عبد الناصر في انفراداته الوطنية والقومية

جمال عبد الناصر

قدّر لي أن أقف في جامعة القاهرة مع ثلّة من الشباب العربي بعد مضي نحو أربعة أشهر على وفاة الرئيس جمال عبد الناصر (28/أيلول/سبتمبر/ 1970) لنعلن باسمنا وبأسماء منظماتنا وتياراتنا: احموا تراث عبد الناصر وواصلوا منجزات ثورة يوليو واستمرّوا بالكفاح لتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة.

كان ذلك على هامش ندوة التأمت بمناسبة عيد ميلاد عبد الناصر (15 يناير/كانون الثاني/1918)، وحينها قدّمت بحثاً بعنوان: ” عبد الناصر وحركة التحرر الوطني” (نشر خارج العراق في مجلة لجنة التنسيق للروابط والجمعيات الطلابية العراقية/1971)، وهو بحث بين الوطني والقومي ببعديهما الاجتماعي وأفقهما الإنساني. وحين دعتني مجلة الهدف للكتابة عن تراث عبد الناصر ما بين الوطني والقومي، استعدتُ تلك الإرهاصات الأولية الممزوجة بالأمل والمرارة، وبالتاريخ الملتبس والمثير في الآن.

حين التأمت ندوة القاهرة لم يكن تراث عبد الناصر حينها مهدّداً أو منجزات ثورة يوليو قد تعرّضت للهجوم، وكان الأمل كبيراً جداً بحركة المقاومة الفلسطينية، لكن الإحساس باحتمالات التراجع والتخلّي، بل والارتداد، كانت واردة جداً وتأتي أحياناً بإشارات غامضة أو واضحة، طردية أو عكسية أحياناً، في إطار ديماغوجيا سياسية وإعلامية ستتضح معالمها بعدها.

اقرأ أيضاً: ترامب وإيران… ذكاء ومخاطر

فعقب اتهام التيار الأقرب إلى اليسار المصري بالتآمر لصالح السوفييت، فاجأت القيادة المصرية العالم بإقدامها على عقد “معاهدة صداقة وتعاون” مع موسكو في الشهر ذاته (مايو/أيار/1971) الذي تم فيه تنحية التيار اليساري. ثم ما لبث الرئيس المصري محمد أنور السادات أن اتّخذ قراراً بإبعاد “الخبراء السوفييت”، لكنه خطّط لحرب أكتوبر التحرّرية العام 1973، ثم أعلن في وقت لاحق أن 99% من أوراق الحل هي بيد الولايات المتحدة.

واستغلّت “إسرائيل” تلك السياسة المضطربة بتشبثها بمواقفها المدعومة ” أمريكياً”، ومن جهة أخرى مواصلة عدوانها بالوسائل العنفية، الخشنة والعسكرية من جهة، وبالوسائل اللّاعنفية، الناعمة والأكثر مكراً من جهة أخرى، في إطار مشاريع متعدّدة عبّرت عنها واشنطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إطار ما سمّي بالتسوية ” السلمية”.

لقد بدأ التراجع عن نهج عبد الناصر يتراكم عبر سلسلة من الخطوات الداخلية والخارجية حتى حصل المحذور في أواخر السبعينات حين أقدم الرئيس السادات على زيارة القدس (19 نوفمبر /تشرين الثاني/1977) وبعدها تم التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد 1978-1979 وانقسم الصف العربي وتصدّع التضامن الذي كان قائماً وإن بحدّه الأدنى، وهو ما حاول عبد الناصر تعزيزه ، وخصوصاً بعد عدوان الخامس من حزيران /يونيو 1967.

وكان الكثير من مكاسب ثورة يوليو قد اختفى لصالح فئات البرجوازية الكومبرادورية والبيروقراطية الطفيلية، وخصوصاً بإحداث تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية وخصخصة العديد من مؤسسات ومرافق القطاع العام وإطلاق ما سمّي بسياسة الانفتاح الاقتصادي، والتبشير بأنها ستجلب معها ” الخير والرفاه والرخاء”، وتحمل الازدهار والتقدم والتنمية بمساعدة البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى.
ولكي تكتمل صورة المشهد المطلوب ويتم طي صفحة المدّ العروبي المدعوم بالمنجز الوطني فلا بدّ من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد العام 1978 والصلح المنفرد مع “إسرائيل” العام 1979 على الرغم من تعارض ذلك مع المسار العام لحركة التحرّر الوطني العربية وللمطامح المصرية والفلسطينية المشروعة ولآمال الأمة العربية.
وكان العديد من المثقفين العرب قد نظموا فاعليات وأنشطة فكرية وثقافية وسياسية بالضد من ذلك التوجه، وهنا أستعيد ندوة فكرية متميّزة توافق فيها مثقفون عرب اجتمعوا في طرابلس (ليبيا) لمناسبة الذكرى الـ 35 لثورة يوليو/تموز/1952 (يوليو /تموز 1987) ليقدّموا فيها قراءة ارتجاعية نقدية للثورة بما لها وهو كثير جداً وبما عليها وهو ليس بقليل، وشخّصوا نقاط القوة والضعف في الآن في إطار برنامج لمواجهة التحدّيات التي تعترض حركة التحرر الوطني، وقدّر لي أن أساهم في ذلك ضمن رؤية لمراجعة العلاقات المصرية- السوفيتية والموقف الدولي.

