من ملاك غروزني إلى ملاك إدلب.. من يؤرخ الجريمة

مصطفى فحص

مخطئ من يراهن على أن المجتمع الدولي سيبذل جهودا إضافية من أجل وقف الجريمة الروسية المستمرة في ريفي إدلب وحماه، حيث فشلت كافة الجهود الدولية والإقليمية في إدانة المرتكبين أو في دفعهم إلى وقف أعمالهم الحربية التي باتت أقرب إلى عمليات إبادة جماعية.

أعادت هذه الأعمال إلى الذاكرة معارك سابقة جرت ضد مقاتلي المعارضة السورية في حلب وداريا، ولكن قساوة المشهد في ريفي إدلب وحماه أعادت التذكير سياسيا وعسكريا بمصير العاصمة الشيشانية غروزني.

في غروزني سابقا، كما في إدلب الآن، تعتمد موسكو على منهج التدمير الشامل، وتمارسه كعمل مدروس وممنهج، يرتكز على رؤية عسكرية روسية جوهرها مبدأ تحطيم الخصم وإنهاكه، عبر الاعتماد على القوة الجوية المفرطة والاندفاعة البرية القوية، حتى لو تكبدت خسائر كبيرة.

فبالنسبة لجنرالات الحرب الروس المبالغة في استخدام القوة، بغض النظر عن حجم الخصم، تحقق الأهداف المطلوبة وتفرض واقعا ميدانيا ينعكس على موازين القوة سياسيا، خصوصا أن مشاريع الحل الروسي لسوريا وصلت إلى حائط مسدود، حيث عجزت موسكو في إقناع المجتمع الدولي بوجهة نظرها.

اقرأ أيضاً: الإعصار الأميركي ـ الإيراني وتصدُّع النظام اللبناني

فالفشل في تسويق الرؤية الروسية للحل السياسي في سوريا، يضع موسكو أمام القوة كفرصة أخيرة لإنهاء “المقتلة” الروسية في سوريا وتجنب السقوط الكامل في مستنقع الاستنزاف الطويل. لذلك، قررت موسكو الاستقواء على ما تبقى من معارضة سورية وتكرار التجربة الشيشانية، التي أدت إلى احتلال غروزني وإنهاء الصراع في جنوب القوقاز، دون الاكتراث لمقتل 15 ألف شيشاني وتدمير كلي للمدينة وتهجير أكثر من 150 ألف من سكانها، حيث وصفت الأمم المتحدة حينها ما جرى في العاصمة الشيشانية بأسوأ كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية. أما بالنسبة للكرملين، كان احتلال غروزني هو الانتصار الذي منح روسيا فرصة الخروج من الفوضى الداخلية.

لكن صمود المعارضة في إدلب وعدم تخلي أنقرة عن موقفها الداعم لها زاد من حجم المأزق الروسي الذي أصبح عالقا في إدلب ما بين خيارين لا ثالث لهما، إما القبول بالهزيمة، وهذا غير وارد في طبيعة العقل الروسي، أو الاستمرار في ارتكاب الجريمة مهما كانت تداعياتها المستقبلية.

لا يحسب “العقل الروسي” حساب الضحايا. في شهر رمضان لوحده سقط قرابة 1000 قتيل مدني جرّاء القصف العشوائي للطيران الروسي وطيران نظام البعث، الأمر الذي يغذي حالة العداء القائمة أصلا ما بين موسكو والأغلبية السورية بسبب انحيازها لنظام أقلوي يمارس إبادة جماعية ممنهجة ضد مواطنيه، ويعمل مع طهران الخصم العقائدي للثورة السورية على تغيير الديموغرافيا الوطنية.

فحجم العنف المرتكب من قبل روسيا وإيران ونظام الأسد كفيل بالقضاء على أية فرصة للحل السلمي حيث يجري استخدام مفرط للقوة لفرض الاستسلام على السوريين كما جرى في غروزني، وهو ما أرّخته الكاتبة والصحفية النرويجية آسني سييرستاد في كتابها “ملاك غروزني” حيث كتبت: “عُدت إلى غروزني سرا، كانت المأساة في الشيشان لا تزال مستمرة ولكن العالم كان قد تحول إلى صراعات أخرى، قابلت في هذه البلاد المحطمة الأيتام والجرحى والضائعين، قابلت أطفال غروزني الذين سيعيدون صياغة مستقبل بلادهم، ترى ما الذي يحدث لطفل يكبر والحرب تكتنفه من كل جانب وينمو وهو معتاد على العنف الذي دمر طفولته وحرمها منها؟”.

كلام سييرستاد يفتح السؤال حول مستقبل الأطفال الناجين ليس فقط من إدلب بل من كل سوريا؛ هل سيرضخون للقوة أم أن العنف سيولد العنف؟ هذا ما حاول الكاتب اللبناني علي الرز تأريخه في مقاله في صحيفة الراي الكويتية بعنوان “اسمي إدلب” إذ كتب: “ومن رمى البراميل المتفجرة مهّد المشهد لولادة القنابل البشرية المتفجّرة… حلقة واحدة لا يمكن معها إنكار مسؤولية من سكن هذه الأرض عن السماح باستباحة الأرض والعرْض”.

عمليا، أدى إصرار موسكو على خوض معركة إدلب ومحاولات السيطرة على أجزاء واسعة من ريفها وريف حماه إلى عودة التفاهمات التركية ـ الأميركية بالرغم من فتور العلاقة بينهما، فقد أكد المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا جيمس جفري أن بلاده تؤيد المطالبات التركية بوقف إطلاق النار في إدلب ولديها مخاوف مشابهة بالنسبة للمدنيين في المحافظة الواقعة في شمال غربي سوريا.

ولكن الأبرز في مواقف جفري، والذي يُعد ضربة جديدة للمصالح الروسية في سوريا، تأكيده على تطابق وجهات النظر بين بلاده وتركيا بشأن عدم استمرار بشار الأسد في الحكم، وهو مؤشر إضافي إلى انفراط عقد التسويات التركية ـ الروسية التي جرت في أستانا وسوتشي، والتي دفعت تركيا إلى تجنب الحديث عن مصير الأسد، إرضاء لموسكو التي أغرت أنقرة بمساعدتها على معالجة قلقها الدائم من التهديدات الكردية.

عودة الحديث عن مصير الأسد، يفرغ كل الانتصارات الروسية من مضمونها ويعيدها إلى عقدة البداية، لجهة أن مصيره ورقة لا تصلح للمقايضة، فيما حاولت موسكو وضع مصير الأسد وتمسكها به عنوانا لانتصار إرادتها، التي يبدو أنها فشلت حتى الآن على أبواب إدلب، حيث المعادلة تختلف عن غروزني المعزولة، وحلب المحاصرة والبعيدة عن الحدود الدولية، فيما أصبحت إدلب مفصلا جديدا يؤرخ لمرحلة جديدة من الصراع على سوريا قد يُوقع روسيا بتجربة أفغانية أخرى حيث ملامح تحالف شمالي سوري باتت ممكنة.

السابق
البلد السايب يستجلب الإرهاب
التالي
جنبلاط يسأل: من الحاكم في هذا البلد؟