الثورة اللبنانية في سياقها العالمي: حدود الاهتمام

الاحتجاجات في لبنان

تشيلي، بوليفيا، فرنسا، الجزائر، لبنان، العراق، هونغ كونغ. يمكن لهذه القائمة أن تتوسع أو تضيق وفق المعايير المعتمدة. الشرط المستوفى هنا هي أن هذه البلدان تشهد حراكاً يتحدى النظام القائم ويشهر لذاته مشروعية سيادية تعلو على هذا النظام، وصولاً إلى رفض إملاءاته ومحاولاته لتطويق الحراك والمطالبة بإسقاطه.

هذا تشابه بالشكل وحسب، إذ تختلف دوافع التحركات التي تعيشها هذه البلدان، كما وتيرتها ومضامينها. وعلى أساس هذا الاختلاف، يجدر بالثورة اللبنانية موازنة التوقعات والمحاذير وتبين مقادير الاهتمام الدولي الممكن وحدوده.

ففي تشيلي، ما ابتدأ حراكاً مطلبياً في وجه رفع أسعار النقل العام، تحوّل بفعل سوء إدارة السلطة للأزمة إلى إعادة فتح جراح كان يفترض أنها اندملت حول العلاقة بين المجتمع وقواه الأمنية، والتي كانت قد استولت على السلطة قبل زهاء نصف قرن وأطاحت بأول رئاسة يسارية منتخبة في العالم الجديد.

ورغم الاستجابة المتأخرة للسلطة لمطالب المتظاهرين، فإن نتيجة المماطلة والبطش، بما في ذلك قتل العشرات من المتظاهرين، كانت تصدّع الثقة بالنظام السياسي، ما ينذر بعواقب مقلقة في المراحل المقبلة.

اقرأ أيضاً: لماذا يعتبر حزب الله الثورة اللبنانية بمثابة حاجز أمامه؟

في الاهتمام الذي تبديه العواصم الكبرى إزاء الثورتين العراقية واللبنانية قصور دون شك

أما في بوليفيا، فما ابتدأ كدفع تصحيحي لانغماس أول رئيس من سكان البلاد الأصليين بتهم فساد بعد أعوام طويلة في منصب الرئاسة، وهو الذي جاء إلى الحكم محمّلا بوعود الاشتراكية والإصلاح والعدالة الاجتماعية، أخرج بنهاية المطاف، بعد سحب القوات المسلحة ثقتها بالرئيس، تبديلاً مفاجئاً بالنسبة للعديدين في الخطاب والمواقف الرسمية للدولة، نقل البلاد من موقع السعي إلى التأسيس لاشتراكية محلية، إلى عودة إلى ماضٍ من الانفصام العرقي والديني لغير صالح السكان الأصليين. ففي بوليفيا، كما في تشيلي، الحصيلة الفعلية ليست حلّ قضية طارئة بقدر ما هي التأسيس لأزمة عميقة مستقبلية.

أما في فرنسا، فقد جمعت تظاهرات ستراتها الصفراء، على مدى عام تقريبا، توجهات مختلفة من الاعتراض على رئاسة إيمانويل ماكرون، تراوحت في طروحاتها ومضامينها من أقصى اليسار الفوضوي جهارا إلى اليمين المتشدد، وإن تلميحا، واتخذت أشكالا عنيفة وتخريبية حينا، وسلمية واستقطابية أحيانا.

على أن الحراك بمجموعه، وإن اعترض على الرئيس والجمهورية وطالب برحيل أحدهما أو كليهما، يشكل جزءا لا يتجزأ من البنية التعاقدية الاجتماعية الثابتة في فرنسا، والتي ارتضت التظاهر، بما في ذلك الذي يلامس العنف ويمعن به، كجزء من التفاوض السياسي المتاح للمجتمع في تحدّيه للدولة والعمل على تغييرها.

فقد ينحسر حراك السترات الصفر ويجري استيعابه، كما قد يشتعل وينجح في الحشد والتعبئة وصولا إلى استبدال الجمهورية الحالية بأخرى. ولكنه في الحالتين يبقى ضمن نطاق العقد الاجتماعي القائم في فرنسا، والذي يقرّ للمواطن بالسيادة الأصلية.

وعلى مدى تاريخها الجمهوري الطويل، شهدت فرنسا حالات متتابعة من أفعال التحدي والإسقاط هذه. ورغم العرقلة المتحققة في كل حالة للحياة اليومية، فإن هذه الأفعال هي جزء لا يتجزأ من الحيوية التلقائية والوعي السياسي في فرنسا. غير أن أهميتها تأتي اليوم مضاعفة لأضلاعها كذلك بدور المؤشر على وطأة الشعبوية وتأثيرها، لا في فرنسا وحسب، بل على مدى الفضاء الأوروبي.

