عندما تنزعج الطائفة من «أبنائها الضالين»

نشر الكاتب حازم صاغية على صفحته خلاصة "دردشة طويلة مع صديق غير لبنانيّ مهتمّ بالثورة وخصوصيّات الطوائف":

لا يستطيع “حزب الله” و”حركة أمل” أن يفعلا إلاّ ما فعلاه: في صور والنبطيّة وعلى جسر الرينغ. نبدأ من حيث البدء:

عندما ثار اللبنانيّون بمئات آلافهم وضعوا طوائفهم جانباً. بعضهم قطع معها. بعضهم علّق العمل بها. بعضهم صالح الثورة مع تأويلٍ لها مصدره الثقافة الفرعيّة للطائفة المعنيّة. بعضهم صالح الطائفة المعنيّة مع التأويل الذي أشاعته الثورة…

كائناً ما كان الأمر، لم يعد التطابق علاقة وحيدة. الطائفة، ممثّلةً بقواها التقليديّة، لم تكتم انزعاجها من “أبنائها الضالّين”، خصوصاً أنّهم كثيرون ويتكاثرون. عبّرت عن الانزعاج هذا بكلام قليل وبمرارة ليست قليلة كان أحد أشكالها الانكفاء والحرد والتململ من “قلّة الوفاء”. عبّرت أيضاً ببعض القمع هنا وهناك، ممّا قد يتعاظم لاحقاً، وببعض التفكّك داخل أجسادها وعائلاتها. عائلة رئيس الجمهوريّة نفسها، وهو الرئيس العائليّ، فقدت وحدتها التي يُدعى الوطن إلى تجرّعها.

اقرأ أيضاً: قراءة في {الثورة المضادة}

هذا ما يطال الطوائف جميعها. المسيحيّون انشقّوا عن القيادة التي سبق أن نالت تصويت ثلثيهم في الانتخابات، كما وعدتهم بأنّها ستُرجع إليهم “الحقوق المسروقة”، بدل الأموال المسروقة. لوّحت لهم برئاسة وعهد “قويّين” يعودون من خلالهما إلى ما قبل الطائف عام 1989. لكنّهم انشقّوا حين تبدّى لهم ذاك الحنين الزائف مجرّد شمع يُذيبه الواقع الحارق، بغلائه وبطالته ومديونيّته وانسداد آفاقه…

السنّة أيضاً انشقّوا. سعد الحريري الذي سبق أن حظي بتعاطف أكثريّتهم، وهو ما تكرّر سنةً بعد سنة، فقد الكثير بعد ضموره المزدوج: كشبكة توزيع وكموقع سياسيّ. بعد تصويره بوصفه فخر أبيه، صار أحد أخطاء أبيه الكبرى. استقالته قد تعود عليه ببعض التعاطف، لكنّ الماضي مضى. في المقابل، باقي الزعماء السنّة الذين كانوا يمنّون النفس بالاستفادة من إخفاقات الحريري باتوا في وارد آخر.

إنّ ما يحصل داخل الجماعة الحاكمة دُفع كلّه إلى الهامش والعتم. كلامها التافه لفّه الصمت.
لكنّ المسيحيّين والسنّة لم ينشقّوا عن أطراف مسلّحة، ولا عن أطراف ظافرة ومنتصرة. في هذا المعنى، تبدو كلفة انشقاقهم قابلة للسداد. القوى والأفكار التي انفصلوا عنها كانت تفقد وهجها بإيقاع يوميّ. الذين ظلّوا يدافعون عن ميشال عون وسعد الحريري لم يعودوا يجدون في جعبتهم سوى أقوال دفاعيّة وتبريريّة سقيمة، من نوع أنّ الحريري “طيّب القلب”، وأنّ عون “ما طالع بإيدو شي”.

مغامرة الكتل المسيحيّة والسنّيّة التي انشقّت ليست بسيطة، ولا مضمونة العواقب بالطبع، لكنّها تختلف عن مغامرة مواطنيها الشيعة ممّن انشقّوا بدورهم. هؤلاء، وكما بيّنت الأحداث المتفرّقة، يقيمون في قلب العنف الذي يرمز إليه سلاح “حزب الله” أوّلاً ثمّ ميليشيا “حركة أمل” (عون والحريري، على عكس نبيه برّي، لم يصدرا عن خلفيّة ميليشيويّة. أوّلهما قدّم نفسه بوصفه عدوّ الميليشيات). لكنّ المنشقّين الشيعة، فوق هذا، وقفوا في وجه موقع متين ومتماسك، حيث “حزب الله” يملك ويحكم من دون أن يخضع للمساءلة، قياساً بشركائه “المعلنين” في السلطة. وهم وقفوا في وجه اللغة الظافرة، حيث “الوعد” “صادق” دائماً، وحيث التماسّ مع المقدّس لا يرقى إليه الشكّ، وفقاً لصانعي هذه اللغة ولمُصدّقيها الكثيرين. هذا فضلاً عن أنّ تلك اللغة نفسها رسمت حزبها صاحب المصرف المركزيّ لانتصارات لا تتوقّف، انتصاراتٍ لا يصحّ التعامل معها إلاّ بإبداء الشكر والامتنان الدائمين. وهم وقفوا في وجه قائد كاريزميّ ذي هيبة يقرّ بها خصومه. إنّه “الزعيم”، على عكس الآخرين المكسورين والمُهانين، والذين هم، في أحسن أحوالهم، عاديّون. هذا من غير أن ننسى حقيقة أنّ “حزب الله” ربّ عمل ضخم، أضعفته العقوبات على إيران لكنّها لم تُلغ موقعه الاقتصاديّ، ومن غير أن يفوتنا حجم “حركة أمل” في الإدارة ومنظومة التنفيعات الزبونيّة.

فوق هذا، ينشقّ المنشقّون الشيعة عن نظام إقليميّ، هو الذي يوصف بـ “الممانعة” و”المقاومة”. هذا النظام الذي يحتلّ الحزب موقعاً أساسيّاً فيه، هو الذي ضرب في سوريّا، ويضرب اليوم في العراق، ويستفيد دائماً من الانكفاء الأميركيّ ليراكم انتصارات على الشعوب يسمّيها انتصارات على الإرهاب.

بلغة أخرى: هو انشقاق عن نظام قويّ متعدّد الأجسام والرؤوس، انشقاقٍ لا يملك “حزب الله” البقاء مكتوف اليدين حياله. إنّه يمتحن مزاعمه، لا سيّما منها تمثيل الفقراء والبسطاء، أو ما أسماه الملتحقون به من اليساريّين تكامل “المسألتين الوطنيّة والاجتماعيّة”.

أمّا عمليّاً، فما قاله الحزب هو أنّ التكامل المذكور لا يعدو كونه كلاماً منمّقاً يتسلّى به مخدوعون به، مفيدون له. أمر اليوم هو الدفاع عن السلطة اللبنانيّة التي تخدم أجندته “الوطنيّة”، ضدّ الفقراء “الاجتماعيّين” الشجعان، خصوصاً إذا كانوا من الشيعة. 

الأخيرون معركتهم أشرس لأنّ الذين يخوضونها ضدّهم يملكون أكثر ويحكمون أكثر، وما يدافعون عنه أكثر كثيراً وأقلّ تحمّلاً للخسارة. 

السابق
المصارف تفتح أبوابها غداً.. ولكن!
التالي
جريمة تهز الجنوب.. قتل ابنة أخيه وزوجها!