يتثاقفون أثناء عملهم في الحقول، ويسطرون البيانات والمنشورات التحريضية، خلف أبواب البيوت الموصدة، بعيدا عن أعين الدرك، الذين لم يعدموا وسيلة في سبيل قمعهم وزجهم في السجون.

ويحمل أهالي كفررمان، في نفوسهم، ذكرى طيبة عن الرئيس فؤاد شهاب، الذي تدخل مرة، لإطلاق سراح عدد من المحرضين على الإقطاع، الذين سيقوا إلى مخفر الدرك في النبطية بتهمة توزيع مناشير ضد السلطة السياسية.

كانت كفررمان في ذلك الوقت، واحدة من قرى التبغ الجنوبية، يقوم عصبها الإقتصادي والمعيشي على زراعته، ويروي الشيوعيون الأوائل، أن زراعة التبغ في الجنوب، كانت قائمة على نظام “الرخصة”، التي تحتكرها العائلات الإقطاعية نظرا لارتفاع قيمتها المادية، مما جعل المزارعين الفقراء أجراء لدى طبقة إجتماعية برجوازية، تستغل عرقهم لمراكمة ثرواتها، فكانوا يعملون وفق نظام “الساعة”، بأجر زهيد، بينما تذهب أرباح الموسم الوفيرة إلى خزائن أصحاب الرساميل.

شكل هذا الواقع، بيئة مناسبة لشيوعيي البلدة الأوائل لإطلاق فكرة الصراع الطبقي، التي تشكل جوهر النظرية السياسية الإقتصادية للماركسية، ومنها استمدوا فكرة تخفيض ساعات العمل، فحرضوا على الثورة على هذا النظام القائم، ونجحوا في استمالة شريحة واسعة من مزارعي التبغ في المنطقة، مما أدى لاحقا إلى تحقيق أول انتصاراتهم على النظام الإقطاعي، حيث تمكنوا من انتزاع قرار بتخفيض عدد ساعات العمل، ساعتين في اليوم.

 نجح شيوعيو كفررمان في مجال التربية أيضا، عملا بالمقولة الثورية “عمال وفلاحين وطلبة”، ففي منتصف الخمسينيات، أطلقوا حملة تبرعات لبناء مدرسة رسمية في البلدة، تليق بأبنائهم، وتمكنوا بعد مرور بضع سنوات على اقتطاع قروش كثيرة من مداخيلهم الضئيلة، من شراء أرض واستحصال رخصة لبناء المدرسة. 

في منتصف الستينيات افتتح المناضل الشيوعي حكمت الأمين، عهد السفر طلبا للعلم، إلى الإتحاد السوفياتي، فغادر سرا إلى موسكو لدراسة الطب، كون السفر إلى الإتحاد السوفياتي ودول المعسكر الشرقي، كان محظورا على اللبنانيين، بموجب قرار رئاسي في تلك الفترة، ثم، بعد استقراره في موسكو، شرع في تأمين منح دراسية لأبناء بلدته، واستقدامهم إلى جامعات الإتحاد السوفياتي، مما أنتج لاحقا، طبقة متعلمة، مثقفة، من أبناء الفلاحين في البلدة، كان أبعد أحلامها تأمين قوت يومها، بسبب انقسام المجتمع آنذاك إلى بكوات وفلاحين. 

عاد حكمت الأمين من الاتحاد السوفياتي، في مطلع السبعينيات، طبيبا مختصا في طب الأطفال والقلب والشرايين، ناذرا نفسه وعلمه وخبرته لخدمة أهله، فافتتح أول مستوصف طبي في كفررمان، كما أسس مستوصفات أخرى في عدد من القرى الجنوبية، ووضع نواة مستشفى “النجدة الشعبية اللبنانية”، فجذب بعمله الإنساني والإجتماعي أنظار أهل المنطقة، إلى كفررمان. في هذا الوقت أيضا، بدأت طلائع المتعلمين، الذين درسوا في الإتحاد السوفياتي ودول المعسكر الشرقي، تعود إلى البلدة، مما حول كفررمان، إلى نموذج حضاري إستثنائي بين بلدات المنطقة، عما يمكن للطبقات الاجتماعية المهمشة، أن تصنعه، إذا ما حظيت بفرصتها المناسبة، أو إذا ناضلت من أجل حياة أفضل.

في العام 1973 شهدت منطقة النبطية، انتفاضة مزارعي التبغ، في وجه سياسات شركة “الريجي” الإحتكارية المتآمرة مع السلطة والإقطاع. فبعد تراجع زراعة التبغ في مناطق الشمال، باعت الشركة، رخصا كبيرة لكبار المزارعين في الجنوب، بأسعار زهيدة، بينما باعت رخصا صغيرة، لصغار المزارعين بأسعار عالية، مما خلف نقمة في نفوس المزارعين الفقراء، ضد الدولة والشركة والنقابة معا، دفعتهم إلى رفع لواء الثورة، وكانت كفررمان، جاهزة للمشاركة في هذه الانتفاضة، عبر مزارعيها المثقفين، فانضم أهلها، إلى الحشود التي تدفقت باتجاه مبنى “الريجي”، الذي يقع عند مدخلها الغربي، وشهد يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر، سقوط أول قطرة دم، على أرض كفررمان، بعدما أطلق عناصر الدرك، النيران على المتظاهرين وأردوا المزارعين: نعيم درويش (حبوش) وحسن حايك (كفرتبنيت).

