مشروع التجدد الحضاري

محمد حسن الامين
في إطار التجدد الحضاري بوصفه مشروعاً مقترحاً للتحول في العالم الإسلامي من واقعه الراهن إلى واقع يليق بالانتماء إلى الإسلام، بوصفه للأمّة بأنّها خير أمّة أخرجت للناس، فإنّ كثيراً من جوانب الحياة الفكريّة والدينيّة والاجتماعية، كما السياسية والاقتصادية وغيرها، هي من الموضوعات التي تتفرّع عن المشروع الأكبر، وهو التجدد الحضاري للعالم الإسلامي.

يقول سماحة العلاّمة المفكر السيد محمد حسن الامين: إنّ الإسلام هو شبكة من القيَم والمفاهيم والقضايا الكبيرة التي تهدف إلى صنع الإنسان اللائق بمزية الخلق الخاصّة التي خصّه بها الله سبحانه وتعالى، أي أنّ النص الديني والقرآن بالذات لم يكن من أهدافه أن يضع برامج تفصيلية للحياة الاجتماعيّة والسياسية والاقتصادية، ولكنه كان يؤسس لجهد بشري يؤدي للارتقاء بكينونة الإنسان، ومن الملاحظ أنّ الإسلام أدّى بعضاً من هذا الفرض عبر بضعة قرون، هي القرون الأولى للدعوة الإسلاميّة، فأنتج المسلمون ـ استناداً للنص الديني ـ حضارة مزدهرة، رغم ما فيها من الثغرات، وإهمال القابليات الأغنى للإسلام، وأذكر منها الحياة السياسيّة للمسلمين، والتي لم تكن تنسجم مع المدى العريض الذي وهبه الله للإنسان بوصفه كائناً حراً، ثمّ مرّت قرون عديدة تجمّد فيها شرط الإبداع في الفكر الإسلامي وفي الأدب الإسلامي بصورة عامّة، الأمر الذي يدفعنا نحن المفكّرين والمسؤولين، أقول: يدفعنا استناداً لقول الرسول المعروف: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» لأن نخوض مشروع تجدد حضاري، يحقق الوصل والاتصال بينابيع الإسلام الأصيلة من جهة، وبمرحلة الإبداع الحضاري الذي أنجزه المسلمون من جهة أخرى.

اقرأ أيضاً: مسؤولية نهضة الأمّة مناطة بالمفكّرين والفقهاء وليس بالسلطات

وأرجو أن لا يفهم من هذ الكلام أنّ المطلوب هو إنتاج إسلامٍ مخالف لما كان عليه السلف الصالح وغير الصالح، فنحن نقرّ بأنّ ثمة ثوابت في الدين لا تتغيّر، وهي الأحكام التوقيفية كالعبادات مثلاً، وهذه لا يختلف فيها عصر عن عصر آخر، فالصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها من الثوابت التي لا تعتبر موضوعاً للاجتهاد، أي لتغيير صورتها وشكلها اللذين فرضهما الإسلام.

أمّا مجال التجدد الحضاري فهو يشترط قبل كل شيء إيماناً بأنّ الكائن الإنساني على هذه الأرض يتطوّر ويتغيّر باستمرار، ويتطلّب الإقلاع عن الوهم الذي يمسك بعقول الكثير من الناس، الوهم بأنّ كل ما يتم إنتاجه في المجالات الإنسانية لا قيمة له ما لم يكن منطلقاً من الإسلام نفسه، مع العلم أنّ الله وضع أسباباً موضوعية إذا تمّ اتباعها من المسلم أو غير المسلم فإنها ستؤدي إلى الغرض السليم وإلى تطور الكائن الإنساني، فالله سبحانه لم يمنع أمّةً غير مسلمة ـ كالأمّة الأمريكيّة مثلاً ـ أن تصعد إلى الفضاء الخارجي وأن تنزل على كوكب القمر، بالرّغم بأنّ هؤلاء قد يكون أكثرهم غير مؤمنين، نضرب هنا المثل لنقول إنّه لا يكفي التمسك بالعبادات والأخلاق الدينيّة بحدوث مثل هذا التطور في الاجتماع الإسلامي بأنّ القاعدة ـ التي هي سنّة من سنن الله في الأرض ـ  أنّه لكي نصل إلى النتائج لا بدّ أن نتوفّر على الأسباب، أي أنّ قانون السببية هو قانون عام، يشمل العقل الإنساني كلّه، سواء المؤمن منهم أو غير المؤمن.

لا يمكننا في هذه المداخلة المختصرة أن نشرح أسباب التقدّم الحضاري للغرب، وأسباب التخلّف النسبي للشرق الإسلامي، ولكننا نلتقط عنواناً نحسبه أكثر العناوين أهميّة في إتاحة فرص التجدد الحضاري، وهذا العنون هو عنوان حق الإنسان فرداً ومجتمعاً بمزية الحريّة، فالله تعالى خلق الإنسان حراً، وأراده أن يبقى حراً، بحيث أنّه أعطى للإنسان حتى مساحة الخروج على أوامر الله ونواهيه، وهو القادر أن يلجم الناس عن فعل المنكرات، بل أراده كائناً حراً يحقق أهداف الخلق في الرقي والتقدّم والخلق الإنساني الرفيع، ولا يتعامل مع موضوع الحريّة كما تعامل معها الملوك والخلفاء في التاريخ الإسلامي، بحيث كانت تدرج في عداد المحظورات عندما تخرج عن إرادة الحاكم.

