لماذا ينهار اقتصاد لبنان؟

اقتصاد لبنان

 لبنان مشكلة اقتصادية مستعصية بدأت تهز الاستقرار المالي والاجتماعي للبلاد. ظاهر الأمر أن احتياطي النقد الأجنبي، أي الدولار واليورو، قارب النفاذ في خزائن “المصرف المركزي”، وهو ما يفرض انخفاضا في قيمة الليرة اللبنانية، وتاليا تراجعا في القدرة الشرائية للمواطنين ذوي المداخيل بالعملة الوطنية، أي أن غالبية اللبنانيين ستصبح “أكثر فقرا”، لأن مداخيلها ومدخراتها بالليرة، فيما أسعار السلع الأساسية، مثل المحروقات والطحين وغيرها من المواد التي يستوردها لبنان، مرتبطة بالسوق العالمية، التي تتعامل بالدولار واليورو.

في لبنان، مثل في روسيا وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وباقي دول الممانعة ومناهضة الإمبريالية والاستكبار (إلى آخر الخطاب البطولي الخشبي المعروف)، الانتصارات الإلهية والعسكرية أكثر من أن تحصى، والكرامة الوطنية ومواجهة الغطرسة الأميركية بلغت حد التخمة. المشكلة في هذه الدول أنه كلما ازدادت الكرامة الوطنية، ازداد الفقر والجوع، وأنه كلما طالت مسافة صواريخ إيران و”حزب الله” اللبناني، كلما انخفضت قيمة النقد الوطني.

والمحور السياسي في لبنان المعروف بـ “الممانعة”، والذي يقوده “حزب الله”، بمشاركة حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، وحزب رئيس مجلس النواب نبيه بري، يبرر تقهقر الاقتصاد الوطني بفصله عن السياسة، وخصوصا الإقليمية منها، وتصوير الاقتصاد وكأنه موضوع إداري بحت، أي أنه يمكن لاقتصاد لبنان أن ينهض فقط بمكافحة الفساد وترشيد الحوكمة.رؤية “نصر الله” وعون ومن معهما لا ترى لبنان سنغافورة، بل تراه في حرب لا تنتهي، مع إسرائيل، والسعودية، وتركيا، وليبيا، والإمارات، وأميركا، والمعارضة السورية، والحكومة اليمنية، وغيرها.

لكن انهيار الاقتصاد في لبنان ليس موضوعا إداريا ولا ماليا، بل هو انهيار بنيوي ناجم عن فصل السياسة عن الاقتصاد، فالسياسة في لبنان قبلية ثأرية، يطل زعيم “حزب الله” حسن نصر الله في خطاباته، فيبكي مقتل الإمام الشيعي الثالث الحسين بن علي، ويتوعد “يزيد العصر”، وهذا قد يكون إسرائيل أو أي زعيم سني معاصر، كقادة السعودية، أو تركيا، أو حتى رئيس حكومة لبنان السني عرفا. ومثل “حزب الله”، ترتكز شعبوية عون على استنهاض العصبية المسيحية، غالبا بمعاداة مجموعات أخرى، مثل اللاجئين السنة من السوريين والفلسطينيين، أو السلطنة العثمانية، أو فزاعات متخيلة أخرى.

وعليه، لا يقترع الناخب اللبناني على حسب البرامج الانتخابية حول النسب الضريبة، مثلا، أو حسب العلاقات الثنائية الممكنة مع دول يمكن تنمية حجم التبادل التجاري معها، بل يتوجه غالبية اللبنانيين للاقتراع بولاء قبلي — إما عاطفي، أو مصالحي شخصي لا وطني.

هكذا، يحمل شيعة لبنان إلى اليوم ثأرا مع الدولة السعودية الأولى لمهاجمتها، في القرن التاسع عشر مدن الشيعة المقدسة في جنوب العراق، ويحملون ثأرا مع ليبيا بسبب اختفاء رجل الدين اللبناني موسى الصدر فيها في السبيعنيات. ويحمل مسيحيو لبنان ثأرا مع تركيا، بسبب المجاعة التي تسببت بها السلطنة لمتصرفية جبل لبنان مطلع القرن العشرين، ومثلهم يحمل الأرمن ثأرا على الأتراك، ويحمل اللبنانيون عموما ثأرا مع إسرائيل، بسبب صراع انفجر عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتحول فيما بعد إلى حرب مفتوحة بين “حزب الله” وإسرائيل.

