كيف نجت الآثار اليهودية في العراق من تخريب «داعش»؟

حي جوبر في العراق

بعد أن كان مهددا بالفناء، نجا الحي اليهودي في الموصل بأعجوبة، رغم تدمير “داعش” الإرهابي لأحياء عديدة بالقرب منه، قبل طرده من المدينة. تقرير DW يكشف المزيد من المعلومات عن نجاة الآثار اليهودية من أيادي التخريب بـ”داعش”.

عندما تم أخيراً طرد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من المدينة تحولت أغلب مناطق غرب الموصل إلى أطلال، بيد أن حي اليهود هناك لم يتعرض للدمار. هنا أيضًا يعمل الناس على ترميم منازلهم. غالبية المنازل لا تزال قائمة وتحتاج بصفة أساسية إلى ترميم وطلاء لمحو آثار ثلاث سنوات من الاحتلال. وأثناء معركة تحرير أحياءهم من داعش، فر معظم السكان؛ إلا أنهم عادوا الآن.
عماد فتاح، البالغ من العمر 72 عامًا، يقف أمام بوابة منزله المطلية حديثًا، مرتديًا “دشداشة” (جلبابا عراقياً) بيضاءَ نظيفةً، ويلف رأسه بوشاحٍ، وهو لم يغادر منزله قط. أثناء حديثه عن سنوات سيطرة “داعش” على الموصل، يشير عماد إلى بقايا أحد المنازل المبنية على طراز الموصل التقليدي، ويقول إن داعش أحرقته فألحقت به أضراراً جسيمة، بعد أن أمرت السكان بالرحيل. يوضح عماد أنه من الممكن ترميم المنزل ويتابع متأثراً: “داعش دمر كل الأشياء القديمة”، كما دمر كل النصب التذكارية، التي لا تتناسب مع نسخته المتشددة من الإسلام، كتماثيل الشعراء والكتاب، وأماكن العبادة الصوفية، والمكتبات، بما فيها من كتب فريدة وقيمة، حسب قوله.

اقرأ أيضاً: ما بعد «داعش» الميدان السوري في عين العاصفة والمجابهة القادمة بين حلفاء الأمس

ويذكر عماد أن “داعش” لم يترك سوى الأشياء التي كان يستخدمها مقاتلوه. ومن بينها مثلا الأنفاق حفرها اليهود قديماً، وكان يستخدمها السكان للهروب في حالة الخطر، واستخدمت آخر مرة عام 1948، عند إعلان دولة إسرائيل واندلاع أعمال شغب معادية لليهود.
بعد ذلك، فر معظم اليهود العراقيين من البلاد، وأفرغت أحياؤهم. كانت منازلهم مشهورة بجودة بنائها العالية، لكن في السنوات التالية تعرضت الكثير منها للإهمال وتحولت مناطقهم تدريجيا إلى أحياء فقيرة.

اعتبار اليهود جيراناً صالحين
يقول عماد فتاح إنه عاش سعيداً في حي اليهود لسنوات طويلة ويضيف أن “جميع جيرانه يدركون تاريخ اليهود في الموصل، وهم فخورون بالعيش هنا”.
وفي محل “سوبر ماركت” صغير في شارع البصرة القريب يقول يونس عبد الله البالغ من العمر 62 عامًا “اشترى والداي منزلنا في عام 1948 من عائلة يهودية. تروي والدتي البالغة من العمر 90 عاماً باعتزاز كيف كانت تحب جيراننا اليهود وتفتقدهم”.
أثناء المشي في الحي اليهودي بالموصل يتحدث الأثري العراقي فيصل جبر، مدير مركز جلجامش للآثار وحماية التراث، ويقول: “يُذكَر اليهود في الموصل بشكل أساسي بوصفهم جيراناً صالحين، أما مشاعر الكراهية كلها فتتعلق بدولة إسرائيل”.
ويتساءل المرء، لماذا لم يخبر المدنيون “داعش” عن المنازل الأثرية ذات القيمة التاريخية والثقافية لدى اليهود، والتي تقع في الحي اليهودي؟ وما يثير الدهشة أنه ثمة كنيس يهودي مازال قائما ولم يتعرض للدمار على يد “داعش”، رغم ما ألحق داعش بالموصل من أضرار هائلة.
في سنوات الثمانينات من القرن الماضي وقع هذا الكنيس بحوذة أحد الأشخاص بطريقة غير قانونية، وعاش الرجل به، غير أنه الآن مهجوراً. وأغلقت بوابة الكنيس، وكُتب باللون الأحمر على جدرانه أن “التعدي على ممتلكات الغير محظور لأن هذا الموقع أثري”. ولأن سقفه غير موجود فعند الصعود إلى الأسطح المجاورة يمكن مشاهدة لوحات عبرية على جدرانه الداخلية.
على الرغم من أن “داعش” استخدم الكنيس والمدرسة اليهودية القديمة كمخزنين للأسلحة والذخائر، إلا أن ثلاثة من اللوحات العبرية لم تختف إلا بعد طرد الإرهابيين. حدث هذا عندما أعرب مؤرخ من الموصل عبر موقع “تويتر” عن سعادته لأن الكنيس نجا من الدمار. ولهذا السبب لا يحب فيصل جبر التحذير المرئي المكتوب بمنع دخول الكنيس “لأنه قد يجتذب صائدي الآثار المحترفين”.

