استقالة الحريري: من ربط النزاع الى تفجيره

حدث استقالة الحكومة لم يكن مجرد غيمة صيف في سماء صافية، كما يحلو للبعض ان يصورها دعما لمنطقه السياسي، هي بمثابة الشتوة الاولى التي تعلن بدء انتقال المناخ السياسي الاقليمي - الداخلي من فصل خريف متقلب الى فصل شتاء يشي بانه سيكون قارسا جدا.

هي خطوة – حدث تراكمت مقدماته، وتولدت عناصره ومكوناته على مدار عام كامل، موصولا بما سبقه خلال سنوات طويلة، وهو عام دخل فيه اللبنانيون في رحلة متعرجة يواكبون خلالها مسار تسوية سياسية تحمل كل عناصر تفجرها في داخلها.

بالتأكيد، ما بعد استقالة الحريري ليس كما قبلها، ويمكن المغامرة بالقول ان مرحلة جديدة متفجرة قد بدات تطل براسها، وان لبنان تحول الى جبهة متقدمة في الصراع بين محوري الصراع الاقليمي.

لم يرد لهذه الاستقالة ان ترمي بثقلها كامر واقع على الداخل اللبناني فحسب، بل ان اهدافها كانت مركبة، مع التشديد هنا انها حصلت لاسباب ودوافع اقليمية – دولية، مهما قيل في اولوية دوافعها اللبنانية التي لا شك انها لعبت دورا في حصولها.

اقرأ أيضاً: بعد استقالة الحريري الملتبسة: ما هو مفعول التهديدات السعودية؟

يصعب فصل الحدث عن سياق سياسي ترسم ملامحه االمنازلة الاميركية الايرانية التي تدور في اطارها ازمة النفوذ والمصالح والادوار الاقليمية، وفي مقدمها الاشتباك السعودي – الايراني، ذلك ان محركات الاستقالة ومضامينها السياسية، أبعد بكثير من حصرها في العوامل الداخلية، فهي وإن كشفت مرة اخرى عن حقيقة الواقع السياسي اللبناني في كونه ساحة للصراعات الاقليمية، فهي الى ذلك مؤشر على ان التطورات الاقليمية باتت تجري بسرعة كبيرة جدا في ظل الاندفاعة الاميركية الجديدة في التصدي لايران وحزب الله، خصوصا في ظل مقاربة اميركية تعتبر ان حزب الله هو من يقرر او يفرض قراراته في لبنان وان الاخرين يلحقون به.
زد على ذلك ان الصراع السعودي الايراني وصل الى ذروته بعد الانتصارات التي حققها المحور الايراني في المنطقة، وفي ظل اختلال التوازن الحاصل لصالح تحالف روسيا – ايران، وسعي هذا التحالف تثبيت الوقائع وجعلها نهائية، وهذا ما يتعارض مع مصالح القوىالى الاقليمية والدولية التي تدرك جيدا ان لا احد قادر على الاستئثار بالقرار السياسي اللبناني وحده، بهذا المعنى تريد السعودية الدفاع عن نفوذها باي شكل من الاشكال، وهي بالتالي لا يمكنها تقبل الخسارة في ساحة لها حضورها التاريخي فيها، وان المطلوب العمل على استعادة التوازن مع حزب الله وحلفائه قبل فوات الاوان.

والحال هذه يصبح لبنان ساحة مثالية لانطلاق شرارة الصراع الجديد في المنطقة، ليس لانه عنوان حزب الله ومركز قوته ونفوذه فحسب، بل ان اصطياد ايران في لبنان اكثر نجاعة كون حزب الله هو الذراع الاساسية في ماكينة ايران الاقليمية، وتعطيل هذه الذراع كفيل بتعطيل القطار الايراني برمته في المنطقة ، وهو مايفسر عودة لبنان نقطة ساخنة للصراع الاقليمي – الدولي بعد ان جرى تحييده لفترة طويلة.

انقلاب المعادلة الاقليمية على قاعدة نجاح المحور الايراني في سوريا والعراق وتعثر المحور السعودي في اليمن، عكس نفسه بشكل مباشر على المعادلة الداخلية اللبنانية، اذ ان اي مرقب للوضع اللبناني على مدار عام منذ انتخاب العماد عون رئيسا للجمهورية لابد ان يلاحظ حقيقة الترابط المكين بين حلقات المسار الذي سلكته العملية السياسية الداخلية خلال هذا العام وبين تطورات المطقة، وان حزب الله تحول من مشارك في السلطة الى مهيمن على هذه السلطة.
انتخاب عون كان بداية لتغيير في قواعد اللعبة السباسية القديمة من دون ان يرسي قواعد جديدة، اذان ارساء قواعد مختلفة تمت مراكمتها عبر الاستحقاقات الدستورية التي تلت الانتخاب، وهي استحقاقات شكلت مساحة صراع، وشكلت شوطا تمهيديا للشوط الحاسم المتمثل في الانتخابات النيابية المقبلة.

