تقاسيم على الأسود.. الموت الميسّر

السيد هاني فحص

{..وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتمّوا الصيام إلى الليل} .
كانت امرأة قد أصبحت لتوها أماّ لصبي، نظرت إليه بشغف ورأته جميلاً، وكان بعلها الذي يكسب قوت يومه بيومه، قد خرج بأمر منها إلى السوق ليبتاع حلوى.. قالوا له في السوق : ألم تقرأ نشرة أسعار العملة في جريدة الصباح ؟ قالإنه يقرأ الجرائد في نهاية الأسبوع، عندما يذهب لتنظيف مكتب صاحب المعمل. قالوا له: لقد ارتفع الدولار، فاشترى نصف الكمية التي قررتها زوجته.
مازحه بائع الحلوى وسأله كثيراً عن “ولي العهد” وعن لونه ولون عينيه، ومن يشبه أمه أو أباه؟ تدخل الصبي (صانع) الدكان وقال : لماذا تخلّفون أولاداً في هذا الزمن؟ ليصبحوا صناعاً في الدكاكين؟
نهره معلمه، صاحب الدكان، وأعطى الرجل ما اشتراه من حلوى.. همّ الرجل بالعودة، سار خطوات، سقطت قذيفة على مرأى منه ومسمع، خاف وعاد ليحتمي تحت سلّم بناية عالية جداً، استمرت القذائف تتساقط، أخذ هو يلتهم الحلوى، لو سأله أحد وهو على هذه الحال، لمن هذه الحلوى؟ ولماذا تأكلها؟ لما أحار جواباً، لأنه كان مستغرقاً في الأكل ولو توقف وفكر قليلاً في أي سؤال عن الحرب وآثارها ومتى تنتهي ولصالح من ؟ أو عن الحلوى ؟ لمات من الخوف.. {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } . –
***
عندما تأخر، خرجت أم الصبي، التي كانت قد أصبحت أماً لصبي لتوها، ألقت نظرة إلى الطريق العام من باب الغرفة (الزنك).. كان الشارع ما يزال ضيقاً لا يتسع لدبابة، مليئاً بالحفر المليئة بالمياه المليئة بالقاذورات.. قبل أن تتبين تماماً هوية القادم من فم الشارع، سقطت قذيفة ولم يبقَ من القادم شيء.. كادت أن تصرخ هلعاً على زوجها والحلوى، ولكنها تذكرت أن القادم كان امرأة تتشح سواداً حتى قدميها.. فكثير من أزواج جاراتها وأولادهن وبناتهن وإخوانهن وأخواتهم، قد ماتوا فاتشحن سواداً.. وهي لم تفقد إلا ابن خالها وبنت خالتها وابن بنت عمتها وبنت ابن عمها، وأخا زوج أختها وزوجة أخيها، وأخت زوجها.. اتشحت سواداً مؤقتاً في كل هذه الحالات، ثم نضت السواد وارتدت مزركشاً وابتاعت قميص نوم (تايواني) أبيض استعداداً ليوم الولادة، يوم الدلال والغنج والأبهة والحلوى والراحة من غسيل الأطباق والملابس وتحضير الطعام والذهاب إلى سوق الخضار، بعد الظهر لشراء البقايا بثمن أقل – خاصة بعد ارتفاع الدولار – وها هو الآن مولود ذكر يكاد ينبت شارباه ويبدأ بمعاكسة بنات الجيران، وها هو القميص الأبيض يستريح على البطن التي انفتحت عن كنز.

