نعي مسبق للوساطة اليابانية

تكشف متابعة الخطاب السياسي الأمريكي إزاء الأزمة المتفجرة منذ أسابيع مع إيران عن “فجوة هائلة” بين دعوة التفاوض “اللينة” وخطاب “التشدد العقابي”. هذه الفجوة تتأكد بصفة خاصة فى المزج بين الدعوة الأمريكية “للتفاوض على اتفاق نووي جديد” كما ينادى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبين حرصه على تأكيد ثقته في نجاح ما يعتبره “إستراتيجية الضغط القصوى” لإجبار إيران على القبول بمثل هذا الاتفاق.
لذلك يكون منطقياً السؤال عن مدى جدية العروض الأمريكية للتفاوض مع إيران، خصوصاً إذا كانت واشنطن تدرك جيداً أن إيران لن تخضع لضغوط ولن تقبل بشروط. هل واشنطن جادة فعلاً؟
هذا السؤال يفرض نفسه الآن على وجه التحديد بالنسبة لأى تفاؤل بخصوص فرص نجاح الوساطة اليابانية التى سيقوم بها رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى الذى سيزور طهران غداً الأربعاء فى ظل ما يمكن اعتباره تعمد أمريكى لإفشال الوساطة اليابانية. فلماذا كان إغراء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لرئيس الوزراء اليابانى للقيام بهذه الوساطة؟
ففي مؤتمره الصحفي يوم الاثنين (28/5/2019) مع رئيس الوزراء اليابانى قدم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الكثير والكثير من “المحفزات” و”المغريات” لرئيس الوزراء اليابانى كي يقبل أن يقوم بالوساطة بين واشنطن وطهران مستغلاً العلاقة الجيدة التى تربط اليابان بالطرفين الأمريكي والإيراني. وما كان ممكناً أن يعلن شينزو آبى عن زيارة لطهران والقيام بوساطة هدفها “التوصل إلى حل سلمى للتوترات المتصاعدة” بين واشنطن وطهران دون أن يحصل على ضوء أخضر أمريكي قوي.