في هذا السياق ليس خافيا ان حزب الله اعتمد سياسة قائمة على ان استواءه قوة اقليمية هو احد مداخل التوظيف السياسي في المعادلة الداخلية، ومنطلقا لاحراز مزيد من الامساك بمفاصل القرار الوطني السياسي الداخلي والخارجي، وفرض امر واقع دائم على وقع التطورات الاقليمية، وبحيث لا ينعقد استحقاق دستوري او سياسي في البلد، الا و ينبغي ان يعكس انتصار هذا المحور او أقله ان يبين تراجع المحور الداخلي والاقليمي المقابل. لقد بدا واضحا ان تشكيل الحكومة ،واقرار قانون الانتخابات النيابية ،ومعركة جرود عرسال، وفرص اعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وقضية عودة النازحين السوريين ان حزب الله يريد صوغ هذه الاستحقاقات والمحطات السياسية وفق ما يريد، وتحت سقف قواعد وشروط متحركة وفقا لازدياد الاختلال في موازين القوى على الارض وعلى وقع التطورات الاقليمية، والخطوط الحمراء التي يرسمها، مما طرح غير مرة سؤالا عما اذا كان هذا السلوك السياسي ينطلق من اقتناع بان ظروف التسوية التي الت الى انتخاب العماد عون رئيسا للجمهورية تأليف الحكومة قد تبدلت، وبالتالي انتفت مبررات وجودها، مما جعل حزب الله يتخذ خطوات ذات سقوف سياسية عالية غير آبه بالنتائج ولو ادت الى تفجير الحكومة.

هكذا بدت حركة حزب الله خلال هذه الاستحقاقات واضحة انطلاقا من سياسة الممر الالزامي التي اعتمدها، وهي سياسةلم تقتصر على انتخاب عون كممر الزامي لانتخاب الرئيس، بل تعدتها الى تشكيل الحكومة – تركيبة وعددا – ثم الى قانون الانتخاب في صيغته النسبية كممر الزامي لإقرار القانون، وجميع هذه الممرات الالزامية اظهرت حزب الله كوصي على العهد، وعلى سير العملية السياسبة برمتها، وبحيث يطلب من رئيس الحكومة التوقيع على تشكيل الحكومة، وعلى تمرير كل السياسات ليس الا، مما حول رئاسة الحكومة الى شاهد لا حول لها، كما يطلب من الدولة ان تتماهى معه وتتبناه، حتى ولو تعرضت لحصار اقتصادي، كل ذلك بصرف النظر عن الدستور، وعن موجبات التسوية السياسية، وانطلاقا من تكريس هيمنة القوة على الدستور والقانون والمؤسسات، خصوصا في ظل واقع ان القوى المناهضة لحزب الله فقدت القدرة على احداث اي مستوى من التوازن الداخلي، ولو في حده الادنى، وفي ظل انعدام ملامح المظلة الخارجية.
لقد اتاحت مرحلة التسوية التي أتت بالعماد عون رئيسا للجمهورية فرصة حقيقية لوضع مشروعه موضع التطبيق العملي، فكان ان تجسد هذا المشروع بكل صفاته وصيغته ، كمشروع هيمنة فئوية مذهبية على مقدرات الدولة اللبنانية من ناحية، وكمشروع لربط الوضع اللبناني بعجلة المشروع الايراني من ناحية ثانية.

اقرأ أيضاً: هشام جابر: على حزب الله الخروج من الحكومة لتجنيب لبنان الحرب

نحن اليوم امام معادلة سياسية واضحة ومن دون اي التباس، حزب الله تحول الى حاكم فعلي للبنان، ومن خلاله صارت ايران هي القوة التي تتحكم في السياسة اللبنانية، والسنية السياسية هي جزء داخلي من السياسة السعودية، والشيعية السياسية هي ذراع عسكرية وسياسية ايرانية، فيما تحول لبنان الى جبهة متقدمة مع المشروع الايراني.
عمليا وضعت الاستقالة لبنان في وضع صعب، من الناحية السياسية اعادت الاحتقان السني – الشيعي الى مرحلة السخونة، بعدفترة من السكون، فضلا عن ان بعض مضاعفات هذه الاستقالة يتمثل في اعادة شدشدة عصب االجمهور السني، واعادة لملمة زعماء الطائفة السنية في لبنان، وبحيث بات تكليف أي رئيس حكومة تشكيل حكومة جديدة دونه عقبات كبيرة، وقد تتكرر مرحلة تكليف تمام سلام حيث بقي اشهرا عدة دون القدرة على تشكيل حكومة، مما يدخل الوضهع اللبناني في فراغ حكومي ويضع كل الاستحقاقات الدستورية والسياسية والاقتصادية في مهب الريح.

واذا كان لبنان قد اصبح في عين العاصفة، فان الاستقالة اذا لم تكن جزءا من مشروع حرب اقليمية، فهي شكل من اشكال الانسحاب والاعلان عن تسليم السلطة لحزب الله بشكل مكشوف، وفي هذه الحالة يبدو ان مراهنة محور واشنطن الرياض انها تخير اللبنانيين بين الفوضى العارمة، واغراقه في اتون متاهة سيياسية، وحصاراقتصادي في ظل عقوبات قاسية سترتد على الوضع اللبناني برمته، وبين الاستمرار الحالي حيال موقع لبنان الاقليمي الجديد في احضان طهران.

لكن ضمن المؤشرات الظاهرة، فان الخيار العسكري والامني لن يقبل احد من القوى الغربية بخوضه، لان مفاعيله لن تنحصر في لبنان فقط، ويجوز الاستنتاج هنا ان ما حصل يمهد الطريق لجعل أي عدوان اسرائيلي على لبنان، بمثابة عملية جراحية يمكن ان تستهدف العتلة الاساسية للقطار الايراني الذي يتجول في المنطقة.

السابق
مايا دياب تغرّد في السياسة: «اللبناني عليه أن يكون إمّا إيرانياً أو سعودياً!»
التالي
العثور على جثة شابة في الربيع من عمرها في منزلها بجبيل