أسابيع مصيرية في ملفات البيت الأبيض الدولية

تتّضح معالم التشدّد لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب وادارته بالذات نحو فنزويلا والجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث تتصاعد لغة استخدام القوة العسكرية إذا تطلّبت الضرورة. الأيام المقبلة قد تشهد نقلة نوعية في المواقف والإجراءات الأميركية ازاء البلدين ما لم يتم الانتقال السلمي في السلطة في كراكاس، وما لم تقرر طهران ان مصلحتها تقتضي المهادنة وليس رفع سقف التحديات رداً على تطويق واشنطن لها نفطياً بالذات بإجراءات إيرانية في مضيق هرمز.

الموقف المتشدد الآخر ستتخذه واشنطن نحو “الاخوان المسلمين” حيث تنوي تصنيف هذه الجماعة “إرهابية”. هذا سيثير سخط أنقرة وقد يؤدي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى المزايدة أكثر فأكثر في دعمه لصديقه في كراكاس نيكولاس مادورو الذي حوّل الشعب الفنزويلّي الى فقير وجائع فيما كانت فنزويلا بين أغنى الدول في أميركا الجنوبية. بين أصدقاء مادورو كل من بشار الأسد، وقيادات إيران المتشدّدة والمعتدلة، الى جانب أمثال قادة بوليفيا ونيكاراغوا وكوبا.

رئيس كولومبيا، ايفان دوكي، دعا الجيش الفنزويلّي الى الانضمام الى زعيم المعارضة خوان غوايدو الذي تدعمه أغلبية دول أميركا الجنوبية والدول المجاورة وكذلك الولايات المتحدة وأغلبية الدول الغربية. مسألة دعوة الجيش الى دعم الحراك المدني الذي يقوده غوايدو لافتة لأنها، واقعياً، عمليّة.

ذلك ان الانتقال من الاستبداد وحكم التطرّف الديني والعسكري الى حكمٍ مدني يبدو شبه مستحيل ما لم يتم عبر المؤسسة العسكرية. هكذا هو الحال في السودان وفي الجزائر وكذلك في ليبيا حيث الحسم العسكري يبدو ضرورياً، واقعياً، بينما في السودان فرصة قيّمة لتحقيق توافق بين المدنيين والعسكريين على سابقة حيث لا تبقى المعادلة حصراً الخيار بين حُكم “الاخوان المسلمين” وبين الحُكم العسكري.

في طيّات كل هذه التطورات، بالذات في الساحة الفنزويليّة، تتعرّض العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو الى اهتزاز وزعزعة وسط تبادل الاتهامات والتحذيرات من “عواقب”. كل هذا يحدث في أجواء أميركية ملتهبة حيث بدأت حملات الرئاسة الأميركية وسط انقسامات شعبية عميقة ووسط ضعف بنيوي في صفوف الحزب الديموقراطي ومزايدات في ملف السياسات الخارجية بدءاً بملف فنزويلاّ، مروراً بدفاع البعض عن “الاخوان المسلمين”، وانتهاءً بموضوع اليمن الذي تبنّاه نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما، جو بايدن، وسيلةً للتهجّم على دونالد ترامب. بايدن هو نفسه من دعم صعود “الاخوان المسلمين” الى السلطة باسم الديموقراطية ودعم اقتناصهم “الربيع العربي”، وهو نفسه الذي دعا الى تقسيم العراق كسياسة أميركية.

التصعيد الأميركي – الإيراني، حسب مصادر مطّلعة، سيدخل مرحلة التأهب هذا الأسبوع. الرئيس دونالد ترامب ينوي الاعلان عن التزام الولايات المتحدة بإجراءات متشدّدة نحو الدول التي تخرق التطويق النفطي لإيران وتستمر في استيراد النفط رغم انهاء فترة الإعفاءات من العقوبات. إجراءات تتضمن عقوبات نحو هذه الدول. ينوي، حسب المصادر، انذار طهران ألاّ تتخذ أية إجراءات انتقامية بالذات في مضيق هرمز أو نحو الصادرات النفطية للسعودية أو غيرها من الدول العربية الخليجية. تقول المصادر نفسها ان معلوماتها الآتية من طهران تفيد أن الأجواء الإيرانية مفعمة بالجهوزية للانتقام من تضييق الخناق الأميركي على الصادرات النفطية الإيرانية وان إجراءات ضرب جهاز خط الأنابيب الى مصافي النفط السعودية باتت في حال التأهب.