اقرأ أيضاً: إلى سيّد الأُلفة والألاف

أوصدت الباب حتى لا تأتي الشظايا، دقت جارتها التي تتشح سواداً على الفاصل الخشبي بين غرفتيهما بجماع قبضتها.. كأنها لا تعرف أن هناك وليداً وأنه نائم! قالت المرأة، دون أن تنتظر جواباً لقرعها : لا تتركيه يجوع كثيراً يا بنتي، ألقميه ثديك بين ساعة وساعة، لا تنتظري بكاءه، لا تعوّديه على علاج الغضب والبكاء بالحليب.. هل عرفت؟ ماتت الحاجة بهية منذ لحظات وهي عائدة من شغلها في معمل الكارتون؟ مسكينة.. لن يتشح أحد عليها سواداً لأنها آخر من تبقى حياً من أفراد عائلتها.. آخر العنقود يا بهية!!!
حرّكت المرأة النفساء بطرف إصبعها ذقن وليدها الرضيع، فتح عينيه وفمه معاً، وحرّك شفتيه بحثاً عن الإصبع، ألقمته ثديها الأيمن واتكأت على كوعها الأيسر وأسدلت على عينيها أجفاناً سوداء كقطع من الليل، وراحت في حلم فيه وطن هادئ بدون قذائف، وسلام وأولاد وبنات كثير وفقراء لا يتحدثون كثيراً عن الدولار وثياب ملونة يدخل فيها الأسود لوناً من الألوان لا يستغرق الجسد ولا تثقله الذكريات الحزينة.
عندما كان الثدي الأيمن، يدرّ حليباً، كما لو كان ساقية أو نهراً، ومع الحليب يسري دفء منمنم يستقر في طرف الكوع الأيسر خدراً عذباً.. كان الكوع الأيسر لاصقاً بالأرض، بالحصير، واصلاً بين جسد المرأة ( التي ولدت لتوها وهي الآن ترضع وليدها وتنتظر زوجها والحلوى وتسمع أصوات القذائف) وبين الأرض.. سقطت القذيفة، ماتت المرأة، انفلت الثدي من فم الرضيع، وانفلت الكوع وهبط الجسد..
لم يتشح أحد سواداً عليها.
قالوا للولد الرضيع عندما صار يافعاً يعمل في دكان لبيع لحلوى، إن أباه كان قد مات بقذيفة أخرى بعد ما التهم الحلوى كلها.
اتشح الولد سواداً وراح كل ليلة يستغرق في حلم فيه آباء وأمهات وإخوة وأخوات لا يتقاتلون، وإذا تقاتلوا لم يجرح أحدهم الآخر، وإذا جرحه لم يقتله، وإذا قتله اعترف بذنبه وألقى سلاحه وتوارى.. لو كان له إخوة لتعارك معهم كثيراً ثم تصالحوا قبل أن يعود أبوهم من شغله، إذا كان أبوه ما يزال حياً.. وطن في ثياب ملونة وفيه حلوى.. إذا توفي أحد فيه لهرم، أو بالسرطان أو بحادث سيارة اتشحت كل نساء الحي أو القرية عليه سواداً.. وتعطلت الأعراس إلى ما بعد أربعينه…

2 – قميص الوطن
{حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه..}.
ينكمش الوطن.. تتراجع معدلات الزواج، تتقدم معدلات الطلاق، يكثر الموتى والشهداء والأيامى واليتامى، وينكمش الوطن، يهاجر الشباب، وتتراجع معدلات الإنجاب، وينكمش الوطن {ألم نجعل الأرض كفاتاً.. أحياء وأمواتاً ؟ } .. تضمهم ضماً على ظهرها وفي بطنها.. وتضيق بهم.. يضيقون بها.. يصبح البساط خرقة خَلِقة، يصبح المهد مَسْهداً.. تصبح الخرقة قبضة.. ابحث لك عن منفذ، فإذا ما خرجت، سلمت بريشك، وإلا فسوف تموت حنيناً..
” وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يملّ وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يُشْفَ ما بنا
على ذاك قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ”