خسرت كفررمان في بدايات الحرب الأهلية، في منتصف السبيعنيات، سهلها الخصيب (سهل الميدنة)، الذي كان مخصصا لزراعة التبغ، بسبب تحوله إلى خط تماس بين المقاومة الفلسطينية والأحزاب اليمينية اللبنانية، إذ إنه يفصل قضاء النبطية عن قضاء جزين جغرافيا، فسحبت “الريجي” حوالي ألفي رخصة تبغ من أيدي المزارعين، وأصيبت كفررمان بأولى نكساتها الاقتصادية. بعد الإحتلال الإسرائيلي وانسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان، لم يرجع السهل إلى أهله، فقد كان مزروعا بالألغام، مما أجبر الأهالي على الهجرة القسرية، سعيا وراء الرزق، فتوزع أهلها في المنافي الداخلية والخارجية، فكانت نكستها الثانية. أما بعد الإنسحاب الإسرائيلي الجزئي من الجنوب في العام 1985 وحتى سنة التحرير في العام 2000، تحولت كفررمان، خصوصا حيها الشرقي، إلى نقطة مواجهة متقدمة مع العدو الإسرائيلي، وتعرضت طيلة هذه الفترة، إلى عمليات قصف انتقامية، وشهدت مذابح مروعة، وقدمت أكثر من 150 شهيدا، لكنها بسبب نفسها المقاوم، لم تحسب هذه المحنة من ضمن نكساتها، بل أضيفت بطبيعة الحال إلى سجل بطولاتها وبطولات أهلها.

بعد التحرير، استعادت كفررمان حيها الشرقي المنكوب، وكانت حصتها وافرة من مجلس الجنوب، فباشرت فورا بأعمال البناء والترميم، كما عاد سهل الميدنة إلى حضنها، لكنها لم تعد إلى زراعة التبغ، وبدلا من ذلك، عمد أهلها إلى زراعة الخضر والحشائش والفجل والجزر الأحمر، وتفردوا بجني السليق الربيعي، فصارت سلة خضار المنطقة، بلا منازع.

تقول سميرة، إن كفررمان اشتهرت بشيوعيتها وتنوعها وانفتاحها، لكنها في الواقع، تستمد شهرتها من علاقة أهلها بالأرض وحبهم للزراعة، فالطبيب في كفررمان يخرج من عيادته إلى الحقل فورا، والمربي يستبدل كتبه ودفاتر علاماته بعد الدوام بالمعول والمرشة، لهذا السبب، صمد أهلها فيها، رغم الأيام السوداء التي مرت عليهم أيام الاحتلال، فابن المدينة، بإمكانه أن ينقل معه حوض الورود من شرفة إلى أخرى، بينما يموت الفلاح إذا فُطم عن أرضه.

بعد مرور 19 عاما على التحرير، تغير وجه كفررمان التاريخي، فلم تعد “كفرموسكو” كما يطلق عليها أهل المنطقة، خف وهج الشوعيين فيها، لصالح حضور قوي لحزبي الثنائية الشيعية، حركة “أمل” خصم الشيوعيين السياسي التقليدي، و”حزب الله” نقضيهم الأيديولوجي كما يعتبره البعض، لكن ذلك، لم يغير من واقعها الثقافي والإجتماعي، فظلت بلدة التعدد والتنوع والإنفتاح، تتقن إدارة تناقضاتها السياسية والثقافية، بما ترسخ في وعي أهلها من قيم التقبل والإعتراف بالآخر، فكثرت فيها النوادي الثقافية والرياضية والكشفية لكل الأطياف، واستقبلت تجار الخمور الذين نبذتهم المنطقة، تحديا، أو رغبة في تسجيل المزيد من التفرد ربما، ووسعت دائرة احترامها للإختلاف، لتضم محازبين خارجين عن مألوف المنطقة، مثل “اليسار الديمقراطي” وتيار “المستقبل” وآخرين من “حركة الشعب” و”البعث” و”القومي” وغيرهم.

وفي حراكها اليوم، يشارك كل هذا المزيج، تحت ظل العلم اللبناني، في إعلان رفضه لما آلت إليه المنطقة، من تراجع على كل الأصعدة، ويتوحد في المطالب المعيشية والخدماتية، ويوجه سهام نقده نحو المقصّرين والفاسدين، ويسمي الأشياء أو الأشخاص بأسمائهم، من دون تورية ولا تحفظ، على عكس أهل المنطقة، الذين يؤثرون نهج اللعب على الكلمات.

حال كفررمان على صعيد الإنماء، امتداد لحال المنطقة، من غياب تام للمشاريع التشغيلية وفرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة لدى جيل الشباب، وحصر وظائف الدولة بين التابعين والمستزلمين، وإخفاق في معالجة الملفات الخدماتية، من طبابة وكهرباء وماء ونفايات وبنى تحتية، وهذه أكبر نكساتها التاريخية.

هذه الأيام، يشكل دوار كفررمان، موقعا آخر من مواقع النضال والمقاومة والصمود، للبلدة ذات التاريخ الأحمر، والدوار نقطة جغرافية، يلتقي عندها مدخلان إلى تاريخ منطقة النبطية، واحد شرقا باتجاه كفررمان، وآخر جنوبا باتجاه مدينة النبطية، هذا التماهي الجغرافي والتاريخي بين البلدة والمدينة، ارتقى بالحراك في كليهما، إلى مستوى ثقافي اجتماعي متقدم، يحمل طابعا فكريا وسياسيا له طروحاته، في إصلاح الدولة وشكلها ونظام حكمها، ووحدهما في موقف وطني، تغلبت فيه العاطفة الوطنية على كل ما عداها من عواطف.

السابق
ثوار الجنوب يزيحون.. «عبء العباءة»!
التالي
دار الفتوى يردّ على «الإفتراءات المبرمجة»: لا نسمح بالمس بموقع مفتي الجمهورية