العلاقة بين «المستقبل» و«الاشتراكي»: خيبة «الشيخ» ويُتم «البيك»

وليد جنبلاط
شهدت الأشهر الأخيرة "صدامات" سياسية عدة بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي، تجلت في هجمات "تويترية" متبادلة وبكلام تخطى في بعض الأحيان أصول التخاطب السياسي لا سيما، بين حليفين سياسيين يجمعهما تاريخ من العلاقات والنضالات خاصة بعد 14 شباط 2005 وإندلاع شرارة ثورة الأرز. ثورة الأرز تخللها إنتصارات وإنكسارات، وتعمدت بالدم والدموع على شهداء سقطوا على طريق الحرية والسيادة والإستقلال.

الصدامات السياسية بين “الاشتراكي” و”المستقبل” هي تعبير صارخ عن المأزق الذي وصلت إليه العلاقات بين الحزبين منذ التسوية الرئاسية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، والتي حملت الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا، بعد أكثر من عامين من الفراغ الرئاسي، سبقها محاولة تسوية قام بها الرئيس الحريري مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، بهدف ملئ الفراغ وإنتخاب فرنجية رئيسا، وهي المحاولة التي لم تصل إلى خواتيمها بفعل رفض حزب الله التنازل عن ترشيح العماد عون، وكذلك رفض حزب القوات اللبنانية يومها هذا الخيار، فكان “إتفاق معراب” بين “القوات” و”التيار” الذي أتى ممهدا الطريق أمام التسوية بين “المستقبل” والتيار الوطني الحر وكان ما كان.

‏هنا إختلطت الأوراق، وتغيرت المعطيات و”إنفخت الدف وتفرق العشاق” كما يقال في كل من قوى 8 و 14 آذار اللتان أنهكتهما الخلافات، والصراعات السياسية على المكاسب، وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الخلافات على قوى 14 آذار أكثر منها على قوى الثامن منه بإعتبار أن هذه القوى باتت تشعر بالإنتصار، عبر تنصيب مرشحها الأساس لرئاسة الجمهورية بعكس الفريق الآخر الذي خرج من التسوية الرئاسية بجروح أثبتت الأيام أنها لم تندمل بعد، والدليل ما نشهده هذه الأيام وما شهدناه قبلاً من صدامات سياسية بين أطراف هذا الفريق الثلاثة الرئيسيين، “المستقبل” و”القوات” و”الإشتراكي”.

اقرأ أيضاً: هل تنجح وساطة برّي في «مصالحة» الحريري مع جنبلاط؟

بعد إنتخاب الرئيس عون وإختلاط الأوراق السياسية، بات كل طرف من الأطراف يعمل بمفرده ويسعى للدفاع عن موقعه وبخاصة فريقي القوات اللبنانية التي لمست بأن تسوية “المستقبل” و”التيار” أفقد إتفاق معراب وهجه وقوته، خاصة وأن الوزير باسيل بدا وكأنه يستعمل التسوية مع الحريري للتملص من إلتزاماته في إتفاق معراب من حيث تقاسم الحصة المسيحية معهم و”إلغاء” أي مكون مسيحي آخر، وهذه من الخطايا السياسية التي ترتكب في لبنان للأسف، والتي تساهم مساهمة كبرى في التوتر والتشنج في البلد، فبدلا من توسيع قاعدة التفاهم بين الأفرقاء حماية للجميع، تلجأ الأطراف السياسية للثنائيات، سواء الطائفية او السياسية، في محاولة لإلغاء الآخرين، وهو ما يدخل البلد دائما في توترات نحن بغنى عنها.

هذا النهج المعروف في التعامل السياسي في لبنان هو أيضا ما جعل الطرف الآخر وهو “الحزب الإشتراكي” وزعيمه وليد جنبلاط يتوجس من التسوية، خاصة وأنه لم يكن على علاقات جيدة ولا إنسجام سياسي ولا حتى شخصي مع الرئيس عون، الذي سبق له وأسماه تسونامي، ولا مع الوزير باسيل ولا مع تيارهم السياسي، عدا عن حساسية زعيم المختارة أصلا من تنصيب عسكري في رئاسة الجمهورية وهو الذي عانى ما عاناه إبان تسلم لحود للسلطة، وما نتج عنها من أحداث جسام. مضت السنة الأولى من حكم الرئيس عون بأقل الأضرار الممكنة، وكانت سنة قانون الإنتخاب الذي إستهلك الكثير من الأخذ والرد والشدّ والجذب إلى أن خرج بصيغته النهائية وكالعادة تبرم الجميع منه بنسب متفاوتة وحسب المصلحة السياسية لكل طرف، وقد أقر بالنهاية كالعادة تحت مبرر أنه أفضل الممكن وتحت عامل ضغط الوقت.

