حسن داوود يرسل روايته «في أثر غيمة»… كأنها المنام!

كتاب اثر غيمة
دائماً ما يتخطى حسن داوود نفسه، فنياً، في كل عمل روائي إبداعي له، لذا، فهو دائماً ما يُفاجئ قارئه، في مضمون جديده الروائي، تماماً، كما نرى إحدى تجليات ذلك، في روايته الجديدة "في أثر غيمة" (الصادرة عن "دار الساقي" في بيروت، في طبعة أولى أواخر الـ2017).

ففي لغة روائيّة مدماكيّة، بفرادتها وتفرُّدها، لروائية الرواية العربية تحكي رواية “في أثر غيمة”، عن تجربة حياتية، خاضها راوي هذه الرواية، بنفسه، وبمحض إرادته، من أجل تحقيق هدف أمِلَ أن يحققه منها. إذ هو الهدف الخاص الذي أملى عليه خوضها؛ لكنها، في النهاية، أفضتْ به نتائجها، إلى النّقيض التّام، لما كان يأمله منها، إذْ وجد نفسه، في موقف ملتبس، ينم عن مفارقة وجودية، كانت حاله فيها، أشبه بحال شخص حاول جاهداً، وبكامل وعيه، تتبُّع أثر غيمة، هام تائهاً في أثرها، زمناً قصيراً، وهو عُمْرُ الغيمة الطبيعيّ، إذ إنّ كلّ غيمة، هي، بطبيعة الحال قصيرة الأجل. فضاعت فرصته المأمولة، لأن أمله قد تلاشى كتلاشي غيمة عابرة، في نهاية المطاف.

اقرأ أيضاً: هالة أبو حمدان تؤلّف في «العنف وتطوير مناهج التفسير»

فالراوي كان يهيم في أجواء حلم يقظة، أراد به الخروج من مأزق، جعله يعاني، حائراً، في الاهتداء إلى كيفية الخروج من متاهة دوّامة هذا المأزق الحرِج، الذي دفعه إلى أن ينتقل من مكانه الأليف والمألوف لديه (أي بيته)، إلى مكان آخر، علّه يُعِينُه على تحقيق هدفه، أو الوصول إلى بُغْيته، لكنه اقتنع، أخيراً، بأن هدفه هذا، لا يمكن أن يتحقق إلا في مكانه الخاص (المأوى الحميم). وراوي هذه الرواية هو، الشاعر سالم الشريف، وهو رجل متزوّج، كان قد تقاعد من وظيفته، بعد ما تقدم به العمر، وقرّر أن يتفرّغ، تماماً، لكتابة قصائد، كان يعد نفسه بكتابتها، بعد تركه الوظيفة التي كان يشغلها، لكنه واجه استعصاء في الكتابة، أثناء محاولاته المتكرِّرة، لاستغلال الوقت الذي حدّده لذلك، وبينما هو في غمرة حيرته للخروج من هذا الاستعصاء، شاهد صورة فوتوغرافية كبيرة، لباخرة نهرية عملاقة، في كتاب مصوّر، وعلم أن هذه الباخرة هي، بصدد قيامها برحلة، من رحلاتها المعتادة، فعزم على المشاركة في هذه الرحلة، لأنه استشفّ منها، بارقة أمل يمكّنه من تحقيق حلمه الذي استعدّ له زمناً طويلاً. فكانت مشاركته في هذه الرحلة، حالة استثنائية، بصفته شخصاً بمفرده، بينما جميع المشاركين فيها، هم أزواجٌ (أي زوجين، زوجين، كل زوج مع زوجته). وبالرغم من أن الراوي كان قد صمّم ألاّ ينشئ أية علاقة، مع أي أحد على الباخرة، ليتمكن من الكتابة، التي جاء من أجلها فحسب، إلى هذه الباخرة؛ إلاّ أنه وبالرغم منه، وجد نفسه طرفاً، أساسياً، في علاقات عدة، تمثّلت بعلاقته مع صاحب الباخرة (أدخله هذا في هذه العلاقة). هذا إضافة إلى دخول الراوي في علاقة غرامية (بقيت سطحية لأسباب عدة) مع الفتاة الحسناء لمى، التي هي الدليلة السياحية للباخرة، هذا إضافة إلى إدخاله في علاقة مع اثنين من الأزواج على الباخرة (وهما حبيبان وليسا متزوجين) وهما الطبيب المعوّق جسدياً، تميم، وحبيبته الفتاة فريال. فهذه الشخصيات “مجتمعة”، وكل واحدة منها، على حدة، وعلى طريقتها الخاصة، أدخلت الراوي في صُلب مشاكلها الخاصة المتعلقة بأجواء هذه الرحلة، وهذه العلاقات هي التي منعت الراوي من الكتابة، على مدى زمن هذه الرحلة التي دامت أياماً قلائل (هي أقل من أسبوع واحد، ربما). أي أن الراوي قد أُرغم، مكرهاً، على أن يحيد عن هدفه الأساسي، الذي جاء من أجله إلى الباخرة، لكن هذا الهدف، بقي هاجسه الأساسي الوحيد الذي سيطر على كامل المفاصل الأساسية لهذا العمل الروائي، المتجوهر فنياً. وبالرغم من الظروف التي أحاطت بالراوي، هنا، إلاّ أنه، وهو شخصية من شخصيات هذه الرواية، وهي الشخصيات التي نشأت فيما بينه وبينها العلاقات التي ذكرناها، استطاع المحافظة على موقعه كراوٍ شاهد فحسب، هذا بالرغم من انفتاح الحكاية الأصلية لهذه الرواية (الحكاية الشخصية للراوي) على أكثر من حكاية حصلت في هذه الرحلة، إلا أن اثنتين منها،استأثرا باهتمامه الأساسي، وهما حكاية (ونهاية حكاية) علاقته الغرامية مع لمى؛ وحكاية قطع علاقة تميم وفريال.

