لبنان الطائر بين راغب علامة وداعش والصحافي حازم الأمين

شادي علاء الدين

شاء السوبر ستار راغب علامة التعبير عن حسه السياسي والوطني فأطلق أغنية على حسابه الرسمي على موقع يوتيوب، تحمل عنوان طار البلد من كلمات الشاعر نزار فرنسيس وألحان جان ماري رياشي. يقول أحد مقاطع الأغنية صار الوقت يا ناس نصرخ على العالي -مافي وقت طار البلد يا ناس وينيي العدالة.

لم ينتج السوبرستار الأغنية على غرار أغانيه الداعية إلى الغرام والحنان، والمعبرة عن أحوال الاختلال والتخبط عند رؤية الحبيبة، بل بدا وكأن الوطنية لا تستدعي إنتاجا ضخما وميزانية كبيرة، بل إن لحظة طيران البلد التي تعبر عنها الأغنية يستوجب أن تكون هي نفسها أغنية تطيير المعايير الفنية.

النعمة التي تيسرت لأغنية السوبر ستار المتصحرة فنيا وإخراجيا وغنائيا كان أنها اصطدمت بلحظة الرئيس القوي في بلاد الأرز، وأبرزت معالم النزوع الأسدي الذي بات يطبع بنية الحكم في لبنان، فكما توجد سوريا الأسد المرتبطة بشخص الرئيس فإن سيكولوجيا نواب العهد القوي ألحقت البلد بالرئيس ما جعل عبارة طار البلد وكأنها تقول إن الرئيس طار، أو أن فترة حكمه ستزول، أو ربما يمكن تفسيرها بأنها تتضمن دعاء عليه بالسوء والموت.

اقرأ أيضاً: حازم الأمين: اعتقالي مخفورا من دون مبرر هو بداية حملة ضد الحريات

لا يمكن تفسير تلك الدعوة التي أطلقها النائب العوني حكمت ديب إلى وجوب تطيير رأس السوبرستار إلا انطلاقا من مثل هذه التفسيرات، فدرجة الحساسية العالية التي وصفها علامة بأنها تعبير داعشي لا يمكن ردها إلى انزعاج محدود أو جانبي، ولكن إلى عنوان راديكالي وعميق.

ما جرى على ضفة هذا الحدث كان لافتا فقد بدا السوبرستار في ثوب المهاجم

والمتحدي، في حين أبدى النائب بعد ذلك ميلا إلى التراجع والتهدئة، والتخفيف من حدة التعبير وشدته، والتأكيد على أنه لم يكن مقصودا.

حرص النجم على إبداء فحولته الشخصية والوطنية في آن واحد فطالب برفع الحصانة عن النائب، وتحداه أن ينفذ تهديداته إن استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن الأبرز كان أنه أعلن عن استئناف حربه ضد الفساد، والسرقة، الكذب والتزوير، واعدا جمهوره بأغنيات أقوى وحركات أقوى.

لم يعرف عن علامة أنه يمارس نشاطاً سياسيا بارزا، وربما يكون رصيده الفني الوطني لا يعدو غناء النشيد الوطني بطريقة خاصة ربما تكون أقرب إلى الدلع بعد اغتيال رفيق الحريري، بينما اشتهر بوصفه مطرب النط والبط وما إلى ذلك، كما راجت موجة سخرية بشأنه تربط وجوده في أي مكان بالكوارث والمصائب.

تحول راغب علامة بعد التهديد الذي كان كاريكاتوريا إلى عنوان للفنان المناضل، وبدا وكأن السلطة تعرف ماذا تفعل، وكأنها تريد تكريس طبيعة التعبير ونوعه في مستوى أغنية راغب علامة، وأن تجعل منه بشخصيته المغرورة والمنتفخة والخالية من الدسم التعبيري، والقدرة على تركيب الأفكار السياسية والاجتماعية، نموذجا نهائيا للفنان المناضل.

قدم هذا المشهد صورة كاذبة عما يحدث فعلا في البلد وعن طبيعة سير الأمور فيه، فراغب علامة لم يكن قادرا على خوض هذا السجال، ولا على تحدي السلطة القائمة، إلا لأنه يمثل حالة تماثل النزوع التي تستند إليه وتعمل على تعميمه وهو يكمن في نزع الطابع السياسي والجدلي عن الشخصيات القيادية ورد حضورها إلى صيغة مقدسة.