حماية من قبل الجنود الأمريكيين
ولكن لماذا في ظل احتلال داعش نجت منطقة اليهود في الموصل وبقيت سليمة نسبيا، كما لو كانت هناك معجزة؟ يعزو فيصل جبر هذا إلى حالة المنازل المهجورة. ويعتقد أن نجاة معظم اللوحات العبرية وعدم تعرضها للسرقة أو الدمار أثناء وجود داعش سببه أن “معظم مقاتلي داعش في الموصل لم يتعرفوا على الألواح العبرية لأنهم أميون”.
وعلى العكس من ذلك يقول سكان الحي إن “داعش” طلب منهم مغادرته كونه يهودياً، وهذا حرام بالنسبة لها، وأن عملية انقاذ الآثار اليهودية، تمت بسبب بقاء سكان الحي في منازلهم ورفضهم لمغادرتها تحت أي ظرف كان، فقد كانوا يخافون أن يروا منازلهم وهي تحترق.
كما أنه يجب عدم نسيان أن الأميريكيين يدركون جيدا قيمة الآثار اليهودية في الموصل، ولهذا وضعوا على خرائطهم علامات، ليجنبوا حي اليهود أي قصف قد يجعله عرضة للدمار أثناء معركة تحرير الموصل.
سعد الريشاوي ،56 عاما، يقول وهو يصعد مع الزوار الى سطح منزله للنظر إلى المدرسة اليهودية من هناك، إن معظم المدارس خارج الحي اليهودي تعرضت للقصف، لكن داخل الحي لم تتعرض المدرسة القديمة للقصف، ويضيف أنه كان شاهد ضابطا أميركيا عام 2004 يسجل ملاحظاته على خريطة وهو يمشي في شوارع الحي.
وربما يقصد الريشاوي هنا كارلوس هويرتا، الحاخام لدى القوات الأمريكية في الموصل، بعد سقوط بغداد عام 2003. فقد كتب هويرتا في أحد المواقع (بلوغ) بالإنترنت يصف كيف اكتشف الكنيس اليهودي هناك حيث قال “تحطم قلبي وأنا أتسلق أكوام القمامة التي ملأت الغرفة، حيث كانت صلوات اليهود تصعد إلى السماء على مدار مئات السنين. أدركت أنني ربما كنت أول يهودي يدخل هذا المكان المقدس منذ أكثر من 50 عاماً”.
في العام الماضي، رأى سعد الريشاوي الأميركيين مرة أخرى بالقرب من منزله، وهم “يستخدمون الروبوتات لإزالة كل المواد المتفجرة من داخل المدرسة اليهودية”.

تهديدات جديدة للآثار اليهودية
في يومنا هذا وبعد دحر داعش، ظهرت تهديدات جديدة للآثار اليهودية، فمعظم السكان يضطرون الى بيع منازلهم القديمة لضيق الحال. ويخشى فيصل جبر من أن يقوم من يشتري هذه المنازل بهدمها وبناء منازل جديدة، ما يشكل هدما للتراث اليهودي .
وتتركز مخاوفه على الكنيس ، الذي تم طرحه في السوق مقابل حوالي مليوني دولار (1.8 مليون يورو). و يقول جبر. “نريد شراء المبنى ، أو حتى استئجاره، لإقامة مقرنا هناك. نحن نبحث عن تمويل، حتى نتمكن من إعادة المبنى إلى اليهود”. وفي الوقت نفسه، يفكر في بدء إجراءات قانونية في المحاكم، حيث أن الكنيس كان ملكية حكومية ولا ينبغي بيعه لمالك خاص.
ومع ذلك ، تعرض جبر للاعتقال من قبل الشرطة العراقية، بعد فترة وجيزة من المقابلة، بزعم التجسس لصالح إسرائيل وتم استجوابه لأكثر من شهرين، ومؤخرا أسقطت التهم الموجهة إليه، ليبين بذلك مدى عدم الثقة باليهود داخل المجتمع العراقي، مما جعله يغادر الموصل منذ ذلك الحين.

السابق
علاء مبارك يتساءل عن صفقة القرن.. كيف تفاعل نشطاء؟
التالي
بالأرقام: هذه هي تأثيرات العقوبات الأميركية على الإقتصاد الإيراني