بلدية الحدث والعونية: الخوف على المسيحيين

في مكان ما، قد أنحاز إلى توجس أهل بلدة “الحدث” المحاذية للضاحية الجنوبية الشيعية، من “تمدد” ديموغرافي غامر يجتاح بلدتهم ويغير من “هويتها” وطابعها ونسيجها السكاني، وقد يهدد مقومات تماسك أهلها وانفراط عقدهم واضطرارهم إلى الهجرة.

في مكان ما، قد “أتفهم” لجوء بلدية الحدث إلى قرار ينقض حقوقاً دستورية وبديهية للمواطنين اللبنانيين، في الإقامة أنّى شاؤوا على امتداد بلدهم وحيثما توفرت لهم شروط السكن. بل وقد أتقبل تلك الخشية من “مؤامرة” استيطانية مدروسة ومتعمدة، كما قد يتخيل البعض.

وعليه، لربما بذلت جهداً سياسياً لتبديد أسباب التوجس والخشية، خصوصاً وأن اللبنانيين هم حكماً يعيشون معاً في جغرافيا واحدة. وهذا العيش يتطلب عقداً وطنياً ينظم حياتهم ويضمن حقوقهم المتساوية والعدالة فيما بينهم. وبما أنهم في “جمهورية” واحدة، فمن المفترض أن يسعوا إلى نظام سياسي يبدد أوهام الأكثريات ومخاوف الأقليات.

اقرأ أيضاً: عنصريو لبنان وحزب الله..استبدال اللاجئين بعودة “الوصاية”

ومنذ العام 1989 إلى العام 2005، ورغم كل الاختلال المؤذي الذي سببته الوصاية السورية، جرّب اللبنانيون وجهة تلاق وحوار ومراجعات، أدت إلى بلورة “انتماء” وطموحات وتصورات مشتركة، انتصرت فيها السردية المسيحية عن أسباب الحرب، على نحو جعل معظم السنّة والدروز وقسم وازن من الشيعة ينحازون إلى عصبية لبنانية (مسيحية المنشأ) لأول مرة منذ تأسيس الكيان.

وما بين 2005 و2006، بقي حزب الله (وحركة أمل، اضطراراً) خارج هذا الانحياز، ورافضاً لفرصة تاريخية في توأمة إنجاز “التحرير” مع إنجاز “الاستقلال الثاني”.

وأمام هذا الاستعصاء الناشئ، في مطلع العام 2006، اختار “التيار الوطني الحر” الانعطاف بجمهوره نحو خطاب سياسي، فحواه وخلاصته التصور الكونفدرالي لعلاقات الطوائف أو “لاعلاقاتها” بالأحرى، والدفع بعموم السكان نحو التحصن بهويتهم المذهبية، تمهيداً لصيغة “تعايش” (على مضض) وحسب، تقصر عن “العيش المشترك” أو على الأقل تكبّله بحدود الريبة وبشروط “التمايز”. وأرسى فيما عرف بـ”تفاهم مار مخايل” مفهوماً جديداً يضاهي قوة الدستور وينافسه، مفاده تسوية تمنح مصير لبنان السياسي لحزب الله والجماعة الشيعية، مقابل ضمانات حماية وامتيازات اقتصادية وإدارية للجماعة المارونية، بما يشبه المعاهدات بين كيانين سياسيين أو بلدين متجاورين.

وتكفّل فائض القوة لحزب الله في إلحاق الهزيمة بحركة 14 آذار، التي كانت تقترح الاستقلال بمصير لبنان من جهة، وسيادة “العيش معاً” من جهة ثانية، حسب الوعد النهائي لـ”الميثاق” المكرس في اتفاق الطائف ودستوره، حين يتوازن فيه الاعتراف بالطوائف ومبدأ المناصفة مع طموح بناء الدولة المدنية، المتعالية على الطوائف كمساحة “وطنية” قابلة للتوسع.

ومن تبعات هزيمة “14 آذار”، نكوص كل طائفة إلى شرنقتها، كجسم سياسي مستقل، تنازع الطوائف الأخرى وتواجهها بوصفها تهديداً وجودياً دائماً. وعلى هذه الترسيمة التي تثبتت فيها “حرب أهلية باردة”، ضمنَ فيها حزب الله تفوقه المطلق، كمدبر لبقاء تلك الحرب “باردة” ومستمرة في آن معاً، ومنعَ تجدد مناخات 2000 – 2005، التي جمعت اللبنانيين كما لم يجتمعوا من قبل.

ونتج عن هذا “الواقع” طوال 13 عاماً موتاً بطيئاً لمضامين وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، واستيقاظاً للضغائن ونبشاً للقبور واستثماراً للمخاوف ونفخاً في الأحقاد، حتى بدت “السياسة” كلها مغمسة بحقارة التحريض وسفالة الترهيب، على شاكلة لبنان الثمانينات. وأدى هكذا “واقع” مصنوع عمداً وبإرادة سياسية واعية، إلى إضفاء شرعية على خطاب “التيار الوطني الحرّ” المتقلب بين رياء “التفاهم” وكراهية “الآخر” (مطلق آخر)، والذي يتبنى مشروعاً يقترح في نهاية المطاف، العودة إلى مفاوضات عام 1988 – 1989.