بعد صيغة التأليه التي تسم صورة نصر الله، والقوة المطلقة التي ترسم معالم عهد الرئيس ميشال عون، وتلك الهاء اللعينة التي كانت تمنع إعلان نبوة الرئيس بري والتي لم تلبث أن أسقطت على يد مناصريه وتم إعلان نبوته، يأتي بيان نقابة الفنانين ليضع راغب علامة في موقع مواز قائلا في سياق التعاطف معه “راغب انت نجم كبير في السماء وعلى الأرض”. من هنا فان خطاب مسامحة النائب الذي صدر عنه لا ينطلق من موقع إنهاء سجال بل يرتدي ثوب الكرم الإلهي.

من الصعب النظر إلى مثل ما حدث وكأنه مفارقة أو طفرة فلقد طغى ذكر راغب علامة وسجاله مع ديب على الأحداث الخطيرة التي طبعت اليوميات اللبنانية في هذه الفترة.

هكذا بدا لنا أن هناك فنانا قادرا على تحدي السلطة والانتصار عليها، ما يعني تاليا أن كل الكلام عن قمع الحريات وعن التعذيب والترويع ما هو إلا اختلاق محض، وهكذا فإن الحدث الذي جرى في وقت سريان ضجيج قضية أغنية راغب علامة والمتمثل في الهجوم العسكري على مكاتب موقع درج الإلكتروني، واقتياد الصحافي حازم الأمين مكبلاً، والتحقيق معه على خلفية دعوى رفعت بسبب مادة نشرت في الموقع، هو حدث غير ممكن الحدوث، وإن كان قد حدث ويحدث وسيحدث.

الصحافي ليس سوبر ستار، وبغض النظر عن موقع حازم الأمين أو مكانته فإن مهمته هي الكلام والدفاع عن الحق في إنتاجه وتبادله ما يعني أن عملية القمع التي تطاله إنما تستهدف هذه الوظيفة بشكل خاص، كما أن سوقه مخفورا يتخذ معنى إهانة الكلام وتحقيره، والتأكيد على أن منتجيه وصناعه في هذا البلد بلا مكانة ولا دور، فتحقير الصحافي هو تحقير للسياسة نفسها التي لا تخرج في بعدها الأعمق عن وظيفة العقلنة وعن هدف الحرية وفق تعبير حنة أرندت.

حاول الصحافي توثيق إذلاله المقصود وتعرضه للإهانة كي لا يضيع، ولكن قدرته على إكساب هذا التوثيق معنى عاما، كانت شبه معدومة فقد ظهر وكأنه يتحدث مع نفسه وليس إلى جمهور.

كان الصحافي يوثق عزلته وفرديته في مواجهة آلة القمع التي كشف تغولها العلني والاستعراضي أن الصحافة نفسها صارت غريبة عن روح البلاد ومعناها.

هكذا تدرج الصحافة والصحافيون في عداد تركيب مشهدية الطارئ والغريب أو المرض القادم من بعيد، والذي لولاه لكانت البلاد منيعة وبألف خير، ولعل المقاربة بين هذه الحال وحال اللجوء السوري ووضعية اللاجئ السوري تقود إلى نوع من التطابق.

تحولت الصحافة الى فعل لجوء سوري وتحول الصحافي إلى لاجئ سوري، ولعل الشبه الكبير بين وضعية الهجمات العنيفة

على مخيمات اللجوء، وإهانة اللاجئين واعتقالهم، وبين تلك الهجمة على موقع درج تبرز درجة المطابقة بين الحالتين، وكيفية تحويل الصحافي إلى نوع من الكائن العاري المعرى من الحقوق، والمكانة، الدور والوظيفة على غرار اللاجئ السوري الذي ينتج التنكيل به وظيفة رد الشر عن الوطن، وبناء صيغة فاعلة من صيغ الوطنية المتعسكرة.

الصحافي إذن هو قرين اللاجئ السوري، وهو يمثل الطارئ والغريب والمخرب الذي يجب التنكيل به وتعذيبه حتى يمكن للبلد أن يبقى وأن لا يطير.

السوبر ستار يهدد وينتصر والصحافي ينطوي على نفسه، وبين المجالين يظهر أن الكلام ممنوع ولكن اللغو مباح، ولنا أن نتذكر هراء خطابات الأسد، الذي يحرص على إعادة تفعيل زمنه اللبناني، لنعرف لماذل يراد لراغب علامة أن يكون سوبر ستار الحريات ومحاربة الفساد، ولماذا يراد للصحافيين مثل حازم الأمين أو غيره أن يكونوا بلا لسان ولاكلام. السبب يكمن في أن الديكتاتوريات الحقة ليست تلك التي تمنع الناس من الكلام بل التي تفرض الثرثرة والهراء كعنوان لا يخطئ على سيادة التبلد والوجوم.

السابق
موقع «businessinsider» الأمريكي، ينشر لائحة بأكثر الموضوعات بحثاً على «غوغل»
التالي
تسليم «الهبة الروسية» إلى وزارة الداخلية