وزراء الحج إلى الشام

حل الوزراء اهلاً ووطأوا سهلاً.. بل سهولاً. السهول في سوريا على مدّ النظر. مدن مسطّحة. ما هُدم يحتاج إلى أشغال، ينتخي لها الوزير يوسف فنيانوس. إعادة تدوير سوريا بجغرافيتها، حدودها وديمغرافيتها يتولاها وزير الصناعة حسين الحاج حسن. كل المحروقات سيُعاد زرعها، فذهب الوزير غازي زعيتر من البقاع الأخضر لإعادة الاخضرار إلى قلب العروبة النابض. الزرع الجديد لن يسقى بماء، كل مجاري الانهر ملوّثة، حالها كحال الليطاني، والحلّ العاصي. يجني الوزراء زرعاً رووه بدماء السوريين، ويريدون الحلول في أول موسم القطاف، اقتصادياً عبر الوزير رائد خوري، ولإعادة الإعمار والهندسة المالية مع زيارة أخرى سيجريها الوزير علي حسن خليل. يريد بعض اللبنانيين العودة إلى صباهم، إلى ما قبل ست سنوات. كمن ينمو على الدم، ويعلو فوق الركام. تماماً، كمن يحرق وطناً ليشعل سيجارته، ثمة من احرق شعباً ويذهب للاستثمار في شعلة النار وطاقتها.

اقرأ أيضاً: عندما يجمع العالم على الأسد

لن تقف الزيارة عند هذا الحدّ. وزراء آخرون سيهمّون إلى العودة المظفّرة، سيعلنون أنهم عادوا بعد ضلال. تماماً، كما كان حالهم يوم ثورة، خلعوا خلالها معاطفهم وجلدهم، واعلنوا التوبة العائدة إلى حضن السيادة. سيعود هؤلاء، ليلتحّفوا معاطف العروبة، وعزّ الشرق أوّله دمشق. دمشق التي يعاد اختزالها منذ سنوات ست بحي المهاجرين، وبعض النقاط الأمنية. انتزعت الشام من الشام، هناك من اراد طيّ صفحات آلاف السنين من التاريخ، واختزال العاصمة التاريخية الأقدم، بقصر للمهاجرين، بعد هجرة السوريين، ومستشفى لكبار القوم وهراوات المهجِّرين، بمرقد، حواجز، وثلل من البعثيين عسكراً وموالين ومغلوبين.

يضيع الجوهر في النقاش وتقاذف الأفكار، كما ضاع عمر السوريين ومستقبلهم. يختزل مفهوم الانتصار أو الهزيمة كل القضية، يشعلانها والوقود لحم ودم وتاريخ. كله سيُدفن مع ما هدم، وسيعاد التدوير من بوابة التطبيع، هذه الخطوة الأولى في طريق وحدة المسار والمصير. من يسرع بالعودة إلى سوريا الأسد، يستعجل إعلان النصر المؤزر، ومن يعارض، يقف عاجزاً أمام لازمة ترافقه منذ النشأة السياسية، بأن الظروف الدولية والاقليمية تفرض بقاء الأسد، وتعيد لبنان إلى براثنه. يرفض هؤلاء الاعتراف بالهزيمة، يكابرون لكنهم يعيدون كل الاخفاقات إلى الواقعية، والإرادة الدولية. القضية، أبسط من كل هذه التحميلات، تُختصر بكلمة الاستلام أو العجز. العجز يغلبهم، يتمدد في حناياهم، إلى ملتقى مرتقب، حين تدعو الحاجة إلى تفعيل الظواهر الصوتية. ينفضون الغبار عن عجزهم، لعل الصوت يصل، ويتردد الصدى، في صناديق التصويت، المسألة ليست مكلفة، ولا مديدة، فترة بسيطة، ويعود القطّ إلى خنّاقه.

لن تقتصر الزيارة على خمسة وزراء، غيرهم كثير، سيحجون إلى الشام، سيطوفون حول قصر المهاجرين، وسيشربون ماء مكتب الأمن القومي. ندى علي مملوك، أعذب من زمزم، وأقرب. شرب الندى من رذاذ بردى، حيث هجر السكان الأصليون، بعدما تراكمت جثث المئات منهم في الوادي الرافد إلى دمشق، واصطبغت ماؤه بدمائهم. يستعذب هؤلاء احمرار الماء، كما حوّلوها في بيروت بفعل التلوث وإن غابت عنها الدماء.

أكثر من نصف الحكومة سيذهب إلى دمشق، سيحتفي هؤلاء بانتصارهم، فيما النصف الآخر سيغضّ الطرف. غير آبه بسياسة خارجية، يحصر اهتماماته في داخل، كلّ يغنّي على ليلاه، أو يعمل على مستواه. للقوي شأن العسكر والخارج، وللضعيف شؤون الداخل بتفاصيله وزواريبه ومحاصصاته. والإمعان في إشعار الضعيف بضعفه، والمهزوم بهزيمته، يتجلى في مفاعيل الزيارات المتتالية، ستكون المفاعيل أكثر مما هو متوقع. استقبالات الرسمية واحتفاءات شرفية، هي فرحة النظام التي لا توازيها فرحة أخرى. غمرة النشوة باستعادة لبنان، أكثر من استعادة حلب أو حمص أو أي محافظة أخرى، يشكّل لبنان حيّاً من أحيائها.

قبيل الإعلان عن تلقي الوزراء لهذه الدعوات، بحث الوزير حسين الحاج حسن الأمر مع رئيس الحكومة، وابلغه بأنه سيشارك في المعرض، وسيعمل على توقيع اتفاقيات مع الادارات السورية، لم يعترض الحريري، طالب بعدم طرح الأمر على مجلس الوزراء، لكن هناك من اراد عدم تمرير المسألة بسلاسة وبشكل سرّي، سرّب الخبر، وبدأ التداول به، ليطرح نائب رئيس الحكومة الامر على طاولة مجلس الوزراء مستغرباً، كيفية ذهاب الوزراء بدون الحصول على موافقة الحكومة، ردّ الحاج حسن بأنه سيذهب مهما كان القرار، فطلب الحريري شطب البند من المحضر.

ضاعت المسألة، كما هدرت دماء السوريين، انتهكت كرامة حكومة وصلاحياتها، كما انتهكت كرامات السوريين، واستُبيح قرار دولة كما استبيحت حرمات منازل السوريين، ومثلما يقف العالم متفرجّاً على افظع مجزرة في التاريخ القديم والحديث، تقف الحكومة اللبنانية كأرملة عاجزة سوى عن مراقبة من قتل بعلها بصمت ونكران. لن يصوّب الحريري على زيارة الوزراء إلى سوريا، كما هناك قرار لدى حزب الله بعدم التصويب على الحريري بشخصه، الحاجة الآن تقتضي المهادنة، والتعاطي بواقعية، ثمة حسابات انتخابية في بيروت وغيرها تفرض التهدئة والتشاور والتقارب، لا مكان لسوريا هنا. قبل الانتخابات بفترة، سيعود الخطاب التصعيدي، والتصويب على هكذا زيارات وعلاقات، أما بعدها، فلكل حادث حديث، طريق التطبيع ليست ببعيدة، وللبنانيين بانتخابات ٢٠٠٩ والسين سين خير دليل لإيقاظ التائبين.

السابق
«إيماسك»: تفاصيل عملية اغتيال المبحوح ودور ضاحي خلفان فيها
التالي
محافظ الشمال ينزل بنفسه لإزالة اليافطات المنددة بالزيارة إلى سوريا