أما في الجزائر، بما حققه الحراك من نجاح في إرغام النظام على القبول بمبدأ التغيير الرئاسي، وما يعتمده من أساليب ضغط ومتابعة جماهيرية للإصرار على أن يتعدى المسار المطروح الخطوات التجميلية، فيبدو أن الحراك يستدعي النموذج الفرنسي في البقاء ضمن إطار العقد الاجتماعي وإن أصرّ على مطالبته بالانتقال إلى الصيغة التمثيلية الصادقة التي تفكك الاستئثار الحاصل بموارد البلاد وأساليب إدارتها.

وفي المواجهة بين السلطة السياسية والمجتمع المعارض لها، أرست المؤسسة العسكرية قواعد الاشتباك والفضّ، متجنبة بالتالي احتمال الانهيار، والذي حصل بالفعل في ليبيا، وتبقى اليوم هي بدورها أمام اختبار وخيار لصورة الانتقال المتحقق، ما بين الارتقاء إلى الصيغة التونسية، والتي شهدت انكفاء للمؤسسة العسكرية عن التوغل بالعملية السياسية، وإعادة انتاج الصيغة المصرية (وهي ليست بعيدة عمّا كان قائما في الجزائر) حيث عمدت المؤسسة العسكرية إلى الاتجاه المعاكس، ووضعت اليد على البنى السياسية في تجديد للأبوية تحت شعار إعادة الاستقرار.

فالحراك الجزائري، دون التفريط بخصوصياته، يندرج بالتالي في إطار البروز المتجدد لـ “الربيع العربي” (وإن ساء البعض التسمية)، أي مجموع التوجهات والنزعات الساعية إلى تحدي الأبوية السياسية (والعسكرية) وإشهار سيادة المجتمع على نفسه ضمن المحيط العربي.

أما في هونغ كونغ، فتكاد أن تكون المواجهات التي اندلعت بحجة إجراء عدلي، محتومة ومحكومة بأن تجد المبرر في زمن ما لتشتعل. فالتفاوت الخطير في القوة ضمن مقولة “وطن واحد، نظامان اثنان”، لغير صالح هونغ كونغ، الصغيرة مساحة وتعدادا، إزاء العملاق الصيني، قد سمح لبعض التسكين في العلاقة بين الجانبين، دون أن يبدد مخاوف الطرف الضعيف من أن المعادلة آنية وحسب، ودون أن يلجم الطرف القوي عن أن يعتبرها كذلك بالفعل، ولا سيما أن الاختلاف بالنظام، بشقّه الاقتصادي لا الحقوقي، أخذ بالتضاؤل وإن الشكلي.

ما يشهده العراق ولبنان هو دون شك الحدث الأهم في التاريخ الحديث لكليهما

في الصين من يريد بالفعل الانتهاء من مخلفات الاستعمار الباقية في هذه الصيغة، وإن بالصبر والتأني، وفي هونغ كونغ من يتحين الفرص لتجنب الاندماج في النظام المركزي الصيني المبطِل للحقوق.

على أنه إذا رأى الناشطون في هونغ كونغ أن المسألة هي حق تقرير المصير لمقاطعتهم الصغيرة وحسب، فالنظرة الصينية إلى الموضوع هي أنه يطال صلب الوحدة الصينية. فالتغاضي عن هونغ كونغ يستدعي مباشرة رغبة لدى تايوان بتثبيت استقلالها، وقد يعطي زخما لصفحة تريدها الصين مطوية في التيبت، بل حتى في تركستان الشرقية.

أي أن تشيلي وبوليفيا هما ظاهرتان لتحولات ذات عواقب جدية تبدّل من الصبغة السياسية والاستقرار في أميركا اللاتينية، “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة، فيما السترات الصفراء اختبار لمدى جدية مناعة فرنسا إزاء الشعبوية، وبالتالي استشفاف لأدوار هذه الشعبوية على مدى القارة الأوروبية مستقبلا.

وفي الجزائر، وهي الجارة المباشرة لأوروبا القلقة، المتابعة هي لمدى إمكانية إيجاد مخرج يحافظ على الاستقرار الآني ويساهم في تبديد الاحتقان وتجنب الانفجار. جميعها مسائل تفوق الثورة اللبنانية من حيث تأثيرها المباشر على عواصم القرار.