وهما اللذان عادا، كل بمفرده، في نهاية هذه الرحلة، ولقد أتت نهاية علاقة تميم بفريال هنا، شبيهة – تماماً – بنهاية علاقة الراوي مع لمى.

كتاب في اثر غيمة

وهذه المشابهة، تقفنا على المغزى (المدلول أو المعنى) الروائي هنا، والمتجسد بحقيقة واحدة، ووحيدة، مفادها، وكما يُظهرها، هنا، المتخيّل الروائي: أن الفضاء الروائي، برمته (أي المكان والزمان الروائيين)، عندما يكون مخيِّباً لآمال الشخصيات الروائية، يضحى الفعل الروائي الحقيقي (وهو كما حصل في هذه الرواية)، كأنه حُلُم فحسب. وهذا ماثل، في ذروة تجلياته، في مقومات المنظور الروائي لرواية “في أثر غيمة” هي التي تدور أحداثها (أحداثها الواقعية/ المرئية، المحسوسة والمنظورة، وأحداثها المتخيّلة/ اللاّمرئيّة، الذهنيّة أو المفكَّر فيها فحسب)، تدور في مكان عابر، بزمانه العابر، وهي أحداث ولقاءات عابرة، قامت بها شخصيات عابرة، في ظل مناخات وأجواء عابرة برمّتها، لم يكن لها سبيل، مطلقاً، إلى الوقوف على أرض ثابتة/ راسخة، أي أنها من ذلك النوع الذي لم يترك، بعد زواله أو انقضائه، أي أثر يذكر، في نفس الشخصية الروائية هنا (رئيسية/ محورية كانت أو ثانوية/هامشية)، أي أن هذا الأمر، الذي له كل مقوّمات عالم المنام أو عالم الرؤيا فحسب؛ هو – تماماً – وبمروره، على هذا النحو، شبيه، تمام الشبه، بمرور غيمة عابرة، وممحوة الأثر، أي معدومته تماماً. وهذا ما تُمثّله، أصدق تمثيل الحكمة التي واجه تميم (وهو الرجل المجرِّبُ هنا)، بها الراوي، إذ قال له حرفيّاً وهما على وشك مغادرة الرحلة: “في الرحلات لا شيء مما يحدث يحدثُ حقيقة”.

لذلك فما كان من الراوي إلاّ أن يعلن أنّ: “تلك كانت حكمته (حكمة تميم)، خلاصة تجربته، خلاصتها المتفائلة التي لا تخصّني وحدي، بل تجمعُنا معاً أنا وهو…”، أي فيما يتعلق بما انتهت إليه علاقة الراوي بلمى، وعلاقة تميم بفريال. “فكأن ذلك حدث في المنام”. قال له تميم، أيضاً. إلى أن أجابه الراوي “إننا اتفقنا، أنت وأنا على أن ما نعيشه، في الرحلة سنتهي بنهايتها”. “مثل المنام”، كرّر تميم القول.

اقرأ أيضاً: عماد سلمان يحرّرنا في كتاب: «حرِّر ذاتكَ مِنْكَ»…

لكن حكمة تميم هذه، هي عينها حكمة رواية “في أثر غيمة” برمتها، الحكمة التي سرعان ما تلقّفها الراوي، فهو الذي وجد فيها “ضالته الروائية”، لكن اللافت أن راوي هذه الرواية، وهو الراوي الكلي القدرة (وليس الكلي المعرفة طبعاً) بشؤون وشجون شخصياته، فهو التقاها “بالمصادفة” البحت، لذا فهو – وبطبيعة الحال – لم يكن يعرف عنها شيئاً على الإطلاق، وإلى ذلك، فلقد بقيت معرفته بها، محدودة جداً لا بل سطحية إلى أبعد الحدود. وبالرغم من ذلك فلقد استطاع هذا الراوي، أن يبني عالمه الروائي، بتقنيات روائية خاصة بالمنام/ بالمنامات اليقطوية والحُلميّة معاً. وأبرزها تقنيّتي: “المونولوج الداخلي”، والدّيالوغ الحواري، وذلك في مشهديات بصرية متحركة (وهي الخاصيّة الأساسية لسردّيات حسن داوود (الروائية والقصصية).

فالمشهديات البصرية المتحركة لهذه الرواية احتلّ فيها الصمت المساحة الأعظم لنُطْقيّة هذه الرواية، وهو الصمت المتمثل (في وجه من وجوهه المعبِّرة) بالحركة السرديّة (كحركة الرأس، وحركة اليد، ونظرة العينين… إلخ)، وهي الحركة المستعاض بها عن الكلام. فرواية “في أثر غيمة” ما هي إلا متوالية حوارية يظهر فيها الفعل الروائي أو الحدث الروائي مجرد حُلُم من أحلام النوم، كأنه فعل استيهاميّ أي كأنه فعل لم يحدث، أي كأنه لم يكن على الإطلاق. أي كأنه منام فعلي/ حقيقي، ولقد كان راوي مجرياته، من القدرة، بأنه استطاع تقديمه لقارئه، وعلى كامل المساحة الروائية، ببراعة واتقان مذهلين، وهذا ما جعل من روائية (أي فنية) “في أثر غيمة”، مناماً حقيقياً، وهذا هو مكمنُ إبداعها.

السابق
جميل السيد يهاجم سعد الحريري.. وجيسيكا عازار ترد: ذهنية المخبر!
التالي
جيسيكا عازار لـ«جنوبية»: سأدّعي على نجل جميل السيّد