القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله: ثنائية عسكرية في لبنان ما بعد الحرب

حزب الله في سوريا

صاغت الأحزاب الطائفية اللبنانية المتنافسة نظاماً سياسياً قائماً على توازن دقيق، أصبحت هي بموجبه أقوى من مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من هيمنة هذا النظام، أصبحت القوات المسلحة اللبنانية مؤسسة عسكرية وطنية أكثر قدرةً ومهنية عقب انسحاب القوات السورية من لبنان في العام 2005. لكنها، على الرغم من فشلها في الحدّ من استقلالية الأطراف السياسية اللبنانية، تمكنت من إبقاء القطاع العسكري في منأى عن التسيّس.

أسفرت هذه المفارقة، ومعها القوى الجيوسياسية التي رسمت معالم النظام السياسي اللبناني في مرحلة مابعد الحرب، عن تهجين الحوكمة الأمنية، حيث حافظت الجهات العسكرية غير الحكومية والموازية على كلٍّ من استقلاليتها التنفيذية وشرعيتها على مستوى الأمن الوطني. وتتجلّى هذه الظاهرة بأوضح صورها في قدرات حزب الله العسكرية المتفاوتة، وهو حركة سياسية شيعية مسلحة مُمثَّلة في البرلمان على نحو متواصل منذ العام 1992، وفي الحكومة أيضاً منذ العام 2005.

لاتزال هذه الثنائية العسكرية قائمة منذ حوالى ثلاثين عاماً، تمتعت خلالها القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله بقدرٍ من الشرعية، وتعايشا على الرغم من التباين في علّة وجودهما ومسارهما. لكن هذه الثنائية باتت هشّة باطّراد مع تطوّرهما واتّساع الدور الأمني الوطني الذي يلعبانه والصلاحيات التي يتمتعان بها في لبنان بعد الانسحاب السوري، وتحوّلت خطوط الصدع الجديدة بين القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله إلى سمات راسخة في المشهد الأمني الوطني في لبنان.

اقرأ أيضاً: الحكومة في أي نفق؟ 

صعود الثنائية العسكرية في لبنان مابعد الحرب الأهلية
تُعتبر الحوكمة الأمنية الهجينة سمة شاذّة في لبنان مابعد الحرب. فبعد نيل البلاد استقلالها في العام 1943، اضطلعت القوات المسلحة اللبنانية بدور الحَكَم بين التحالفات السياسية الطائفية المتنافسة في العام 1958، عندما تدخّلت بشكلٍ مباشر لإنهاء الاضطراب السياسي الناجم عن حرب أهلية قصيرة الأجل. تلا ذلك هجوم مضادّ شنّته النخب الطائفية لاستعادة شبكات المحسوبيات التابعة لها، بلغ أوجه مع هزيمة النظام السياسي المدعوم من الجيش في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في العام 1970، وتفكيك المكتب الثاني، وهو جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش اللبناني. ثم أدّت الحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1990 إلى شرذمة القوات المسلحة اللبنانية وفق الانقسامات الطائفية، مشرّعةً بذلك الأبواب أمام نظام الميليشيات الذي ساد طيلة سنوات الحرب الأهلية.

في إطار التسوية السياسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف بعد الحرب اللبنانية، خضعت الميليشيات بنجاح إلى عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج جزئياً. وقد قلبت الحقبة السورية القوات المسلحة اللبنانية رأساً على عقب. إذ سعت أجهزة الأمن والاستخبارات السورية العاملة في لبنان إلى إعادة تشكيلها لتصبح مؤسسة حصينة موالية لسورية، وغير خاضعة إلى إشراف الحكومة اللبنانية ورقابتها. وقد حقّقت أجهزة الأمن والاستخبارات السورية ذلك من خلال إقحام نفسها بين الجيش اللبناني وبين النظام السياسي الحاكم في البلاد، لتنخرط سريعاً في الشؤون المدنية-العسكرية اللبنانية وتنظّمها.

بموازاة ذلك، يشكّل حزب الله استثناءً بارزاً لعملية حلّ الميليشيات في لبنان مابعد الحرب، إذ إنه حظي بدعم سوري، وبرعاية سياسية من داعمه الأول على المستوى الدولي: إيران. كذلك، وعلى الرغم من نهاية الحرب الأهلية، جاء اتفاق الطائف ليعزّز شرعية حزب الله، مُعتبراً إياه جزءاً من “المقاومة” اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ كانت إسرائيل تسيطر آنذاك على 10 في المئة من أراضي لبنان. وهكذا، كرّس الطائف نظام الحوكمة الأمنية الهجينة التي لاتزال تشكّل إحدى السمات الخلافية في المشهد الأمني اللبناني.