ما نقلته هذه المصادر عن أجواء البيت الأبيض وأجواء مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي و”الحرس الثوري” المتشدد تنذر بالأسوأ. ولكن، هناك رأيان: رأي يعتقد ان القيادة الإيرانية لن تصعّد مهما صعّدت إدارة ترامب لأنها تدرك أن ترامب لن يتردد بإجراءات عسكرية ضد إيران. ورأي آخر يقول ان إجراءات دونالد ترامب ستؤدي الى انهيار وجودي للنظام في طهران، وبالتالي، لن يتردد المتشدّدون في تدمير السقف على رؤوس الجميع، على نسق عليّ وعلى أعدائي.
ما يحذّر منه مسؤولون أميركيون هو عواقب عدم أخذ الرئيس الأميركي بجدية.

فإذا تحدث بلغة الاستعداد لإجراءات عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية رداً على إجراءات لها في مضيق هرمز أو نحو مصافي النفط – كما هو متوقع قريباً – فإنه يعني ما يقول. وهذا ينسحب على تحذيرات البيت الأبيض لكل من الدول التي قد تغامر باستيراد النفط الإيراني وكذلك للتنظيمات التي تتخذ أوامرها من طهران وعلى رأسها “حزب الله” في لبنان.

هناك مؤشرات واضحة على استعداد واشنطن لرفع الغطاء عن لبنان. في السابق، أعطت واشنطن لبنان غطاءً أمنياً باعتبار ان انهياره ممنوع. اليوم، ترى إدارة ترامب ان الأطراف اللبنانية داخل السلطة وخارجها استغلّت ذلك الالتزام الأميركي وبالغت كثيراً في تكييفه لمصالحها. وبحسب مسؤولين معنيين، نفذ الصبر الأميركي وبات هناك استعداد جدي لرفع الغطاء مهما كان الثمن الذي يدفعه لبنان طالما لا يتصدّى اللبنانيون لـ”حزب الله” لإيقافه عن وضع المصالح الإيرانية فوق المصلحة اللبنانية. إسرائيل تريد توظيف الفرصة المؤاتية للتخلّص من الصواريخ الإيرانية التي يسهّل “حزب الله” تصنيعها في لبنان بالذات لأن إدارة ترامب طفح كيلها وهي مستعدة لرفع الغطاء الأمني عن لبنان. فلا يعنيها تدمير البنية التحتية اللبنانية وهي في صدد تدمير مصانع الصواريخ التي تقول انها موزّعة بين بيوت المدنيين.

ولن تثنيها واشنطن عن ذلك، بل ستدعمها إذا انطلقت الصواريخ الإيرانية من مواقع “حزب الله” ضد اسرائيل. فالصيف قد لا يكون هادئاً أبداً، لا على الساحة الإيرانية الخليجية ولا على الساحة الإيرانية اللبنانية ولا على الساحة الإيرانية السورية حيث يشجّع البعض أن تكون تلك الساحة موقع شلّ قدرات إيران و”حزب الله” بدلاً من تحويل لبنان الى دولة فاشلة وخطيرة.

السؤال الذي يتداوله بعض الأوساط في نيويورك وواشنطن هو آفاق فتح دونالد ترامب باب الخيار العسكري في كل من ايران وفنزويلاّ معاً وتداعيات مثل هذا القرار. الانقسام الأميركي العامودي ينطبق على هذا الأمر، كما غيره.

الديموقراطيون يعارضون تلقائياً كل ما يقرره دونالد ترامب وهم سيراهنون على عدم توافر القابلية للتورّط عسكرياً، على الصعيد الشعبي.

هناك تماسك في سياسة ادارة ترامب نحو ملف فنزويلاّ حيث يتجنّب الرئيس نزعته الاعتباطية ولا يمارس هواية املاء السياسات عبر تغريداته في “تويتر” ليفاجئ الجميع. وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون والمبعوث الخاص اليوت ابراهامز، سوية مع نائب الرئيس مايك سبنس، يتوافقون على الحزم الضروري في فنزويلاّ حتى ولو تطلّب التدخّل عسكرياً بقوات أميركية لفترة انتقالية محدودة يتم خلالها تأمين الحكم المدني بمساعدة الجيش الفنزويلّي الضرورية.

بومبيو وبولتون يتّهمان موسكو بالتدخل في فنزويلاّ لأن “الروس يودّون السيطرة بالفعل على بلد في هذا الجزء من العالم” كما قال بولتون. كلاهما يتهم الكرملين بالوقوف في وجه تغيير النظام في كراكس واقناع مادورو بعدم المغادرة الى كوبا. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعتبر “تدخل واشنطن في الشؤون الفنزويلّية انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي” ويقول ان “استمرار هذه الخطوات العدوانية محفوف بالعواقب”.

