تاريخ من الفساد يفجر 17 تشرين.. هل يستحق لبنان ثورة؟

يطالعنا كل يوم، بعد اندلاع ثورة 17 تشرين في لبنان، سياسيون وإعلاميون ومثقفون ونُخب بكلام يحذرون فيه اللبناني من حرب أهلية أو طائفية على الأبواب، إذا بقي الحَراك على حاله، تحت قاعدة أن كل حَراك بشعارات مطلبية، مصيرها التسييس ثم اندلاع حرب أهلية. ويذكِّرون اللبناني بالأحداث التي سبقت حرب 1975، إعتصام عُمال معمل غندور، وتظاهرة أمام شركة الريجي وتظاهرة صيادي الأسماك في صيدا. ولكن موضوعياً، وإذا أردنا استحضار التاريخ وتفاصيل الأزمات التي مرّ بها لبنان، لإستشراف المرحلة المقبلة، فالأقرب من حيث تشابه الأسباب، هي أزمات 52 و 58 و 66 مجتمعةً. وليس بالضرورة أن نصل إلى ما وصلت إليه البلاد بعد تلك الأزمات، خاصة إذا كانت سلبية؛ بل بغية عدم تكرار الأخطاء ولتصحيح المسار وعدم اللعب على وتر ترهيب المواطنين ل”حاجة في نفس يعقوب”. وما هي “الحاجة” إلا بقاء تلك الطبقة الفاسدة في الحكم!؟

أزمة 1952

فقد حكم لبنان بعد نيله الإستقلال ثلّة أوليغارشية تجارية مالية، يسيطر عليها الرئيس بشارة الخوري، ويديرها أخيه المُلقّب ب”السلطان سليم”. ومن خلال نفوذهم السياسي وقوتهم الإقتصادية، استطاعوا بناء نموذجاً للعلاقة بين السياسة والإقتصاد، سيطروا من خلالها على الحكم برمته. وفي ظل ازدياد ثراء تلك الطبقة، عانى باقي السكان ارتفاعاً شاهقاً في مستويات المعيشة والبطالة، وظهر الفساد. وهي حالة شبيهة تماماً بالذي يحصل في أيامنا هذه، من طغمة فاسدة حاكمة، ومحيط أوليغارشي أخطبوطي، يتّخذ من المحاصصة الطائفية ركيزة لتشريع فساده.
والملفت في الأمر، ومن باب تشابه الأزمان، أن من أوجه الفساد الذي كان يعيشه لبنان أثناء حقبة الخوري، ملف الكهرباء أيضاً! في تلك المرحلة، عرضت شركة أميركية إنتاج الطاقة وبيعها أقل ثلاث مرات من السعر الذي تبيعه شركة كهرباء نهر ابراهيم. غير أن “شركة الجر والتنوير” نسفت المشروع من أساسه، يدعمها محاميها خليل الخوري، ابن رئيس الجمهورية. ألا يذكركم بعرض “جنرال ألكتريك” للدولة منذ سنوات ورفضه وزير الطاقة حينها جبران باسيل!؟

