إذا كنّا مُلحِدين لا نؤمنُ بأنَّ المسيحَ هو ابنُ الله، نعترفُ به ابنَ الإنسان ونَتوقّفُ عند أفكارِه وتعاليمِه الإنسانيّةِ والأخلاقيّةِ والاجتماعيّةِ الواردةِ في
وإذا كنّا مؤمنين بأديانٍ أُخرى، فسائرُ الدياناتِ قدَّرت المسيحَ واعتبرتْه، على الأقلّ، نبيًّا بين الأنبياءِ أو عظيمًا مرَّ في التاريخ.
وإذا كنّا مسيحيّين نؤمن بالمسيحِ إلهًا وابنَ إلهٍ تَجسّدَ في إنسان، فالإيمانُ بالإنجيلِ، مثلَ الآخرين، لا يكفي ويَتعيّن علينا الالتزامُ به وممارسةُ سلوكٍ أخلاقيٍّ واجتماعيٍّ من وَحي تعاليمِه، بخاصّةٍ محبةُ الآخَرين حتّى ونحن على خشَبةِ الصليب.
إذن، مُلحِدين كنا أو مسيحيّين أو أبناءَ دِياناتٍ أُخرى، قيمُ الانجيلِ تَجمعُنا وشخصيّةُ المسيح. فباستثناءِ الموقفِ اليهوديِّ، لم يَحصُل، على العموم، تشكيكٌ في قيمِ الإنجيل أو في شخصيّةِ يسوع المسيح الاستثنائيّة. الاختلافُ هو على هوّيةِ المسيحِ الإلهيّة لا على حَدَثــيّــةِ وجودِه وعظمتِه.
منذ ولادةِ يسوع لم تَخلُ مِن تعاليمِ الإنجيل شِرعةٌ جَماعيّةٌ، محليّةٌ أو عالميّةٌ، حولَ الحرّياتِ والمساواةِ والعدالةِ، وحولَ حقوقِ الإنسانِ وتنظيمِ العَلاقاتِ البشريّةِ. ليس لأنَّ جميعَ شعوبِ العالمِ مسيحيّةٌ، بل لأنَّ الإنجيلَ لجميعِ شعوبِ العالم. وليس لأنَّ الإنجيلَ يَفرِضُ تعاليمَه بالقوّةِ، بل لأنَّ تعاليمَ الإنجيلِ حقٌّ والحقُّ يتخطّى القوّة.
إنَّ الأديانَ التي نَشأت بعد المسيحِ استنجَدَت بروحانيّاتِ الإنجيلِ لتأكيدِ بُعدِها الدينيّ. حتّى الثوراتُ التي قامت ضِدَّ الكنيسةِ (الثورةُ الفرنسيّة) أو ضِدَّ الدين (الحركةُ الشيوعيّة) اضْطُرَّت، لدى وضعِ شرائعِها، للعودةِ إلى مبادئِ الإنجيلِ واستِنساخِها. لا مَهرَبَ من يسوع المسيح.
هناك أديانٌ تَصلُح لزمنٍ موَقَّتٍ، وأديانٌ تَصلُح لمكانٍ محدَّدٍ، وأديانٌ ملتصِقةٌ بإثنيّاتٍ وبقوميّاتٍ معيّنةٍ، بينما المسيحيّةُ هي دينُ كلِّ مكانٍ وزمانٍ وكلِّ إثنيّةٍ وقوميّة.
هكذا يكون المسيحُ مشروعَ وِحدةِ الإنسانيّةِ بموازاة ِكونِه مشروعَ تعريفِ الإنسانِ على الإلَه الحقّ، وتاليًّا تكونُ المسيحيّةُ مرجِعيّةَ القيمِ المتجرِّدةِ ما دامت ليست مشروعَ دولةٍ أو إمارةٍ أو مملكةٍ أو خِلافة.
لا تكون الأديانُ أديانًا إلهيّةً إذا بَشّرت من جهةٍ بسعادةِ الإنسانِ والمحبّةِ والسلام، وسَبَّبت من جهةٍ أُخرى بالحروبِ والفتنِ واشتركَت فيها.
اقرا ايضا: من الإحباطِ المسيحيّ إلى العَدَميّةِ اللبنانيّة
منطِقُ المؤمنين بالأديانِ السماويّةِ يجبُ أن يكونَ معاكِسًا منطقَ عالمِ الوثنيّةِ أي العنف. فالدينُ ليس حالةً لاهوتيّةً فقط، بل أيضًا حالةٌ حضاريّةٌ بامتياز. فالارتقاءُ إلى الله يَستدعي الارتقاءَ في الحياة.