بومبيو أوضح ان الرئيس يفضّل الانتقال السلمي للسلطة لكنّه “واضح وثابت” في موقفه بأن “العمل العسكري ممكن. إذا كان ذلك ضرورياً، فستقوم به الولايات المتحدة”.

حالياً، يبدو ان الانتقال السلمي مُستبعَد ما لم ينقلب الجيش الفنزويلّي كليّاً على مادورو وما لم يتخذ أصدقاء مادورو قرار التخلي عنه، أو اقناعه بالتنحّي. لا لرئيس بوليفيا ايفو موراليس، أو نيكاراغوا دانيال اورتيغا، اللذان يتبنيان مواقف متطرفة ضد الولايات المتحدة، تقليدياً، أي وزن فاعل. الوزن الحقيقي هو وزن الكرملين. فإذا قرر الرئيس فلاديمير بوتين أن فنزويلاّ جائزة ثمينة بموقعها الجغرافي، غنية بمواردها الطبيعية حيث تملك أكبر الاحتياطي النفطي في العالم، تستحق المغامرة بالعلاقات الثنائية مع واشنطن، ستزداد الأزمة اشتداداً واتساعاً.

لا يهم ما يقوله أردوغان بإدانته محاولة الانقلاب “الفاشلة” التي تشبه المحاولة ضده، ولا ما يقوله وزير خارجية إيران بأن الشعب قام “بهزيمة الانقلاب”. المهم ماذا سيقول الكرملين بالذات إذا قرر البيت الأبيض اعتماد الخيار العسكري.

الى حد ما، يبدو الحل في يد الجيش إذا اختار الوقوف مع الشعب للإطاحة باستبداد مادورو ودعم غوايدو رئيساً في مرحلة انتقالية الى الحكم المدني بشراكة الجيش في الاستقرار والأمن.

البعض يتهم إدارة ترامب بأنها تتبنى صعود الحكم العسكري الى السلطة في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في الجزائر وليبيا والسودان. إدارة أوباما تبنّت صعود الإسلاميين الى السلطة فاعتمدت مقولة خاطئة بأن النموذج التركي هو الإسلام المعتدل، فدعمت “الاخوان المسلمين” ومشروعهم المدمِّر الذي يقوم على رفض مبدأ الفصل بين السلطات – وهو أساس الديموقراطية – ويقوم على فرض الشريعة الإسلامية على الدستور والدين على الدولة.

إذا كان الخيار حصراً بين حكم الإسلاميين والحكم العسكري، دون غير، الأفضل بالتأكيد هو الحكم العسكري المؤقت، على بشاعته، الى حين الغاء مشروع “الاخوان المسلمين” وتقزيم تطلعات الإسلاميين المتشددين.

إجراءات ادارة ترامب تضييق الخناق على كل من الحكم الديني الثيوقراطي في طهران – وهو من الشيعة – سوية مع تضييق الخناق على أمثال “الاخوان المسلمين” من السُنَّة إجراءات مفيدة. دعمها للحراك المدني في السودان لإسقاط حكم الإسلاميين والعسكر معاً الذي مثّله عمر البشير في محلّه، فكفى من استبداد ذلك الحكم المهين للسودان وشعبه.

انما من الضروري والمفيد للسودان، ليصبح نموذجاً يُقتدى به، ان تتجنب واشنطن دعم الحكم العسكري القاطع وان تحضّ على حياكة علاقة انتقالية مميّزة بين الحراك المدني الممثل “بقوى الحرية والتغيير” وبين القوى العسكرية تضمن عدم ابتلاع المؤسسة العسكرية للحكم واجهاض الثورة السودانية المدنية. تشكيلة “المجلس السيادي” هي المفتاح، وعسى أن يتوافق الطرفان على آليات الحكم، وإلا فإن الفراغ سيكون قاتلاً للسودان وطموحاته.

تهذيب العلاقة بين المدنيين والعسكريين هو التحدي الأهم والفرصة المتاحة في التحوّلات الجذرية في أماكن الانتفاضات عالمياً. كي لا يكون مصيرها كمصير “الربيع العربي”.

السابق
العربية: الاثنين أول أيام شهر رمضان في السعودية
التالي
ريفي مطمئناً أهالي الموقوفين (الاسلاميين) : أنا صوتكم ومرحلة المشنوق انتهت