ومع ظهور الفساد وتكشفه في عهد الرئيس الخوري، نشأت معارضة “الجبهة الوطنية الإشتراكية”، تكونت من كمال جنبلاط وكميل شمعون وغسان تويني. ومن الأهمية بمكان أن نستعرض برنامجها الذي يستلهم أفكار كمال جنبلاط: إلغاء الحصص الطوائفية في الإنتخابات النيابية، استقلال القضاء، الدفاع عن حرية الصحافة والأحزاب السياسية، إلغاء ألقاب الفخامة، تحقيق الضمان الإجتماعي والضمان ضد البطالة للعمال والفلاحين والمثقفين وتحويل “الشركات الإستغلالية” إلى تعاونيات يكون فيها أسهم للمستخدمين. والملفت أيضاً أن جنبلاط طالب بقانون “من أين لك هذا؟”.
المطالب التي رفعها سياسيو لبنان ذلك الزمان هي نفسها التي يرفعها المتظاهرون اليوم؛ والسؤال “لماذا لم يحققوا منها شيئاً!”، بل إن الأحداث التي أعقبت استقالة الرئيس الخوري بعد رفض ثلاث شخصيات سنية تولي رئاسة الحكومة، ومجيء أحد أركان المعارضة رئيساً للجمهورية، كميل شمعون، أكدت تنصل الأخير من إلتزاماته، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى تفجير أزمة جديدة عام 1958 ستكون درساً لنا أيضاً.
من الأهمية بمكان، التأكيد على أن الرئيس الخوري في ظل تلك الأزمة، ومحاصرته من قبل جميع القيادات والزعماء من مختلف الطوائف، كان يستطيع الإعتماد على أغلبية برلمانية لتجديد ولايته. لكن التكاتف عابر للطوائف حجّم من إمكانياته وضيّق عليه وأرغمه على الإستقالة.

إقرأ ايضاً: أين يُصنع القرار الحزبي في لبنان؟

أزمة 1958

عن العوامل الخارجية والتي تفتك بلبنان كساحة إنعكاس لصراعات إقليمية والتي تتوافر لها الإستدعاءات والحاضنات الداخلية، نستذكر أزمة 1958 ونستلهم منها درس ما أفضت إليه: مصلحة القوى الإقليمية والكبرى لا تلتفت لحليف هنا أو هناك. فبعد انتهاء عهد بشارة الخوري، عانى لبنان في عهد شمعون من إنقسام حاد بين رؤيتين: إنضمام لحلف بغداد والقوى الغربية وعدم قطع العلاقات معهم بعد أزمة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956، أو الانضمام للمعسكر الناصري.
الرئيس شمعون كان قد التزم في برنامج الجبهة الوطنية الإشتراكية بحياد لبنان في النزاعات الدولية، ولكن اللافت هو عدم إلتزامه به خلال عهده. وهو ما يشبه إلى حد بعيد بالإلتزامات التي تعهد بها الرئيس عون قبل مجيئه إلى قصر بعبدا، بمحاربة الفساد وبناء دولة القانون والحوكمة واعتماد سياسة النأي بالنفس من مخاطر الحروب والمعارك الإقليمية!
كان عهد شمعون سلطوياً فردياً، شبيهاً لما يطلبه وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل اليوم، كانتقال من الأوليغارشية إلى الفردية بمباركة حليفه “حزب الله”. واللافت أيضاً من باب تشابه العهدين، إستطراداً إلى الشأن الداخلي، أن الرئيس شمعون كان يختار وزراء ضعيفي الصفة التمثيلية، ويتدخل في عمل المديرين العامّين متجاوزاً سلطة الوزراء المعنيين. واكتملت سطوته بإقرار قانون إنتخابي، استخدم التزوير أيضاً لإقصاء معارضيه. بينما السلطة اليوم أقرّت قانوناً إنتخابياً لم يقصِ التقليديين، لكن حجّمتهم وقلّصت من نفوذهم، والجميع يرى كيفية تدخل الرئاسة الأولى في عمل السلطة التنفيذية والمدراء العامين، بل وصل الأمر لمخالفة الدستور في مساري التكليف ثم التأليف الحكومي، فأصرّت على تأليف قبل التكليف!
عودة إلى الصراع الخارجي الذي انعكس على الساحة اللبنانية في ذلك العهد، فقد عظم الصراع بين شمعون وقادة المعارضة، باستخدام التعبئة الطائفية، فتأزمت العلاقة الطائفية، وأدى موقف شمعون الإيجابي من “حلف بغداد”، إلى اندلاع إحتجاجات شملت لبنان من شماله إلى جنوبه، وقُتِل المتظاهر حسّان أبو اسماعيل عضو الحزب التقدمي الإشتراكي. وكأن قدر هذا الحزب تقديم أول شهداء الثورات، والشهيد علاء أبو فخر الذي قُتِل في مثلث خلدة قبل أسبوعين مثال.