الحضارةُ المسيحيّةُ سلامٌ. ورغمَ أنَّ الروحَ السلميّةَ ضعفٌ في نظرِ البعض، لا يَضيرُ المسيحيّةَ أن تكونَ قوّتُها بـــ«ضُعفِها». مَن يَملِكُ المحبّةَ ومحبّةَ الأعداء؟ من يملِكُ القدرةَ على وقفِ العاصفةِ ونقلِ الجبالِ وإحياءِ الأمواتِ وشفاءِ المرضى وإبصارِ العميان؟ من يَملِك ضِياءَ المسيحيّةِ وحنانَها؟ مَن يَملِكُ تواضعَ يسوع أنْ يُولدَ في مذودٍ؟ مَن يَملِكُ قوّةً أقوى من هذا «الضعفِ» العظيم الذي لا يُضاهيه سيفٌ ولا مِنجَلٌ ولا مِطرَقةٌ ولا أيُّ سلاحٍ حديث؟ أليسَ بالتَرسانةِ السلميّةِ: الكلمة، قد بَشّرَ الرسلُ بالمسيحيّةِ فانتشرت؟
انطلقَ المشروعُ مع ولادةِ يسوع في تلكَ المغارةِ. شاءَ أنْ يكونَ ظهورُه السماويُّ واقعًا إنسانيًّا عاديًّا. كسائرِ البَشر، بَدأ بالولادةِ لكنْ من دونِ دنَس. وعاشَ في أرضِ كنعان لكنْ من دونِ خطيئة. ومرَّ بالموتِ لكنْ مصلوبًا من دون جُرْم. وإذ عَمَّت المسيحيّةُ الكونَ، عاد يسوع، بعدَ صلبِه وقيامتِه، إلى المغارةِ.
عودتُه هي بمثابةِ إخراجِ قيدٍ بهوّيةِ أورشليم الحقيقيّة. ألِفَ ترابَ المغارةِ وحشيشَها وقَشَّها وصقيعَ صخورِها ولهاثَ خِرافِها الدافئ. جَلس يَتذكّر أمَّه ويوسف ونجمةَ المشرِق والـمَـجوس، ويستعيدُ مراحلَ حياتِه في الجليل والناصرة وكَفرْناحوم وأورشليم. وهذه المرّةَ رَفضَ أن يأخذَه يوسف ومريم إلى مِصر حتى يموتَ هيرودوس. قرّر مواجهتَه والاعتصامَ في المغارةِ حتّى استعادةِ أورشليم.
من عمقِ المغارةِ نَظر إلى المسيحيّةِ في الأرضِ التي وُلِد فيها فلم يَجِد مسيحيّين. التفَتَ نحو الشرقِ فرآهم أصبحوا الأقليّةَ وقد كانوا الأكثريّة. وسَّعَ نظرَه نحو لبنان فغَضِب: لماذا تَنقسِمون وأنتم الباقون؟ لماذا تَتراجعون وقد كنتُم الطليعة؟ لماذا صِرتُم ظُلمةَ الشرقِ وقد كنتُم نورَه؟ لماذا تَتحصَّنون في القصورِ وقد صَقلَتْكُم المغاورُ والجبال؟ لماذا تخلّيتُم عن «القضيّةِ الكبرى» فيما لا مبررَ من دونِها لــــ«لبنان الكبير»؟ في أيِّ لبنانَ وظَّفتُم دماءَ شهدائِكم، وفي أيِّ لبنانَ تعيشون، وما هي موادُّ نضالِكم؟ دَعوتُكم إلى تركِ رِدائِكُم لأخصامِكم (متّى ـــ 40/5) لكنّني لم أدْعُكم قَطّ إلى تركِ أوطانِكم وقضيّتِكم وهوّيَتِكم وشهدائِكم ونضالِكم. خيرٌ لكم أن تَبحثوا عن مصيرِكم ورسالتِكم من أنْ تَخدُموا زعماءَكم. عِوضَ أنْ تَختلفوا على الحِصصِ الفُتاتِ كَثّروا الوزَنات. وبَدلَ أنْ تمارِسوا سياسةَ المكاسب مارِسوا وطنيّةَ الأمجاد. فلا مجدَ لكم يبقى ولا سلام بعيدًا من مجدِ الميلادِ والقيامةِ.
حالةُ المسيحيّين في لبنانَ والشرق، بل حالةُ أبناءِ الشرقِ على اختلافِ انتماءاتهم الروحيّة، تحتاج ظهورًا إلهيّاً جديدًا يصوِّبُ سلوكَ الأديان.
فكلُّ الحلولِ التي طرَحها الإنسانُ جاءت مشاريعَ حروبٍ عسكريّةٍ أو فِتنٍ شعبيّةٍ أو أزَماتٍ اقتصاديّة. فَقدَ العالمُ توازنَه مُذ بَدأ يعيشُ في التطرّفِ الدينيّ والميوعةِ الإيمانيّةِ والإلحادِ اللامُبالي. حَوَّر الإنسانُ مفهومَ القيمِ الأصيلةِ فخِسَرها، واعتمَد قيمًا بديلةً فأضَلَّــتْــه. وحين تسيطرُ الغريزةُ على العقلِ تسقطُ القيمُ، وحين يَتمرّدُ العقلُ على الإيمانِ تَنتصرُ المادّةُ، وهذه هزيمةُ الانسانِ الكبرى.
عسى أنْ يكونَ ميلادُ يسوع المسيح مناسبةً لإعادةِ النظرِ في مسارِ لبنان فتنتَصرُ صيغةُ الحياة والحضارة، وفي سلوكِ الشرقِ فندخُل عصرَ الانفتاحِ بعدَ عصورِ الفتوحات.