قوّض خروج الأجهزة العسكرية والاستخباراتية السورية من لبنان في العام 2005 احتكار سورية لعملية صنع القرار اللبناني حول السياسة الخارجية والعسكرية. كذلك، أنبأ خروجها بعودة السياسات الطائفية الاستقطابية، في ظل تآكل الهيكلية التنفيذية في لبنان مابعد الحرب، والجهود المتنافسة لاختراق القوات المسلحة اللبنانية وتوجيه دفّتها في أعقاب الانسحاب السوري.

السياسات الأمنية في لبنان بعد الانسحاب السوري
اتّسمت الفترة بين عامَي 2005 و2017 بتوجّهين متنافسَين في مسار الحوكمة الأمنية الهجينة في لبنان بعد الحرب. من جهة، حاولت القوات المسلحة اللبنانية الحفاظ على مصداقيتها واستقلاليتها العسكرية وتعزيزهما. ومن جهة أخرى، سارعت الفصائل السياسية المتنافسة لفرض نفسها مجدّداً على الساحة اللبنانية بعد انسحاب الأجهزة الأمنية والاستخباراتية السورية، وكانت تطمح لاختراق القوات المسلحة اللبنانية وتنظيمها.

أولاً، بين عامَي 2005 و2008، سعى تحالف 14 آذار الموالي للغرب إلى تهميش الضباط الذين إما تلقّوا تدريبهم في سورية أو كانوا مرتبطين بقوى سياسية موالية لها. أما تحالف 8 آذار الموالي لسورية وإيران فسعى بدوره إلى استبعاد الضباط الذين تلقّوا تعليمهم العسكري في الولايات المتحدة، أو الذين اشتُبه بأنهم يدعمون السياسات الأميركية في المنطقة. إذن، سعى كلا المعسكرين إلى جذب ضباط متناغمين إيديولوجياً معهما، وتعزيز آفاق ترقيتهم المهنية.

فيما عانت القوات المسلحة اللبنانية صعوبة في تحديد هويتها والحفاظ على ذاتها وسط حالة الاستقطاب التي شهدها لبنان بعد الانسحاب السوري، سعى حزب الله إلى التكيّف مع رياح التقلّبات الإقليمية. وفي معظم فترة مابعد الحرب، بقي نفوذ حزب الله واستقلاليته محدودَين وفقاً لمشيئة نظام الأسد في دمشق. لكن حزب الله سُرعان ما نال هامشاً أكبر للتصرّف على المستوى المحلّي، في وجه الضغوط الغربية المتنامية لعزله في لبنان، ولعزل سورية إقليمياً. في غضون ذلك، ونظراً إلى منافستها الاستراتيجية مع حليفَي أميركا الإقليميين السعودية وإسرائيل، سعت إيران إلى تطوير قدرات الردع غير المتكافئة لحزب الله.

غالباً ما تعارضت أولويات كلٍّ من القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله في الفترة بين 2005 و2010. لقد أظهرت حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله أن بإمكان سورية وإيران تزويد حزب الله بأسلحة أكثر تطوراً باطّراد لتعزيز مصداقيته المحلية والإقليمية. في المقابل، وقفت القوات المسلحة اللبنانية في الغالب في صف المتفرّج خلال حرب 2006 التي امتدّت 33 يوماً، إذ لم تتخذ سوى إجراءات رمزية ضد القوات الإسرائيلية. لكن معركتها ضد مسلّحي فتح الإسلام في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين أثبتت أنها قادرة على فرض نفسها ولعب دور بارز في الحفاظ على الأمن الداخلي، على الرغم من امتناع الحكومة اللبنانية وتحالفَي 8 و14 آذار المتنافسَين عن حذو حذوها.

فيما كان العام 2007 محدوداً من ناحية الحوكمة الأمنية، شهد العام 2008 تبدّلاً مؤلماً في الأحوال حين تجنّبت القوات المسلحة اللبنانية الدخول في مواجهة مباشرة مع حزب الله خلال الاشتباكات التي عمّت شوارع بيروت بين هذه المجموعة الشيعية المسلحة من جهة وميليشيا سنيّة تنتمي إلى تيار المستقبل السنّي بمعظمه والموالي لتحالف 14 آذار من جهة أخرى. وفي حين أن البعض في القوات المسلحة اللبنانية رأوا أن أحداث أيار/مايو 2008 مثالٌ عن الحياد العسكري، اعتبر آخرون أنها “فرصة ضائعة” كان بإمكان الجيش قطفها لإبداء رفضه لأي إجراءات عسكرية تتّخذها القوى السياسية/الطائفية المتنافسة في البلاد.