وعند إدراج الثورتين العراقية واللبنانية في هذا السياق العالمي، يتبين ضيق نطاق الاهتمام العالمي بهما. ما يشهده العراق ولبنان هو دون شك الحدث الأهم في التاريخ الحديث لكليهما. فالثورة هنا وهنالك ليست ضمن النظام بل عليه، وليست راضية بالعقد الاجتماعي القائم بل تسعى، وإن بقدر من التردد أو الإبهام، إلى صياغة بدائل له. على أن الناتج القطعي لهاتين الثورتين، إن تحقق، رغم أهميته الذاتية، لا يبدو مؤثرا على الأوضاع العالمية إلا من وجهين، الأول اقتصادي ولكن محدود، والثاني مرتبط بالتحدي، وإن العرضي، لمشروع الهيمنة الإيرانية.

في الاهتمام الذي تبديه العواصم الكبرى إزاء الثورتين العراقية واللبنانية قصور دون شك. وتأتي التغطية الإعلامية العالمية، غير القادرة ولا الراغبة بتفصيل الموضوع، لربط إبراز الحدث بالقمع. ثمة فائدة نظرية لهذا الربط، وذلك في لجم قوى السلطة عن البطش. غير أن حسابات بعض هذه القوى في العراق تحديدا، أو بالأحرى حسابات من يوجّهها، تدفع باتجاه تسديد الثمن الإعلامي، للحاجة الحرجة إلى القمع، رغم أن هذا المنحى لا يبدو نافعا.

في لبنان وبشأن لبنان، ثمة من يعترض، وثمة من هو في الصف المعارض للثورة أكثر ميلا إلى الشماتة، بأن الإعلام العالمي لم يعطِ الإبداع الحضاري في الثورة اللبنانية قدره من التركيز.

غير أن هذا الاعتراض ليس في محله. فالتجليات الثقافية والفنية والفكرية والاحتفالية والمدنية للثورة اللبنانية، والمبادرات المبتكرة المتتالية، سواء منها ما يأتي من الأفراد أو المجموعات، تحقق بالفعل الفائدة المرجوة منها.

وهذه الفائدة هي إثراء الرصيد الوطني المشترك في السعي إلى استشفاف معالم العقد الاجتماعي الجديد المتجاوز للصيغ القائمة، الإقطاعية والطائفية والتبعية.

فالمسألة ليست سبقا استعراضيا بل بناء وطن، وهو ما تحققه الأيدي المتشابكة على طول الساحل، والهتافات المتخاطبة في كافة الساحات، والإنتاج التشكيلي المصرّ على القيام من رماده بعد كل حادثة حرق وتدمير.

الثورة، بحضاريتها وسلميتها وإبداعها هي لأهلها أولا، ولا يضرّها ضمور الاهتمام العالمي بها

تابع العالم أم لم يتابع الثورة اللبنانية، بل في حال بقيت متابعته للثورات، كما في العراق وإيران، مشروطة بسقوط القتلى، فعساه ألا يتابع، فإن الدورة الإنتاجية لهذه الثورة في بنائها لصورة ذاتية وفق مقاييس جديدة يختارها المجتمع اللبناني لنفسه، قائمة للتوّ.

وإذا كان عمق الرسوخ لمقومات النظام، وتوظيفه المُحكم للنهب والفئوية، يجعل من الانتهاء منه مسألة شاقة تتطلب النفس الطويل لتحسين إمكانيات النجاح، فإن ما أنجزته الثورة اللبنانية من إبراز للطاقة الكامنة في مجتمعها الذي كان ممنوعا عليه أن يتحد، قد بلغ للتوّ الحد الذي يستحيل معه العودة إلى ما قبلها.

لا بد من الاستمرار في دعوة العالم إلى الانتباه للواقع اللبناني، تحصينا للثورة من بطش ممكن بحقّها، ودعوة للمغتربين للمساهمة في الأعباء والانتماء إلى هذا الوطن الجديد الذي ينبعث من حطام “الجمهورية الثانية”.

ولكن فيما يتعدى هذه الأوجه العملية، فالثورة، بحضاريتها وسلميتها وإبداعها هي لأهلها أولا، ولا يضرّها ضمور الاهتمام العالمي بها، إذ يبني الإنسان اللبناني هويته الوطنية التي استفادت الطبقة الحاكمة بالأمس من خنقها، والتي تعمل اليوم جاهدة على منع تحققها.

السابق
في صيدا.. قطع طرقات واقفال شركتي كهرباء لبنان وأوجيرو: «الجوع قتلنا»!
التالي
قطع للطرقات في طرابلس واعتصام امام البلدية