ابن الدمينة

يا أم هاني من أين اشتريت هذا القماش قميصاً لابنك ؟
من هو هذا البائع اللئيم الذي ما انفك يغشك منذ أخذ هاني يميز جمال الأشياء ويطلب قميصاً جميلاً ؟
صلي على النبي يا أم علي، رجل آدمي وابن حلال.
يا مسكينة دائماً يضحك عليك التجار الغرباء، هذا القماش ينكمش على الغسيل.
لا يا أم علي، هاني يا صلاة النبي، ينمو بسرعة وتضيق عليه ثيابه.
.. كان هاني وحيد أهله، وكانت أم هاني تظن أن البيضة التي تقليها له يومياً بالسمن البقري ويأكلها وحده برغيفين من خبز الصاج، تجعله ينمو بسرعة حتى تضيق عليه ثيابه بين شهر وآخر. كانت قناعة أم علي الخياطة عكس ذلك ولكنها لم تستطع إقناع أم هاني بوجهة نظرها الناتجة عن خبرة طويلة بمشتريات أم هاني من القماش..
فشلت أم علي في جعل أم هاني تكفّ عن الاستسلام لطلاوة لسان التاجر الغريب الذي كان يقنعها كل مرة بأن هذه القطعة لم يبقَ معه غيرها من ذلك النوع لأنه لاقى إقبالاً شديداً.. رغم أن كثيرين شهدوا لأم هاني بأنهم ضبطوا هذا التاجر مرات عدة وهو يخبئ قطعاً أخرى من ذلك النوع من القماش ويخفيها في طيات بضاعته.. كانت أم هاني تتصور أنها لو صدقت أم علي وكذبت التاجر الغريب فمعنى ذلك أن تكون البيضة غير مؤثرة وأن هاني لا ينمو بالسرعة التي تتصورها بفعل البيضة.
ظل التاجر الغريب يستفيد من البيضة وأم هاني ويستفيد معه ابن الجيران الذي يصغر هاني بسنتين مما جعله يستغني عن شراء القمصان وينتظر حتى ينكمش قميص هاني بعد الغسيل ويأخذه منه. صار هاني أباً ثم جدّاً وما زال ينخدع كما كانت أمه وأكثر.
***

اقرأ أيضاً: «كرافات» حوار طارق حرب تقاسيم على الأبيض

استعارات لغايات وطنية
{واتل عليهم نبأ ابنيْ آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا ببساط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت عن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} .

“قابيل” باق وإن صارت حجارته
سيفاً وإن عاد ناراً سيفه الخَذِمُ
وردّ “هابيل” ما قضاه بارئــه
عن خلقه، ثم ردّت باسمه الأمم
– السياب
يقول ابن الأثير ما ملخصه ” في سنة 497 هـ سار الفرنج إلى حرّان بعدما سمعوا بالخلافات بين معين الدولة (سقمان) وشمس الدولة (جكرمش) والحرب بينهما فأرسل كل منهما إلى الآخر يدعوه إلى اللقاء لتلافي أمر حران، فاجتمعا على الخابور وانتصر المسلمون وأسر قائد الفرنج والقمص بردويل ثم اختلفوا على السلب والغنائم وتصافوا للحرب فقال سقمان لأصحابه يردهم عن حرب إخوانهم :” لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم في اختلافنا ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين”، ورحل لوقته وتابع القتال في الطريق ضد الفرنج وانتصر عليهم ” . ويقول ابن خلدون :” كان بين جكرمش صاحب حزيرة ابن عمر وسقمان صاحب حصن كيفا حروب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه (ابن أخي سقمان) بسبب خوفه من الاستيلاء على ما بيده . ومن عيون الأخبار لابن قتيبة :” المدائني قال : لما اشتغل عبد الملك بمحاربة مصعب بن الزبير اجتمع وجوه الروم إلى ملكهم فقالوا: قد أمكنتك الفرصة من العرب بتشاغل بعضهم ببعض فالرأي أن تغزوهم في بلادهم فنهاهم عن ذلك وخطأ رأيهم ودعا بكلبين فأرش بينهما ( اي أفسد بينهما وحرّش) فاقتتلا قتالاً شديداً، ثم دعا بثعلب فخلاه بينهما فلما رأى الكلبان الثعلب تركا ما كانا فيه وأقبلا على الثعلب حتى قتلاه فقال لهم ملك الروم : هذا مثلنا ومثلهم فعرفوا صدقه وحسن رأيه ورجعوا عن رأيهم “.
” أخاك أخاك إن من لا أخاً له كساع إلى الهيجا بدون سلاح” يقول النحاة : إن أخاك هنا منصوبة على الترغيب.. ولكن مرارةً ما دفعت طه حسين ليقول بأن أخاك منصوبة على التحذير مما يقتضي أن تكون كلمة بكل سلاح مكان بدون سلاح.
ويقول معروف الكرخي مفصحاً عن حالنا من الخوف من الوضوح والصراحة واللجوء إلىالإغماض :
” أبكي إلى الغرب إن كانت منازلكم
من جانب الشرق خوف القيل والقال
وأقول بالخد خال حيــن أذكــره
خوف الرقيب وما بالخد من خـال “.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
الوزير المشنوق في معراب
التالي
إرجاء محاكمة عمر بكري فستق و6 آخرين متهمين بقضايا إرهابية