اللهم عفوك يا كريم.. علي عفانة وآذار المقصوف

علي حسن عفانة، من صخنين في الجليل الأعلى، والجليل الأعلى يوازي أو يقابل المنطقة التي أنا منها في جبل عامل، الذي هو جزء من الجليل، أو الجليل جزء منه، أو هما واحد له اسمان الجليل وعاملة… علي حسن عفانة من يذكره؟ فتى من قرية من قرى لا تلبث أسماؤها أن تغادر ذاكرتنا حتى تعود لتبزغ فيها وتبرعم وتتفتح وتزهر وتنعقد عنباً وتوتاً وخوخاً ورماناً وزيتوناً ودفلى وغاراً وزوفى وميرامية وعدساً وقمحاً وحندقوقاً ودحنوناً ونرجساً وعصاً لراعي الغنم، ساقها إلى لون البن أقرب، وعلى مفاصلها أكواب من زهر يختلط فيه لون السماء بالبنفسج، وعطر خفيف يضوع فيطغى على رائحة السكوكع الأبيض المحمر فمه على بسمة غامضة كأنه طفل في قماطه قد أبصر خيال أمه راجعة من حقل الذرة، ريثما يوافيه ثديها وتنهمر الحياة في فمه دافئة كليالي الحصاد، بهية كلون الحنطة وغنية ككوز تين عسلاني في كرم عذي، أصفر مثل الريبوخ، معسِّل… وشهي… علي حسن عفانة الفتى دون الحلم، مع أنه كان يحلم، رأى فيما يرى النائم، أن خالته من بلدة ترشيحا ذهبت إلى تربيخا ولم تعد، وقالت له أمه لم يأمن عليها أهل تربيخا، المتاولة، أن تعود إلى ترشيحا لأن اليهود الذين سوف يداهمون تربيخا وصلحا وقدس وهونين بعد ساعات، يربطون الطريق ويقتلون كل من يصادفونه خوفاً من إفشاء السر… فأخذوها معهم إلى جبل عامل وانقطعت أخبارها، إلىأن جاء طارش من هناك بعد عشرة أعوام حاملاً منها رسالة تقول فيها إنها تعيش في مخيم البص قرب صور، ولا تكفيها حصتها التموينية من الأونروا، من الطحين والزيت، فتعمل في بيارة، بستان ليمون، في مواسم القطاف والتعشيب، والحالة مستورة، وإنها أصيبت بالمياه الزرقاء في عينها اليسرى، وسوف تقوم بعملية جراحية عندما يصبح المبلغ الذي توفره وافياً بأجرة الطبيب والمستشفى. وإن هناك طبيباً متواليّاً يعطف عليها ويمكن أن يخفض لها مبلغاً من أجرة يده في الجراحة، وطلبت منا… تقول أم علي لولدها علي حسن عفانة، أول شهيد في أول يوم للأرض أحيته أرض فلسطين بما ومن عليها في أواسط السبعينيات، تقول لولدها طلبت منا، أي خالته طلبت من أمه في تلك الرسالة، أن ترسل لها صورة منزلها في ترشيحا مع صورة الدندانة بما فيها من شجرة توت ورمانة حامضة وتينة شتوية زرعها المرحوم زوجها بيده قبل أن تدهسه سيارة الضابط الإنكليزي، ليموت من دون ولد يخلفه أو بنت، وتبقى هي وفية له من دون زواج حريصة على البيت والأرض التي داومت على زراعتها بالنوع الذي يحبه من الحنطة (أي الحوراني)، وظلت تغتنم الفرصة لتعمل بوصيته في إعداد الفريكية لبيعها في سوق حيفا… ولم يكن علي حسن عفانة، الشهيد الذي لم يبلغ الحلم، وكان يحلم بأن يرى خالته، يصغي لكل هذه التفاصيل، لأن كلمة في القصة استوقفته فوقف عندها وقال لأمه: متوالي يعني ماذا؟ وقبل أن تجيبه داهمهما صوت المؤذن ينادي قبل أذان المغرب: يا سامعين الصوت صلّوا عالنبي، أولكم محمد وتاليكم علي، وثالثكم فاطمة بنت النبي. جدي معزى ضايع أسود أصبح، وصاحبو أبو أحمد من قرية فسوطة، واللي بيلاقيه يودّيه لمختار فسوطة جريس الخوري وإلو حلوانة كيلو حلاوة.