مع إنتهاء السنة الأولى كانت أزمة الحريري في الرياض وما نتج عنها من تداعيات وتفسخات وخاصة بين أطراف ما كان يعرف بقوى الرابع عشر من آذار، وما تركته من آثار على الرئيس الحريري كشخص وكزعيم تيار سياسي، تجلت في طريقة مقاربته للأمور السياسية في البلد، وفي علاقاته مع حلفاء الأمس الذين تراوحت مواقفهم إبان أزمته في الرياض بين تأييد “لإستقالته” وما يعنيه هذا الموقف على الصعيد السياسي وقت الأزمة، وبين التخبط في المواقف وإنتظار ما ستسفر عنه الأزمة مع محاولة نفي أن هناك شيء ما غير سليم في الوضع. هذه الآثار التي تجلت أكثر ما تجلت في خطاب الذكرى الثالثة عشرة لإستشهاد الرئيس رفيق الحريري، عبر المواقف التي أطلقها والتي دلّت يومها على تغيير في نمط التفكير السياسي لرئيس تيار المستقبل، بحيث بدا أكثر واقعية في الملف الداخلي متمسكا بالتسوية الرئاسية وبما أسماه ربط النزاع مع حزب الله، مع إحتفاظه بثوابته، كما وأنه بدا وقد “إكتسب” أدوات اللعبة السياسية اللبنانية التي وللأسف الشديد نقول أنها قائمة على مبدأ “كما تراني يا جميل أراك” وليس على مبادئ واضحة وأخلاقية، بعد ان دفع الرئيس الحريري غاليا ثمن “بساطته وعفويته وصدقه السياسي” مع الآخرين الذين ركبوا موجته وحاولوا ان يجعلوا منه متراسا لمشاريعهم ومصالحهم السياسية والمادية، بدا يومها سعد الحريري بثوب جديد وما عاد عندو “ذقن ممشطة ” كما يقول المثل ووجه عدة رسائل سياسية داخلية وبدا متحرراً من إرتباطاته وتحالفاته السابقة، مع تأكيده على أن حماية الوطن لبنان هي مهمة أنبل من أي مشاركة في حروب الآخرين في تأكيد جديد على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية قدر الإمكان، وكان تأكيد على رفضه قيادة الناس إلى الهاوية أو إلى أي صراع أهلي داخلي.

وعلى المستوى العربي أكد يومها أنه لن يبيع العرب مواقف إستهلاكية وغير واقعية في إشارة إلى الموقف من حزب الله. حصلت الإنتخابات وتغيرت المعطيات والتوازنات، وكان الحريري أكبر الخاسرين من جراء قانون الإنتخاب الذي أعطى قوى المعارضة السابقة الأكثرية بفعل إعتماد النسبية والصوت التفضيلي.