زادت الحرب الجيوسياسية التي اندلعت في أواخر العام 2010 في سورية من تعقيد هذه التيارات المتنافسة. ونتيجةً للمساعدات الأميركية الخارجية، والتهديد المتمثّل في تمدّد رقعة انتشار الجماعات الجهادية المنبثقة من الحرب الأهلية السورية (مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام)، انخرطت القوات المسلحة اللبنانية في المعارك في العامين 2012 و2013، وشنّت، للمرة الأولى في مرحلة مابعد الحرب، عمليات عسكرية دفاعية وهجومية واسعة النطاق ضد تهديد عسكري خارجي في العامين 2014 و2017 تباعاً. في غضون ذلك، تمكّن حزب الله من تعزيز سرديته حول الأمن الوطني في لبنان والمنطقة، بفضل الدور العسكري النشط الذي اضطلع به في سورية إلى جانب القوات التابعة لنظام الأسد، وأيضاً نتيجة النزعة الطائفية التي هيمنت باطّراد على الحرب الأهلية السورية.

في البداية، بدا أن الموقف الذي تتبنّاه القوات المسلحة اللبنانية في المشهد الأمني الوطني بعد العام 2010 قد يقوّض الأساس المنطقي الكامن وراء الترتيبات الأمنية الهجينة في لبنان مابعد الحرب. مع ذلك، شهدت جهود القوات المسلحة اللبنانية نحو تأكيد تفوّقها على مجموعات مثل حزب الله على مستوى الأمن الوطني تراجعاً تدريجياً. ويُشار إلى أن الأزمة غير المسبوقة التي شهدتها القيادة العسكرية بين آب 2016 وآذار 2017 أفرزت تداعيات كبيرة في هذا الصدد: فنظراً إلى الجمود الذي طال أمده في النظام السياسي الطائفي في لبنان، تقاعد عدد من كبار الضباط، وحدثت تعيينات فاشلة في مناصب قيادية رئيسة، وتمت ترقية ضباط كانوا إما غير راغبين أو غير قادرين على مواكبة زخم التحوّل العسكري الذي شهدته القوات المسلحة اللبنانية في فترة 2010-2016.

حدود الاستقلالية العسكرية في لبنان مابعد الحرب
تشكّل حملة “فجر الجرود” التي أطلقتها القوات المسلحة اللبنانية في العام 2017 ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، خير دليل على أن الثنائية العسكرية لاتزال قائمة في لبنان مابعد الحرب. وقد فاجأت هذه العملية التي نُفِّذت بدقة عالية حزب الله ومعظم القوى السياسية الطائفية في لبنان. لكن، بدلاً من أن يؤدي ذلك إلى تحدّي الطابع الهجين لسياسات الأمن الوطني بشكل حاسم، تعرّضت مصداقية القوات المسلحة اللبنانية على مستوى الأمن الوطني إلى التشكيك مجدّداً عندما أبرم حزب الله اتفاقاً أُحادياً قضى بانسحاب مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من لبنان، ونسب لنفسه النجاح الذي حققته القوات المسلحة اللبنانية، وروّج سردية التعاون السرّي بين كوادره والقوات المسلحة اللبنانية وقوات الأسد.

في المقابل، يفيد حزب الله من الدور البارز الذي اضطلع به في النظام السياسي اللبناني في مرحلة مابعد الحرب. فمؤسسات الدولة – ومن ضمنها القوات المسلحة اللبنانية – لن تتحدّى على نحو صريح المصداقية التي يتمتّع بها حزب الله محلياً في صفوف قاعدته الشيعية. كذلك، عزّزت عمليات المقاومة التي شنّها حزب الله وحملات التدخّل السريع في سورية الشرعية المحلية لحزب الله. لكن، على خلاف القوات المسلحة اللبنانية لايتمتّع حزب الله بالشرعية والمصداقية اللتين يتمتع بها أحد الجيوش القليلة المقاتلة في الشرق الأوسط، كما أن تفضيله للترتيبات الأمنية الهجينة لم يعد يحظى بالدعم الذي حظيت به هذه المجموعة نتيجة حرب العام 2006 بينه وبين إسرائيل.

ظاهرياً، يشي عزم القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله على لعب دورٍ أكبر في رسم معالم سياسات الأمن الوطني بأن المشهد اللبناني بعد الحرب لم يعد يتّسع ربما لمؤسستين عسكريتين بارزتين – إنما مختلفتين بالكامل. لكن دور حزب الله كلاعب أساسي في ظل النظام السياسي الطائفي في لبنان، والجهود التي تبذلها القوات المسلحة اللبنانية لتحقيق استقلالها الذاتي في مرحلة مابعد الحرب، حالا حتى الآن دون حدوث مواجهة مفتوحة بينهما. والآن، فإن استمرار هذا الاختلال في التوازن مرهونٌ بمسار السياسات الطائفية المتقلّبة في لبنان، وحجم التنافس الإقليمي والاستراتيجي في المشرق العربي، والورقة الجامحة القائمة على الدوام والمتمثّلة في احتمال اندلاع حرب أخرى بين حزب الله وإسرائيل.

السابق
أسباب ضد انسحاب السعودية من اليمن!
التالي
غسان سعود: ما يقوله حزب الله عبر الجهبز جهاد الصمد فائق الخطورة