وحين نحاول اليوم، وبعد مرور 67 عاماً على ثورة يوليو و49 عاماً على رحيل عبد الناصر، قراءة الوطني والعروبي في النهج السياسي لتلك المرحلة، فلا بدّ أن نُخضعه لسياق المرحلة التاريخية دون إسقاط من الحاضر على الماضي ، وهكذا نلحظ أن التحوّلات الاجتماعية كانت تسير في خط موازي للنهج الوطني التحرّري على الصعيد الداخلي، والعكس صحيح أيضاً، فالتراجع عن التحوّل الاجتماعي قاد إلى الارتداد عن النهج الوطني التحرّري على الصعيدين الوطني والقومي.

وإذا كانت سنوات الثورة الأولى قد ركّزت على البعد الوطني الداخلي، في مواجهة الإقطاع ونفوذه السياسي وإعلان الجمهورية (1953) وابرام اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر 1954 التي رحل عنها آخر جنودها في 18/يونيو/حزيران 1956، فإنها في السنوات اللاحقة عبّرت عن توجهها العروبي، من خلال دعم حركة التحرير في الجزائر حتى نيلها استقلالها العام 1962 وتوقيع اتفاقية ايفيان، ودعم الجنوب اليمني حتى تحرره من الاستعمار البريطاني العام 1967 والوقوف ضد حلف بغداد الاستعماري العام 1955 وحتى نجاح الثورة العراقية العام 1958.

وكانت المعركة لمواجهة العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 محطة أساسية وجذرية في تطوّر مواقف جمال عبد الناصر وتعمّق توجهه المناوئ للامبريالية، لاسيّما بعد حضوره مؤتمر باندونغ العام 1955، الأمر الذي أصبح يمثّل بحق رأس رمح حركة التحرّر الوطني في المنطقة، وبرز ذلك من خلال مواجهته للنفوذ الأمريكي الجديد الذي تبلور عبر مشروع أيزنهاور لملء الفراغ العام 1957 والمشاريع الاستعمارية الأخرى.

وكانت الرؤية الوطنية والاجتماعية الداخلية متوائمة مع رؤية خارجية معادية للإمبريالية التي أخذت تتعزّز بتعمّق النهج العروبي للرئيس عبد الناصر ذاته الذي رفع لواء القومية العربية، الأمر الذي هيّأ الأجواء لقيام الوحدة المصرية – السورية في 23 شباط (فبراير) 1958، وكان ذلك بحد ذاته عامل دفع جديد لعموم الحركة التحررية العربية، بل والآسيوية والأفريقية، التي كانت منظمة التضامن الأفرو- آسيوي وليدها الذي تأسس في العام 1957.

وإذا كان ساطع الحصري قد تحدّث عن نشوء الفكرة القومية ، وميشيل عفلق تناول القومية بشيء من الرومانسية في كتاباته الأولى في مطلع الأربعينات بعناوين مثل ” القومية حبٌ قبل كل شيء” و” القومية قدرٌ محبب” ، لكن ما واصله عبدالله عبد الدايم وعبد العزيز الدوري وعبد الرحمن البزاز وشبلي العيسمي والياس فرح وسعدون حمّادي، وقبل ذلك قسطنطين زريق، كان شيئاً مختلفاً أكثر عمقاً وشمولاً، وذلك ما وضع الفكرة القومية العربية كشعار سياسي جاذب، وظّفه عبد الناصر شعبياً بخطاباته المؤثرة وحوّله إلى أداة تحريك مهمة للأهداف التي أخذت تتعمّق في مسار ثورة يوليو.

وكانت الوحدة تغييراً في مسار حركة التحرّر الوطني وفي الكفاح ضد “إسرائيل”، لذلك جلبت أعداءها معها من القوى الإمبريالية والصهيونية، ومن القوى الرجعية والتخلف الداخلية، دون أن يعني ذلك تنزيهها عن الأخطاء العديدة التي وقعت فيها والانتهاكات المختلفة لحقوق الإنسان التي رافقتها، لاسيّما اتباع نهج الواحدية والإطلاقية السائد آنذاك وتقليص حرّية التعبير والهوامش الديمقراطية الأخرى.