اقرأ أيضاً: الإعصار الأميركي ـ الإيراني وتصدُّع النظام اللبناني

ففي هذا المؤتمر الصحفى قال ترامب أنه يعتقد أن إيران “ترغب حقاً فى إبرام اتفاق واعتقد أن ذلك ينم عن ذكاء، واعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق”، وقال أيضاً “إذا رغبوا فى الحوار فنحن راغبون أيضاً”. وزاد على ذلك التأكيد على “عدم نيته تغيير النظام في إيران، وأنه لا يسعى لإيذاء إيران على الإطلاق”. مضيفاً أن “إيران بقيادتها الحالية أمامها فرصة لكى تصبح دولة عظيمة”. ولخص موقفه من الأزمة المتفجرة الآن بقوله “نحن لا نتطلع لتغيير النظام أريد فقط أن أوضح ذلك. نحن نتطلع إلى عدم امتلاك إيران أسلحة نووية”.
حتماً أن هذه التأكيدات كانت لها مردوداً إيجابياً عند رئيس الوزراء الياباني وشجعته على طرح فكرة القيام بدور “الوساطة” خصوصاً وأن محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني كان قد قام بزيارة لليابان قبل أسبوعين فقط من زيارة دونالد ترامب، وأن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو دخل هو الآخر، بعد ثلاثة أيام فقط من زيارة ترامب لطوكيو، فى مزاد التحفيز للوساطة اليابانية عندما أعلن من سويسرا (1/6/2019) عن “استعداد بلاده للتحاور مع طهران بدون شروط مسبقة”، وقال فى مؤتمر صحفى مع نظيره السويسري الذى تقوم بلاده بدور رعاية المصالح الأمريكية فى إيران “نحن على استعداد لبدء محادثات بدون شروط مسبقة، نحن مستعدون للجلوس معهم إلى طاولة مفاوضات”. بومبيو المتشدد ضد إيران قال ذلك وهو الذى سبق له أن وضع 12 شرطاً لتفاوض أمريكى جديد مع إيران أبرزها إنهاء البرنامج النووى والتخلص من ترسانة الصواريخ الباليستية والتوقف نهائياً عن سياسة “دعم الإرهاب” وتهديد الدول المجاورة لذلك كان منطقياً أن يقول مسئولون بوزارة الخارجية اليابانية أن “اليابان هى الدولة الوحيدة التى يمكن للجانبين أن يتحدثا معها بصراحة”.
تفاؤل أحبطه الأمريكيون أنفسهم. فإذا كان مايك بومبيو قد أعلن فى حديثه عن استعداد بلاده للتفاوض مع إيران بدون شروط فإنه تدارك، فى ذات المؤتمر الصحفي وقال أن “الجهود الأمريكية لإنهاء الأنشطة الخبيثة لهذه الجمهورية الإسلامية، هذه القوة الثورية ستتواصل” ما يؤكد حقيقة الفهم الأمريكي لدعوة الحوار أو التفاوض مع إيران باعتبارها استجابة للضغوط الأمريكية وأن واشنطن تريد أن تأتي إيران للتفاوض وهى مرغمة أو مضطرة أو عاجزة عن الصمود والرد، من هنا جاء الانقلاب الأمريكى على الوساطة اليابانية ربما لإفشالها وربما لتوجيهها إلى حيث تريد واشنطن، أى إرغام طهران على القبول بما يريده الأمريكيون.
فقد بادرت وزارة الخزانة الأمريكية بإعلان فرض عقوبات على صناعة البتروكيماويات الإيرانية التى تعد عصب الاقتصاد الإيراني، وذلك بفرض عقوبات على شركة “جي بي آي سي” أضخم مجموعة إيرانية للبتروكيماويات لاتهامها بتقديم دعم مالى ضخم للحرس الثورى الإيراني، وقال سيجال ماندلكز مساعد وزير المالية الأمريكي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية أن “الحرس الثورى الإيرانى تسلل بشكل منهجى إلى قطاعات رئيسية فى الاقتصاد الإيراني لتمويل نفسه”. وبعده جاء الدور على مايك بومبيو وزير الخارجية ليطالب إيران “بوقف تهديداتها وتصعيدها النووى، وتجمد تجارب الصواريخ الباليستية وتكف عن دعم الإرهابيين وتوقف الاحتجاز التعسفى للأجانب”، وهو الذى كان يتحدث قبل أيام عن “حوار غير مشروط مع إيران” ثم جاء الدور على جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى ليتهم إيران بإنفاق أموال مواطنيها على الإرهاب والاغتيالات، لكن الأهم هو مطالبتها بـ “إنهاء حكم الإرهاب الذى دام 41 عاماً” ويقصد نظام الجمهورية الإسلامية في انقلاب واضح على تصريحات الرئيس الأمريكي في طوكيو بأن أمريكا “لا تتطلع إلى تغيير النظام”.
عندما يحدث هذا كله قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام على الأكثر من بدء شانزو آبى رئيس الوزراء اليابانى زيارته لطهران فالمعنى المباشر هو أن واشنطن تتعمد إفشال هذه الزيارة، والسؤال المنطقى هو لماذا كان الحرص الأمريكي على تحفيز رئيس الوزراء الياباني للقيام بوساطته؟
هناك من يقول أن ما ورد على لسان ترامب فى طوكيو لم يكن جاداً، وأنه ربما كان يجامل رئيس الوزراء الياباني الحريص على نزع فتيل التوتر بين دولتين صديقتين لبلاده، وأنه يقوم بالوساطة بدوافع يابانية وليس بإغراءات أو حتى ضغوط أمريكية، وأن زيارة ترامب لطوكيو لم تكن من أجل الأزمة المتفجرة مع إيران ولكن لدوافع انتخابية رئاسية بحتة بالنسبة للرئيس الأمريكي الذى أعلن أنه قرر أن يخوض تلك الانتخابات التى ستجري في نوفمبر من العام القادم، وأنه أراد أن يحقق مكاسب اقتصادية أمريكية مع اليابان وهي الورقة الوحيدة بيده التى يريد أن يسوق نفسه انتخابياً بها، لكن رغم رجاحة هذا الرأى فإن المؤكد أن أمريكا تريد فعلاً التفاوض مجدداً مع إيران ولكن على شاكلة التفاوض مع كوريا الشمالية. إغراءات لغوية وإطراء للشعب ولشخص الزعيم للحصول على مكاسب دون تنازلات.
الإيرانيون فهموا ذلك، وإن كانوا قد تفاعلوا إيجابياً مع دعوة الحوار والتفاوض الأمريكية خلال الأسبوعين الماضيين، فإن القبول بهذه الدعوة كان ضمن الضوابط التى حددها الرئيس الإيراني حسن روحاني بقبول التفاوض “على قاعدة الاحترام المتبادل وإتباع القواعد الدولية” لكن التشدد الأمريكى ولد تشدداً إيرانياً. فقد اعتبر أمير خاتمي وزير الدفاع الإيراني “استعداد واشنطن للتفاوض بلا شروط مسبقة كذب وخداع ومراوغة، لأنهم نفذوا عشرات الشروط المسبقة أحادية الجانب ضد إيران”. أما على شمخاني الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني فقد اعتبر أن “أمريكا لا تستحق التفاوض، وأن دعوات المفاوضات هدفها الضغط على إيران”.
فهمت إيران رسالة القرار الأمريكي بفرض عقوبات جديدة على قطاع صناعة البتروكيماويات، واعتبرتها “برهان أكيد على عدم جدية واشنطن للتفاوض” وقال عباس موسوي الناطق بلسان الخارجية الإيرانية أن “أسبوعاً واحداً كان كافياً لإثبات زيف مزاعم الرئيس الأمريكي حول التفاوض مع إيران”، من هنا جاء قرار مجلس الأمن القومي الإيراني بوضع ثلاثة شروط للقبول بأي دعوة للحوار أو التفاوض مع واشنطن هي: العودة الأمريكية للاتفاق النووي، ورفع كل العقوبات المفروضة على إيران، وتعويض خسائر إيران. شروط ثلاثة تنعى مسبقاً الوساطة اليابانية وتعود بالأزمة مجدداً إلى دائرة الخطر.

السابق
تعرّف على الدول الـ10 الأكثر تقدماً في التكنولوجيا
التالي
«القوة المشتركة» في «عين الحلوة»: العمل مستمر لكشف المزيد من أفراد «شبكة العنكبوت»