هنا بدأت معاناة الحريري مع حلفائه الجدد والسابقين، وبدأ التنمر عليه وإستنزافه في عملية تشكيل الحكومة، وبدأت الصراعات السياسية بين الأطراف المختلفة تفعل فعلها في العراقيل أمام تشكيل الحكومة، فتارة عقدة مارونية وأخرى أرمنية وثالثة سنية ورابعة درزية تصدى لها الزعيم وليد جنبلاط بعد أخذ ورد، وكان أن صعد بالحل إلى قصر بعبدا متخطيا بذلك الرئيس الحريري في ضربة منه موجهة لرئيس الحكومة وموقعه، وكانت خطوة غير موفقة من البيك أرخت بظلالها على العلاقات بين الطرفين ولو لم تظهر آثارها إلا بعد حين. وبعد تشكيل الحكومة بدأ العمل على الأمور العاجلة مثل خطة الكهرباء والموازنة والتعيينات في حين بدأ يظهر على السطح محاولات لتطويق جنبلاط وإستهدافه في معقله، وهذا ما تجلى في العراضة المسلحة التي قام بها أنصار وهّاب في الجبل والتي كادت أن تؤدي إلى مضاعفات خطيرة وصدامات ما أزعج جنبلاط، ترافق هذا مع توقيف ضابط أمن من المحسوبين عليه في قضية فساد ما إعتبره مساهمة في تطويقه وإستهدافه، لتأتي قضية بلدية شحيم وتفيض الكأس الذي بات ممتلئا، كل هذا جعله يطلق مواقفه عبر تويتر بطريقة فيها من التنمر والتحقير لرئيس الحكومة وتياره السياسي، حيث تحدث في المرة الأولى عن المفلسين الجدد، ومرة عن التيار التائه وغيرها من التعابير البعيدة كل البعد عن النقد والمعارضة السياسية ما إستدعى ردود قاسية من الحريري وفريقه، فاجأت الجميع وأخذت الأمور إلى منحى آخر غير صحي ولا جيد لا للبلد ولا للطرفين، وحسنا فعل الرئيس بري بتدخله لوقف السجالات في مرحلة أولى، بإنتظار هدوء الخواطر سعيا للحل.
نقول هذا لا للدفاع عن سعد الحريري وسياسته فلنا عليها الكثير من المآخذ، ولا لتحميل وليد بيك مسؤولية هذا الصدام، ولكن فقط لمحاولة وضع الأمور في نصابها، فلكل طرف الحق في مقاربة الأمور بالطريقة التي يراها مناسبة دون اللجوء إلى التنمر على الآخر وتحقير مواقفه، وهذا ما نطلبه من وليد بيك خاصة وأن الرئيس الحريري لم يتطاول عليه يوما لا بالشخصي ولا بالسياسي، حتى في عز الأزمات، وكان دائما يثني عليه وعلى دوره في إطلاق ثورة الأرز حينما كان دم الرئيس الشهيد لا يزال على الأرض، وكان دائما يقول أن وليد بيك بيمون وأنه لن ينسى له وقفته معه. وهذا ما أثبته في المراحل السابقة، لا أحد ينكر دور قيادة وليد جنبلاط في ثورة الأرز ولكن لا يجب أن ينكر أحد مدى تضحيات سعد الحريري ومدى تحمله تبعات المواقف والأحداث التي نجمت عنها وعن قراراتها، ويكفي أن نشير هنا لقرارات 5 أيار 2008 التي كانت الشرارة التي أطلقت أحداث السابع من أيار والتي كان جنبلاط وراءها لدرجة قيل أنه هدد يومها بسحب وزراءه من حكومة السنيورة إذا لم تتخذ هذه القرارات، في وقت كانت قوى الثامن من آذار تواصل إعتصامها وتحاصر السراي.
كذلك لم يتخذ سعد الحريري موقفا سلبيا من جنبلاط يوم خرج منفردا من قوى 14 آذار بعد إنتخابات 2009 وإتخذ لنفسه موقعا وسطيا، بل تفهم الحريري الموقف، كذلك يوم إسقاط حكومة الرئيس الحريري وتشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حين رضخ جنبلاط يومها تحت تهديد القمصان السود، ودخل الحكومة متخليا عن حليفه، ومع ذلك تفهم الحريري الموقف وبلع الموسى وإنقطع عن لبنان.
نقول هذا إنصافا للحريري ومسيرته السياسية والرجل ليس من طبعه الصدام وإفتعال المشاكل، نعم له توجهاته السياسية اليوم التي قد نتفق وقد نختلف معها ولكنها في النهاية خياره وهذا حقه كما هي مواقف وخيارات الآخرين حق لهم فلتبقى المعارضة في الإطار السياسي ولتبتعد عن الشخصي ونتمنى على الطرفين تحييد المرحلة السابقة المضيئة في علاقتهم وخاصة مرحلة ما قبل 2008 عن هذا السجال، والخلاف لأنها كانت من أشرف المراحل وأنبلها حيث تجلت فيها مقولة دخل السوريون على دم كمال جنبلاط، وخرجوا على دم رفيق الحريري.

اقرأ أيضاً: لبنان… إنقاذ تسوية متخيَّلة

نقول هذا ونعول اليوم على وساطة وحكمة الرئيس بري في جمع الرجلين لما لإجتماعهما من مصلحة للبلد والناس، وعلى أن تكون هذه الأزمة غيمة صيف عابرة وأن يتم العمل على إزالة كل التراكمات السابقة في العلاقة، سيما ونحن اليوم على مستوى المنطقة نعيش أخطر المواقف والأحداث من مؤتمر البحرين، ومخاطر فرض التوطين إلى إجتماع تل أبيب بين قادة الأمن القومي لكل من أميركا وروسيا وإسرائيل، إلى التطورات المتسارعة في الخليج.
كل هذه التطورات عدا عن أزمات لبنان الداخلية وما أكثرها، تتطلب تفاهماً وتعاون كل الأطراف، عبر تفهم هواجس الجميع. وهنا نتوجه للرئيس الحريري بالقول أن تسويته مع التيار الوطني الحر ولو أنها أرست وضعا معينا في البلد، إلا أنها تبقى بين فريقين إثنين، بينما مسؤوليته كرئيس للحكومة تشمل كل الأطراف وهو مسؤول عن معالجة هواجس وليد جنبلاط كما غيره من الأطراف، تحت سقف الدستور والقانون وهو الرجل الذي عرف بإعتداله وسعيه لتسوية كل الأمور بالهدوء وتدوير الزوايا، وهو دور نتمنى أن يستمر بلعبه وأن يكون حكماً لا طرفاً في أي صراع، مستمداً قوته من صلاحياته الواسعة كرئيس للحكومة، التي تسمح له بفرض التوازن بين كل أطراف الحكومة دون إفراط أو تفريط.

السابق
الحكم بقضية الحريري في تشرين الأول
التالي
المجلس الدستوري سحب الدعوى المقدمة في حق جمالي