وإنّي لأزعم أنّ التخلف الحضاري بعد القرون الأولى إنما يكمن في مصادرة حريّة الإبداع واعتبارها مخالفة للدين والشريعة، هنا أقول إنّني لا أريد أن أضع برنامجاً شاملاً لتطور العالم الإسلامي، ولكني أبحث عن التركيز عن هذه النقلة الحضارية المرجوّة، فلا أجد مفتاحاً أوْلى من استرجاع حق الإنسان في الحريّة والفرادة، ويقع ضمن هذا الحق، حق قراءة النصوص الدينيّة، لا التقليديّة التي تكتفي بحفظ هذه النُّصوص وتكرارها، وكأنّ ما توصّل إليه الأقدمون من تفسير هذه النصوص هو الغاية التي لا غاية بعدها، وهو الحق المطلق الذي لا يجوز مناقشته.

قد يطلب القارئ مثالاً على نص نريد تجديد قراءته، وما أكثر الأمثلة على ذلك، ولكني أحب أن أركّز على مثال فيه طابع الشمولية، وفيه مساس كبير بالحياة الاجتماعيّة للمسلمين.

كل الخطباء يرددون الجملة المأثورة عن الرسولw: «كلكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته » وجميع الخطباء يحصرون هذه الرعاية برعاية الأب لأبنائه والمعلم لتلاميذه، ولرجل الأعمال تجاه عماله، ونحن لا ننفي ذلك، ولكننا نتساءل لماذا لا نأخذ منحىً إضافياً في تفسير هذه الكلمة التي تشكل منهجاً رفيعاً من مناهج بناء المجتمعات؟! فنقول إنّ كل فرد من أفراد المسلمين هو راعٍ بالمعنى الذي ينتسب إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتغدو هذه الكلمة كلّكم راعٍ تأسيساً لسلطة جديدة غير السلطات الثلاث المعروفة في المجتمعات (التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة) بل يصبح كل فرد مسؤولاً عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنّ المجتمع بأكمله يمارس سلطةً رابعة، ومثل هذه السلطة هي ذات مساس واضح بمبدأ الحريّة ـ الذي تكلّمنا عليه ـ بدلاً من أن يكون الناس جميعهم رعايا فحسب، والرعية محصورة ببعض الأشخاص.

في رأينا أنّ مضمون هذه الكلمة هو من أرقى ما جاءت به الأنظمة الاجتماعية، ونضيف إلى أنّ الصلاحية التي تعطيها هذه الكلمة للمجتمع ولأفراده هي أرقى من الصلاحية التي يمارسها الغربيّون الذين لا يعنيهم أن يروا منكراً يصدر من شخص فلا يمارسون واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انطلاقاً من اعتبارهم أنّ حريّة الإنسان غير محدودة ما دامت لا تمسّ حريّة الآخرين.

يبدو من هذه الأطروحة كما أشرتُ في بدايتها، إلى أنّ المسلمين مطالبون بأن يأخذوا بجميع المكاسب التي حققتها البشرية، وأن يدخلوا في هذه المكاسب الروح الإسلاميّة، وهذا يشكّل ليس تجديداً حضارياً للمسلمين بل يشكل عملاً بنيوياً على مستوى الحضارة الإنسانيّة بأكملها، فنحن أيضاً مسؤولون عن الآخرين بهذا المعنى، والحضارة الغربية عرفت أسباب التقدّم ولكنها جهلت غايته. فهل غير الحضارة الإسلاميّة المرجوّة هي التي يمكن أن تجدد حياة الأمم، وذلك بوضع الأهداف الإنسانيّة العليا لتلك الحضارة المادية التي أنجزها وينجزها الغرب الراهن؟!

اقرأ أيضاً: العلاقات الميدانية بين الأديان

كلّ ما أوردناه سابقاً يهدف إلى غاية واحدة هي أنّ جيلنا المعاصر مدعو إلى نبذ التقليد الأعمى والذهاب نحو منهج الإبداع في قراءة النص الديني، وقراءة التفسيرات التي أعقبت هذا النص، فنأخذ ما يصلح منها، ونبدع في رؤية ما لا ينسجم مع العقل والمنطق وهوية العصر، والرغبة في انبعاث روح جديدة لحضارة إسلاميّة مفترضة في هذه القرون الأخيرة.

وأرجو أن لا تكون المطالبة بحريّة القراءة والتفسير مصدراً لخوف أحد من تحريف الدين، فهذا الدين متين يجب أن نوغل فيه برفق، وأن يكون لدينا كل مئة عام من يجدّدون أمر هذا الدّين، وينفون عنه ما علق به من خرافات وبدع، وطبعاً الفرق واضح بين البدعة التي نستنكرها والإبداع الذي نتوخاه.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
حاصباني: إن لم ندخل في صميم الإصلاحات فمقبلون على وضع خطير جداً
التالي
صرخة من البص في صور رفضاً لتحويل المنطقة إلى مكب لنفايات