وباختصار فإن النواقص والثغرات التي رافقت تجربة الوحدة، ولاسيّما الموقف السلبي من الديمقراطية، وبعض الخطوات غير المدروسة التي أقدمت عليها مثل التأميمات لبعض الرأسمال الوطني، واحتكار العمل السياسي، دون أن ننسى عامل أساسي وهو موقف القوى الاستعمارية والرجعية التي تكالبت ضدها، هو الذي أدّى إلى إجهاضها في العام 1961، وكانت تجربة الانفصال مؤلمة ومريرة على جميع أطراف حركة التحرّر الوطني في المنطقة، وإن كان كل طرف نظر إليها من زاويته، لكنها كانت ضربة موجعة لحلم عربي واعد، ووقع تأثيرها شخصياً على الرئيس عبد الناصر، ناهيك عن انعكاساتها على الوضع العربي عموماً.
لكن ذلك ليس الوجه الوحيد لعبد الناصر الذي أقام نظاماً وطنياً وجعل التعليم مجانياً وحقّق تنمية على جميع الصعد ونهضة صناعية كبيرة وأمّم قناة السويس وواجه العدوان الثلاثي الانكلو – فرنسي “الإسرائيلي” بشجاعة كبيرة وبنى السد العالي وعمل على مواجهة ” إسرائيل” على الرغم من هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 في حرب استنزاف طويلة الأمد، ولم يتنازل أو يساوم أو يستسلم، وهو ما انعكس على الشعارات التي صاغها مؤتمر قمة الخرطوم التي سميّت بقمة اللاءات الثلاثة:”لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض” مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه.

وبالعودة إلى الفكرة الوطنية والفكرة القومية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن للمرء أن يكون وطنياً دون أن يكون قومياً، بمعنى التواشج والتواؤم الوجداني المعبّر عنه في هويّة مشتركة وموحّدة بما ينسجم مع فكرة العروبة الثقافية باعتبارها رابطة حضارية اجتماعية إنسانية ، مثل الروابط الأخرى ذات الانتماءات القومية أو الدينية أو غيرها. وهكذا كان عبد الناصر ينظر إلى أن ما يتحقق من منجزات على الصعيد الوطني، لا بدّ أن يأخذ بعده العروبي من المحيط إلى الخليج كما كان يردّد.

ولا يمكن للمرء أيضاً أن يكون وطنياً وعروبياً دون أن يكون إنسانياً، بمعنى الإيمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها، صغيرها وكبيرها، ومثلما لنا الحق في تقرير المصير فإن من يناضل من أجل حقه في تقرير المصير والتحرّر والاستقلال فإنه يكون رفيق درب، لأن قضية الحريّة لا تتجزأ، وهي مثل السبيكة الذهبية لا يمكن اقتطاع أي جزء منها أو إهماله.

تبقى تجربة عبد الناصر خاضعة للدراسة والنقد ضمن سياقها التاريخي ، ليس من باب التقديس والتمجيد كما يفعل بعض المعجبين بها حد التولّه لدرجة إغماض العين عن نواقصها وثغراتها وعيوبها، أو باب التدنيس والتنديد للنيل منها وعدم رؤية منجزاتها التاريخية ، فلا قيمة لأي تجربة إلّا بنقدها من خلال مرحلتها التاريخية.

وقد حاولت التجربة المصرية مثل العديد من تجارب العالم الثالث استنساخ البراديغم السوفيتي أو اليوغسلافي ” النموذج” أو ” الموديل”، وإن بمحاولة خاصة للتمايز فـ”الطليعة البروليتارية” أصبحت “الشعب العامل” والحزب الشيوعي السوفيتي أو رابطة الشيوعيين اليوغسلاف صار اسمها ” جبهة التحرير” أو ” الاتحاد القومي” أو ” الاتحاد الاشتراكي”، وديماغوجيا الإعلام هي ذاتها، والأجهزة الأمنية المتنفذة كانت نموذجاً لأجهزة ألمانيا الديمقراطية “شتازي” أو غيره من أجهزة المخابرات المطلقة الصلاحية. وإذا كانت بعض تجارب الأصل قد تأخرت في الانهيار، فإن بعض تجارب الفرع انهار قبل بعض تجارب الأصل وأحياناً بعده ، سواء من الداخل أو من الخارج مثل النموذج العراقي أو الليبي.

ولكي نعيد قراءة التجربة المصرية ودور عبد الناصر الفرد في مسار التاريخ، فلا بدّ من إخضاع ذلك كلّه للسياق التاريخي وللصراع الآيديولوجي الذي كان محتدماً بين معسكرين أحدهما يمثل الغرب الإمبريالي المعادي للعرب والداعم لـ”إسرائيل” والآخر الشرق الواعد والذي أخذ يمدّ يده لمساعدتهم .

حسبي أن أقول في الختام إن القدر اختطف عبد الناصر وهو في أوج عطائه ونضج تجربته ومحاولته مراجعة إخفاقاته وثغرات النظام الذي أسسه، لكنه كان ابن عصره، زعيماً تاريخياً حقيقياً، وطنياً وعروبياً بامتياز، أخطأ أم أصاب إلّا أنه كان صميمياً بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى.

وكما قال الجواهري شاعر العرب الأكبر بحق عبد الناصر:
لا يعصم المجدُ الرجالَ ، وإنما / كان العظيم المجد والأخطاءَ
تُحْصَى عليه العاثرات ، وحسبه / ما فات من وثباته الإحصاء

(نشرت في مجلة الهدف (الفلسطينية)، العدد 6(1480) ، أيلول/سبتمبر 2019)

السابق
طوني فرنجية ينشر صور عرسه ويعلق: «سوا عالحلوة والمرة»
التالي
«بيلا تشاو» السورية تهاجم حيتان الاقتصاد