ومع رفض الرئيس شمعون قطع العلاقات الديبلوماسية مع فرنسا وبريطانيا تلبية لقرار القمة العربية ورداً على العدوان الثلاثي على مصر، ومع ربط شمعون لبنان رسمياً ب”مبدأ إيزنهاور”، ومع ظهور قوة ثالثة ذات أكثرية مسيحية، ومع رفض البطريرك المعوشي “حلف بغداد” وتأييده لمواقف جريئة وشفافة في العلاقة المسيحية المسلمة، ومع ظهور الفساد بأحجام كبيرة تورط فيها الرئيس مباشرة ومنها في ملف أموال التبرعات لضحايا زلزال ١٩٥٦؛ اكتمل المشهد ونضج حراك أدى إلى اندلاع صراع إثر اغتيال الصحافي المعارض لسياسة شمعون الخارجية نسيب المتني في ٧ أيار ١٩٥٨. ظهرت المتاريس في الشوارع، والتزم الجيش بقيادة فؤاد شهاب الحياد، وقررت الولايات المتحدة تنفيذ “عملية الوطواط الأزرق”. ظن شمعون أن مجيء القوات الأميركية هو لدعم حكمه وتمديد رئاسته، لكن اتضح لاحقاً أن الأميركي جاء لفرض خليفة له وتم اختيار فؤاد شهاب. أليس هذا درساً للقوى والأحزاب اللبنانية أن استعانتهم بالخارج واستقوائهم في الداخل جراء هذا الدعم، من الممكن لتلك القوى، إقليمية أو دولية، أن تضع مصلحتها فوق كل اعتبار!
تفضيل الرئيس شمعون للمعسكر الغربي، أدى لانزلاق لبنان إلى أزمة كان بغنى عنها. وكذلك الأمر ومن باب التشابه، فإن موقف العهد اليوم من قضايا عربية حسّاسة كان من شأنه ترك العرب لبنان لمصير مجهول يتهدد ليس فقط نظامه المالي والإقتصادي، بل لنظامه الإجتماعي أيضاً! والغريب في الأمر، إصرار العهد على الطلب من أشقائنا العرب المساعدة بالرغم من كل المواقف السلبية التي اتخذتها وزارة الخارجية في شؤون تتعلق برفض ممارسات إيران التوسعية!

لم تسبب أزمة 58 حرباً طائفية وأهلية طويلة كالتي أصابت لبنان عام 1975، ومن الممكن أخذ العِبر منها لتفادي أي إصطفاف مذهبي وطائفي كارثي، وأهم تلك الدروس أن العهد الذي عاشه لبنان فور انتهاء الأزمة هو الأميز والأكثر نجاحاً، على الرغم من وجود أخطاء بنيوية. وأهمها دخول “المكتب الثاني” في السياسة واستخدام الجيش والأجهزة الأمنية قاعدة للحكم، وعدم العمل على إلغاء الطائفية، بل اقتصرت المقاربات الدستورية على تثبيت التوازن الطائفي. وما ميّز العهد الشهابي ونتمنى أن نعيشه واقعاً في لبنان من جديد، خروج طاقم بديل عن الزعامات التقليدية، واعتماد “مجلس الخدمة المدنية” والتوظيف على قاعدة الكفاءة والإختصاص، وإنشاء “صندوق الضمان الإجتماعي”، والتنمية المناطقية ونهضة ثقافية مميزة في الفن والأدب والمسرح والترجمة والتأليف والصحافة. نريد ترجمته اليوم بتطوير تلك الصناديق واعتماد اللامركزية والعودة لاحترام الكفاءة دون المحاصصات الطائفية من خلال مباريات الخدمة المدنية، ونهضة ثقافية جديدة نحن بحاجة لها.