واستطاع جبران باسيل “مهندس” هذا الواقع الكالح، جرّ شطر كبير من المسيحيين مجدداً نحو اعتناق معتقدات محددة، قوامها توأمة الطائفة السنية بـ”الداعشية”، فيما “الثأر” من الدروز لم ينته بعد، أما الشيعة فهم “الخطر” الذي يجب مداراته، حيث تختلط المشاعر المتناقضة بين الإحساس بالضعف والخوف أمام قوتهم، والنظرة الاستعلائية “الثقافية” وتهويماتها. أما النظرة إلى الذات فهي مطابقة لخطاب باسيل ونظرية الجينات والتفوق العرقي، الطافحة بمركّب عنصري طائفي، تمييزي إطلاقاً، بأحط نسخ اليمين المتطرف وأكثرها رجعية.

والحق يقال أن النسخة الجديدة من “المارونية السياسية” لجبران باسيل تشبه إلى حد بعيد “العلوية السياسية” التي بلورها بشار الأسد، والمتسمة برغبة الإبادة والاستئصال كشفاء وحيد لـ”الخوف التاريخي” الضارب عميقاً في وعي “الأقليات”، خصوصاً عندما تعرّف نفسها: أقليات.

في العقد المنصرم، نجحت العونية – الباسيلية في حرف المطلب السياسي الكبير، “حقوق اللبنانيين”، وتشظيته إلى حقوق مسيحيين وحقوق سنّة وحقوق شيعة.. إلخ، وتنصيبها متضاربة ومتقابلة ومتناقضة ومتعادية. وحدث، قبل بدء الحملة الفاشية على اللاجئين السوريين، أن قاد العونيون حملات “حقوق المسيحيين” وطلبهم من الطوائف الأخرى تنازلات تعزز “بقاء” المسيحيين ووجودهم وتطمئنهم. وترجم العونيون هذا بتكرار ما اقترفته ميليشيات طائفية غالبة حين “دخولها” الجشِع والنهِم إلى هيكل الدولة وإداراتها، فاستعرت مجدداً حفلات النهش والمحاصصة وأخلاق الفساد. وصاحبتها مناكفات عقارية في جبيل والضاحية الجنوبية وجوار بعلبك والشوف وأمكنة كثيرة.. وتواطأ رأي عام ساير العونية إلى حد بعيد، كما تبنى فكرة “إرضاء” المسيحيين وطمأنتهم. فسكت عموم اللبنانيين عن حوادث وصدامات وحزازات مفعمة بالطائفية والبغض الديني، وممارسات تحريضية واستفزازية مشبعة بالكراهية، رأينا أمثلتها في جرائم قتل وتعديات وهجمات لغوغاء وزعران شوارع، كما في التصريحات المسربة، أو في مواقف متصلة بالجنسية اللبنانية.. وصولاً إلى قرارات البلديات الزاجرة والمانعة للعمال السوريين، وكذلك ما يتعلق ببيع أراض أو شقق أو تأجير منازل. وكان السكوت أو الاحتواء هذا مصدره إما متطلبات “التفاهم” ما بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وإما شروط التسوية العامة بأطوارها المبتدئة باتفاق الدوحة (2008).

على هذا، لم يعترض أحد فعلياً على قرارات أو سياسات انتهجها العونيون وشجعوا عليها كثرة مسيحية، بإقامة سياج غير مرئي بين الطوائف (روحيته الخالصة في القانون الانتخابي الأرثوذكسي والقانون الانتخابي الحالي)، سكناً وعملاً وحياة اجتماعية، ومنها الامتناع عن بيع الأراضي لغير المسيحيين، وعدم تأجير محال أو بيوت لغير المسيحيين.

لكن، كان لتزامن تجديد رئيس بلدية الحدث (معقل عوني بامتياز) جهره العلني برفض إقامة عائلة مسلمة في بيت مستأجر ضمن نطاق بلديته، مع سلسلة خطب ومبادرات جبران باسيل المشبعة بالعنصرية تجاه السوريين، أن نبّه المسلمين اللبنانيين تحديداً وأكد لهم اشتباههم أن الضغائن الموجهة نحو “اللاجئين” السوريين (والفلسطينيين طبعاً) إنما تتصل وتتناسل مع مواضي الضغائن العنيفة والحربية التي عاشها المسلمون والمسيحيون في عقدي السبعينات والثمانينات، بل ومع مواضي سابقة تميزت بها “الجمهورية الأولى” في تصنيفها اللبنانيين بين مواطني الدرجة الأولى ومواطني الدرجة الثانية. فتعاضدت خطب باسيل وتصريحاته وعباراته مع أقوال رئيس بلدية الحدث وأفعاله، على نحو كاشف لـ”أيديولوجيا” ربما “حراس الأرز” أنفسهم ما عادوا على هذا القدر من الإيمان بها. أيديولوجيا تجعلنا خائفين حقاً على مستقبل المسيحيين.

السابق
قوات الاحتلال نصبت خيمة بمحاذاة الدشمة المقابلة لحاجز الجيش في عديسة
التالي
ريم حنا: راضية عن «الكاتب» وأحضِّرْ لمسلسل لا يزال جنيناً