ولأن الثأر القبلي يتقدم على المصلحة الوطنية، يهاجم نصر الله دول الخليج، ويهاجم بري ليبيا، ويهاجم عون تركيا، ويهاجم الجميع إسرائيل. مع كل هذه العداوات يصبح السؤال: أي دول إقليمية ستفتح أبواب أسواقها للصادرات اللبنانية الصناعية إن توفرت أو الخدماتية كخدمات المصارف والتعليم والاستشفاء والترفيه؟ ومع أي دول يمكن للبنان تعزيز تجارته، غير إيران المفلسة وسوريا المدمرة؟ وكيف ترى دولة لبنان أنه يمكنها أن تشتم دول الإقليم كلها، وتعاديها، وتتحارب معها، وأن يكون اقتصاد لبنان متعافيا؟

دولة لبنان، تحت وصاية “حزب الله”، لا تسعى لمصالح البلاد، بل هي ساحة يتسابق فيها الزعماء المحليين لتقديم الولاء لزعماء الإقليم، وهي عادة لبنانية منذ زمن الفينيقيين، فالمراسلات الفرعونية المكتشفة في نقوش تل العمارنة تظهر أن زعماء المدن الفينيقية في المشرق كانوا يتبارون في مناكفة بعضهم البعض، وتبديل الولاء للإمبراطوريات الإقليمية، بحسب التي يعتقدون أنها الأقوى والأنسب لزعامتهم.

في تاريخ لبنان حفنة من الرجالات من أصحاب الرؤية ممن لو قيض لأفكارهم أن تعيش، لعاش لبنان في وضع اقتصادي جيد. من هؤلاء رجلان يربط بينهما الأكاديمي اللبناني فوّاز طرابلسي، في إحدى كتبه، من باب مهاجمتهما ومهاجمة رؤيتهما الرأسمالية الليبرالية، وهما السياسي والمصرفي الراحل ميشال شيحا ورئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري.

أدرك شيحا، والحريري بعده، أن ضيق مساحة لبنان، وارتفاع تكلفة اليد العاملة فيه بسبب قلة السكان وانتشار التعليم العالي بينهم، تجعلان من الزراعة والصناعة مكلفة، وغير تنافسية، في الإقليم والعالم. الموارد البشرية اللبنانية، التي تتمتع بشهادات عالية وخبرات تجعلها من الأفضل في العالم، هي حجر الزاوية في أي اقتصاد لبناني صاعد. والقطاعات التي يمكن للموارد البشرية اللبنانية قيادتها تنافسيا هي صناعات التكنولوجيا، وخدمات المصارف والتعليم والطب والسياحة. بكلام آخر، مقومات لبنان تخوله أن ينافس دبي وسنغافورة، لا تركيا والصين.

لكن بحبوحة سنغافورة، كما قوة اقتصادات “نمور آسيا”، أي هونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية، تعتمد بشكل أساسي على السلام والاستقرار والانفتاح على كل دول العالم، العدوة منها قبل الصديقة، ما يسمح لكبرى الشركات العالمية أن تفتح مقار لها في هذه الدول، مستفيدة من موارد بشرية متفوقة، فتتدفق رؤوس الأموال على لبنان، ومعها فرص العمل، والنقد الأجنبي، والسياحة، وغيرها من الخدمات.

لكن رؤية “نصر الله” وعون ومن معهما لا ترى لبنان سنغافورة، بل تراه في حرب لا تنتهي، مع إسرائيل، والسعودية، وتركيا، وليبيا، والإمارات، وأميركا، والمعارضة السورية، والحكومة اليمنية، وغيرها.

في لبنان، يموت الحريري، وتموت معه رؤية اقتصاد لبنان مزدهر، وإن يشوبه الفساد واتساع الهوة بين الطبقات، فالفساد يمكن مكافحته، والهوة بين الطبقات يمكن تقليصها بضرائب تصاعدية، لكن النمو الاقتصادي مستحيل بلا التعويل على نقاط قوة البلاد، وجعل السياسة في خدمة الاقتصاد، لا الإصرار على إبقاء الاقتصاد في خدمة السياسة وعداواتها الإقليمية.

يوم ثار زعيم الدروز وليد جنبلاط على “محور الممانعة”، لفترة وجيزة منتصف العقد الماضي، قال إن على لبنان أن يختار من يكون، إما هانوي أو هونغ كونغ. أما المفارقة، فهي أن هانوي اليوم تستجدي صداقة أميركا، وهي استضافت رئيسها السابق باراك أوباما، في زيارة تاريخية، والعلاقة بين فيتنام وأميركا تتحسن بشكل مضطرد، ما يضع الاقتصاد الفيتنامي في موقع منافس لنظيره الصيني. أما لبنان، فلا ينسى أي حرب، ولا يسامح، حتى لو اقتضت مصلحته إنهاء الخصام، بل يبقى محاربا مفلسا، فالكرامة الوطنية تبدو عدوة البحبوحة والسلام.

السابق
الشركات المستوردة للنفط تتلقى الدولار للإستيراد وتعلق إضرابها
التالي
عبد المهدي يصدر حزمة أولى من القرارات لتهدئة المتظاهرين في العراق