امتلاك القوة لا يعني الانتصار حتماً

حسن فحص
بادر النظام الإيراني إلى توجيه رسائل سياسية للتهدئة وفتح باب الحوار.

بغض النظر عن كون النظام الإيراني ضالعاً بشكل مباشر أو غير مباشر في الهجوم الذي استهدف منشأتي نفط بقيق وخريص، التابعتين لشركة أرامكو السعودية، فإن مرحلة ما بعد الهجوم تختلف عما قبلها في ما يتعلق بالتعامل الدولي مع إيران والأدوار التي تقوم في منطقة غرب آسيا، ولجهة المخاطر التي نتجت من هذا الهجوم وحجم التهديد الذي شكّله لأمن إمدادات الطاقة واستقرار الاقتصادات العالمية.

فعلى الرغم من حالة الانتشاء التي يحاول النظام الإيراني الظهور بها بعد الهجوم على منشآت أرامكو، ومساعيه لتحويل هذه العملية إلى ورقة ضغط على السعودية بالدرجة الأولى والمجتمع الدولي بالدرجة الثانية من بوابة التهديد الاقتصادي وأمن إمدادات الطاقة، إلاّ أنّ التطورات السياسية التي تلت هذه العملية على مستوى الملفات الإقليمية التي تشكل مساحة أساسية للنفوذ الإيراني في المنطقة، تكشف مؤشرات عن مساع إيرانية لاستيعاب التداعيات المحتملة، التي قد تنتج من هذه العملية في محاولة منه لتحريك بعض الملفات الإقليمية التي يمسك بها وعرقلته أي مساع تساعد في تحريك مسارات الحل السياسي فيها.

وفي وقت يعيش النظام الإيراني حالة من الاستنفار السياسي والعسكري والأمني مع بداية تصاعد الأزمة بينه وبين الإدارة الأميركية، فإن حالة الاستنفار العسكري تشكّل التحدي الأكبر لطهران، خصوصاً مع ارتفاع مستوى الحشود الأميركية في محيط إيران البري والبحري، ما استدعى منها وضع كل قواتها العسكرية في حالة الجهوزية القصوى، وما يعنيه ذلك من استنزاف للمقدرات المالية والاقتصادية. وقد زادت وتيرة هذا الاستنزاف والاستنفار بعد إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة والاعتداء على ناقلات النفط في مضيق هرمز وبحر العرب الذي لم يضع طهران فقط أمام مخاطر التعرض لضربة عسكرية، بل أجبر أيضاً كل حلفائها في المنطقة على رفع مستوى استنفارهم، استعداداً لإدخال المنطقة برمتها في أتون معركة شاملة في كل الإقليم. وقد زادت حدة هذا الاستنفار والاستنزاف في ظل إجماع المؤشرات على توجه دولي جدي إلى تحميل إيران مسؤولية الهجوم على أرامكو، إن كان عبر الوسيط الحوثي أو مباشرة من الأراضي الإيرانية، ومخاوف قيادة النظام من تعرّض المنشآت النفطية الإيرانية لضربة عسكرية وما يمكن أن تشكّله من تحد لها بين تنفيذ تهديداتها بالرد المقابل أو السكوت على هذه الضربة، وما يعنيه ذلك من تداعيات سياسية وأمنية وعسكرية على النظام واستقراره، وما قد يسبب من مسار تراجعي، فيه الكثير من التنازلات.

هذه المخاوف والتداعيات المحتملة للاعتداء على أرامكو، هي التي دفعت وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى خلع قفازات الدبلوماسية وارتداء البزة العسكرية، عندما وجّه تهديداً للإدارة الأميركية من مغبة أي ضربة عسكرية لبلاده وأن الرد عليها لن يكون محصوراً بمصدر الاعتداء، بل سيشمل كل المنطقة. وهو ما كان أكثر وضوحاً لدى كبير مستشاري المرشد الأعلى، القائد الأسبق لحرس الثورة الجنرال يحيى رحيم صفوي، عندما تحدث عن دائرة الاستهداف الإيرانية للمصالح الأميركية، التي ستشمل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. وعزّزه كلام الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي هدّد باستهداف العمق الإسرائيلي في حرب مفتوحة، دفاعاً عن إيران ومصالح المحور الذي تتزعمه.

في ظل هذه المخاوف، بادر النظام الإيراني إلى توجيه رسائل سياسية للتهدئة وفتح باب الحوار حول الملفات الإقليمية، يستهدف فيها مغازلة الإدارة الأميركية في وقت احتفظ بمستوى استهدافه للسعودية والإمارات. وأولى هذه الرسائل جاءت في المبادرة التي أطلقها مسؤول المكتب السياسي لجماعة الحوثي مهدي المشاط وإعلان وقف إطلاق النار والصواريخ والمسيرات باتجاه الأراضي السعودية، لتكشف عن ارتفاع منسوب المخاوف الإيرانية والثمن الذي ستدفعه جراء تحميلها مسؤولية هذا الاعتداء. ولعل البيان الصادر عن الترويكا الأوروبية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة سيسهم في تعزيز هذه المخاوف الإيرانية على الرغم من أنه أتى زمنياً بعد المبادرة الحوثية، التي وصفها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالخطوة الإيرانية في الاتجاه الصحيح للمساعدة في حل الأزمة اليمنية.

والمؤشر الثاني على هذه المخاوف الإيرانية ترجمه قرار طهران إطلاق سراح ناقلة النفط البريطانية التي كانت احتُجزت بعد احتجاز الناقلة الإيرانية في مضيق هرمز. وعلى الرغم من إصرار طهران على أن التوقيف جاء نتيجة خرق قانوني قامت به الناقلة البريطانية في مضيق هرمز، إلاّ أنّ طهران أكدت أن الإفراج لم يقفل ملف الإجراءات القضائية في المحاكم الإيرانية. غير أن هذه الخطوة لم تمنع رئيس الوزراء بوريس جونسون من الذهاب إلى خيار عدم توجيه اتهام لإيران بالتورط في عملية الهجوم على أرامكو لجهة تقديم الدعم والسلاح للحوثيين، على الأقل.

المؤشر الثالث في إطار المساعي الإيرانية لإبعاد شبح المواجهة المفتوحة مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة تحديداً، هو الحل الذي تم التوصل إليه على مسار الأزمة السورية بإعلان النظام السوري موافقته على تشكيل اللجنة المؤلفة من 150 شخصية سورية موزعة مثالثة بين النظام والمجتمع الدولي وتركيا وإيران وروسيا لدراسة كتابة دستور جديد لسوريا في مرحلة الحل السياسي، وما يعنيه ذلك من تخلي النظامين الإيراني والسوري عن كل المحاذير التي عطّلت تشكيل هذه اللجنة على مدى السنوات الماضية.

ويبدو أن الخلاصة التي توصّل إليها النظام من خلال تجميع الأوراق الإقليمية التي يعتبرها مجالاً طبيعياً لنفوذه، تؤكد له أن القوة التي يتمتع بها، بإمكانها تحقيق قوة ردع تساعده في إبعاد شبح الاستهداف، إلاّ أنّها لا توفر له شروط النصر وهزيمة الآخرين، وأنّ عليه أن يبادر إلى تقديم تنازلات من أجل قطع الطريق أمام تحول قوة الردع التي حققها إلى عامل هزيمة، في حال تعرض لتحد أكبر وأوسع يعجز عن التصدي له.

السابق
مساعي إيران لـ «تغيير النظام» في السعودية وواشنطن
التالي
صراع النفوذ يتجدد بين «المستقبل» و«التيار الحرّ»!