أزمة 1966 وإفلاس بنك إنترا

وتبقى الأزمة المالية التي يعيشها لبنان اليوم إستثنائية من حيث الحجم والتأثير. ربما يكون عام ١٩٦٦ وإفلاس بنك إنترا شبيهاً نوعاً ما ولكن ليس بضخامة ما نشهده اليوم بالتأكيد. صحيح أن أسباب إفلاس البنك تختلف تماماً عن التدهور المالي الحاصل اليوم، ولكن ما ترتب على ذلك من فرار رؤوس الأموال وسحب الودائع وإفلاس عدد من البنوك المحلية شبيه بما يتوقعه خبراء المال ويحذرون الوقوع به اليوم. دخل لبنان حينها أزمة مالية خانقة، وتقلّص نفوذه بلعب دور الوسيط بين دول الخليج النفطية والمراكز المالية الغربية ووصل الأمر إلى أن الرئيس السابق شمعون أعلن نهاية “سويسرا الشرق”. واللافت أن إفلاس البنك هيأ أرضية لتشكيل حكومة تكنوقراط لإعادة بناء هيكلية إقتصادية جديدة. ولكن تسييس الأزمة الإقتصادية ومطالبة بعض السياسيين والنُخب أمثال صائب سلام وابنة رياض الصلح السيدة علياء بإعادة النظر في ميثاق 1943 والمطالبة بالمناصفة أدخل لبنان بأزمة، ضاعفت من خطورته حرب 1967 ودخول الفلسطيني الساحة اللبنانية.
تسييس أزمة إعلان إفلاس البنك أدى إلى تصفية حسابات بين أركان الحكم والتُجار، بدل التركيز في معالجة البنية الإقتصادية والمالية في لبنان. ومن هنا الحذر في الوقوع في فخ تسييس الحَراك اليوم والخروج عن مسار الشعارات المطلبية. وهذا ما تريده بعض الأحزاب حتى ينقَسِم الشارع ويدخل في صدامات جديدة تتداخل فيها تناقضات في رفع الشعارات.

إقرأ ايضاً: 17 تشرين.. «الثورة المضادة»!

أزمة حُكم يعيشها لبنان، مرّ بها سابقاً ويبقى يمر بها دائماً طالما أنه يخرج منها بمُسَكِّنات. هذه المُسكّنات عبارة عن تسويات، منصاتها خارجية وتأتي بشكل مساعدات لا يُمكن أن يَرِث أبناءنا دولة تعتمد على الخارج لبقائها. منذ أن أُعلِن ولادة “لبنان الكبير”، كان مبرر ضم الساحل والبقاع لجبل لبنان، اقتصادياً ولتزويد سكانه بمقدار من الإكتفاء الذاتي الغذائي. إلا أن هذا الهدف لم يتحقق، وبقي لبنان يستورد من الخارج معظم احتياجاته من المواد الأولية والغذائية، واعتمد بشكل أساسي على تقديم الخدمات وأموال المغتربين. أما اليوم، فلم نَعُد تلك المِنصة التي تقدم الخدمات وقد سبقتنا بأشواط دول الخليج، ولم تَعُد أسواق الأخيرة تفتح أبوابها للعمالة اللبنانية لأسباب عديدة. فهل يُعقل أن نستمر على هذه الحالة! أخشى أن نعود لتجربة 1914، حينها أدرك اللبنانيون المشكلة التي لم نعالجها منذ قرن بتوسيع رقعة لبنان: نمو المحدود لمساحة الأراضي المزروعة قياساً إلى النمو السكاني وازدياد الإتكال على السوق الخارجي للتزود بالأساسيات الغذائية وتقليص رقعة الإقتصاد الكفافي. فكيف إذا كان نظامنا بالإضافة إلى ذلك، منهكاً بالفساد والزبائنية والمحسوبيات وغياب القانون والحوكمة ويرتكز على المحاصصات الطائفية ويُستخدم كحصان طروادة عند كل أزمة إقليمية! ألا يستحق ذلك ثورة؟

السابق
«الشلمسطي»… والثورة اللبنانية
التالي
بالفيديو: حرق خيمة للحراك في عالية: والاشتراكي ينفي