اقرأ أيضاً: تقاسيم على الأسود.. الموت الميسّر

وقال علي لأمه قولي لي ماذا يعني متوالي؟ ابتلعت ريقها وقالت: آه لو كان أبوك حياً لقال لك، لأنه كان يشتغل مع المتاولة في ميناء حيفا قبل النكبة… قال يعني المتاولة فلسطينية؟ قالت: لا، عرب قال: ونحن عرب، يعني مثلهم قالت: لا إنهم مختلفون، قال: بماذا؟ قالت: لا أدري، قال: وأين يسكنون؟ قالت: هناك شمال، في لبنان التابع لبيروت وما عندهم يهود… وكان يوجد منهم كثير قربنا هنا في الجليل، هربوا بعد مذبحة عملها اليهود في قراهم، خافوا وهربوا وهربت معهم خالتك، كانت ذهبت لتشتري ثوراً للفلاحة من متوالي في صلحة وأخذوها معهم.
قال علي: يعني المتاولة دينهم من ديننا؟ قالت: لا أدري ولا أعرف الفرق بين الأديان، سوى أن المسيحي يصلي في الكنيسة والمسلم يصلي في الجامع.
ونام علي… شدّ على وجهه طرف البطانية وثنى ساقيه حتى لا يخرجا من تحتها، وآذار آخر البرد ليلاً وأول الدفء نهاراً، ولا بد من الحذر، وفي أخريات يقظته وعد نفسه برحلة صباحية في الغد، لأنه يوم عطلة، إلى حقل اللوز، وقرر أن يمضي إليه سراً حتى لا تبتسم والدته عند عودته وتسأله: ها. رأيتها؟ بنت أبيالياس تذهب لقطاف البازلاء في الحقل المجاور، وتحدثه عن أعمامها في تل الزعتر، ويسألها إن كان في تل الزعتر متاولة فتستغرب السؤال، وتعقب والدته أمام مراوغته واحمرار وجهه، ولكنها مسيحية لا يعطونها لك… ويرد بعصبية… يما ومن قال إني أريد أن أتزوجها؟ ممنوع الصداقة في هذه الضيعة! لا يا حبيبي… صادق وأحب الناس بصرف النظر عن النتائج… لازم نحب بعضنا بعضا. يكفينا أن هناك من يكرهنا جميعاً. الله يلعنهم… يريدون أن يسرقوا مني الجل التحتاني من المغراقة… هذه الأرض التي كان يحبها أبوك لخصبها، لأنها على مجرى مياه النبع الأزرق… آه الأزرق… خنقوه، حفروا بئراً ارتوازية في موازاته فغاضت مياهه. وقال لي أبوك: إذا مت قبلك يا أم علي فادفنوني فيها، في الجل الوسطاني، ثم تراجع وقال: لا في المقبرة قرب أهلي وبين الشهداء الذين سقطوا في معركة القسطل وفي جنين، والمغراقة تبقى للأولاد من دون أن يزعجهم القبر… مات أبوك في المغراقة لأنه ذهب إليها باكراً وقبل انتشار نور الفجر، لأنه لم يكن يطيق صبراً على البعد عنها. وكان اليهود ينصبون كميناً للفدائيين فقتلوه فيها… ونام.
نام علي… ورأى فيما يرى النائم بيوتاً من حديد متراصة كأنها عربات قطار، ورأى رجالاً ونساءًوأطفالاًمن الكونكريت المسلح، إذا تكلموا أو تحركوا صدرت عنهم أصوات مرعبة. وما لبث الجميع أن اجتمعوا من كل البيوت حول مائدة من عظام عليها كتل من التراب وأكوام من ورق التوت والتين وأغصان الزيتون والدحنون والورد، وأخذوا يلفون التراب الأبيض والأحمر بأوراق التين والتوت ويضعونها في بطونهم مباشرة ويدسون وراءها الزهور والورود وأغصان الزيتون ويتجشؤون فترتج الأرض من حولهم.

اقرأ أيضاً: إلى سيّد الأُلفة والألاف

لاحظت أم علي أن علياً غارق في كابوس فسمّت عليه وهزته وقالت له: الله وعلي معك يا علي، مالك، جلس في فراشه مرعوباً ووعدها بأن يقص عليها منامه غداً… فانتبهت إلىأمرها قالت: غداً لا ذهاب إلى حقل اللوز ولا رؤية للعزيزة ميلا بنت أبيالياس صاحب الطاحونة، لأن غداً هو موعد يوم الأرض، والكل سوف يتجمعون في الساحة من أجل الأرض. وفي الغد تحرك الناس في ساحات فسوطة وترشيحا والمنصورية ومعلية وإقرت وكفربرعم وسائر الجليل الأعلى والأدنى والأوسط. وصولاًإلى النقب، {أخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث يومئذ أخبارها بأن ربك اوحى لها} ومات علي حسن عفانة برصاصة غادرة عن ثلاثة عشر عاماً. وأسر رفيقه إلى أمه أنه اخبره بأنه بلغ الحلم منذ أشهر، فنظرت أمه بحسرة إلى ميلاء التي كانت تحبه كما تحب شجرات البيارة… نادتها. قالت لها: اجلسي إلى جانبي ليبرد قلبي. بعد خمسة وعشرين عاماً. في أواخر شهر أيار من عام 2000 ذهبت العجوز أم علي عفانة إلى مقبرة الضيعة في صخنين وضعت على قبر ولدها علي باقة أقحوان وقالت له: يا علي… قم لأحدثك عن المتاولة… الآن أصبحت أعرفهم تماماً، مثلنا ويمكن أحسن منا شوي. يا علي انفتحت طرق السماء بالمقاومة والانتفاضة بين جبل عامل والجليل وغزة والقدس… يا علي ليتك ترى ما نحن فيه من شهادة وشهداء ووحدة وتحرير ووعد بالحرية. يا علي أنت معنا… لأن الأرض معنا… والله زمان يا حبيبي على اللوز والشومر، والله زمان على عش الحسون، وعلى رائحة التراب الموشى بمنثور الزهور، والفائح رائحة وعد وخصب في انتظار شتلات الموسم الصيفي، بندورة وفليفلة وقرع.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
لا أُؤْمِنُ بإِلَهِكُمْ ولا أعبد ما تعبدون
التالي
اسرائيل تدرّب طياريها على تفادي صواريخ أس 300