مستقبل العولمة: أميركا تعود الى القلعة والصين تخطو خارج السور

الديمقراطية الغربية هرُمت، ومركز الثقل الاقتصادي ينتقل من الغرب الى الشرق. وعلى وقع ترنح الحكم الديمقراطي واقتراب الاقتصاد الاميركي من الكسوف، إختارت أميركا رئيسا سيعجل بذلك». الكلام للكاتب مايكل باور ضمن مقالة في «الفاينانشال تايمز» رأى فيها أن ذلك لن يعني نهاية الرأسمالية، لأنها أثبتت قدرتها على التأقلم والتكيف، واثقا من قدرتها على إيجاد نظام جديد يضمن بقاءها.

لقد كثرت في الفترة الاخيرة الكتابات والتساؤلات عن مصير العولمة ومستقبل النظام العالمي الحالي، الذي يمر بمرحلة انتقالية قد تغير وجه العالم، ومراكز القوى فيه. ما سينعكس بالضرورة على حياة وطريقة عيش الملايين من البشر. ولكن بقي التركيز على الغرب، والولايات المتحدة بالتحديد، كونها تاريخيا قلب العولمة ومحركها الرئيسي. وكونها تشهد هذه الأيام نوعا من الثورة عليها. كيف؟ ولماذا؟

دفعت الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة على مدى السنوات الماضية ثمن العولمة، تراجعا في الرواتب والمداخيل، وبطالة ارتبطت بتراجع قطاع الصناعة وفقدان الملايين لوظائفهم من جهة، والتطور في عالم التكنولوجيا والاتصالات من جهة اخرى. دونالد ترامب أنحى باللائمة على المصانع التي انتقلت من أميركا الى المكسيك والصين وغيرها، بحثا عن اليد العاملة الرخيصة. ألقى خطبا رنانة، وفتح جبهات مواجهة مع شركات كبرى مطالبا إياها بالعودة الى الوطن. حرّك مشاعر قومية كانت تستعر أصلا نارا من تحت رماد. إستفاد من غضب شعبي على إدارات سابقة عجزت عن حماية مواطنيها وتأمين رفاههم. واندفعت باتجاه الاندماج العالمي واقتصاد السوق في الخارج، في حين كانت الثقافة الاستهلاكية هي المسيطرة في الداخل. وقد أتى ذلك على حساب قيم العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين.

اقرأ ايضاً : الصين في حربها الناعمة مع أميركا

مستمرا في رفع راية «أميركا أولا»، إنسحب ترامب، عندما وطأت أقدامه البيت الابيض، من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، رغم كل ما سمعناه من كلام أميركي في السنوات السابقة عن الاهمية الاستراتيجية للاستدارة نحو الباسفيك. لا حماسة أيضا لمشروع اتفاقية شراكة واستثمار عبر الاطلسي، ما زالت تحول دونها العديد من العقبات. بقي دافع الضرائب الأميركي «أولا» نصب أعين الرئيس عندما كان يتحدث في بروكسيل أمام قادة الناتو، محملا دول الحلف مسؤولية التمويل. وهنا إشارة أيضا الى الضجة التي أثيرت حول عدم تأييد الرئيس الأميركي بشكل واضح للمادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تقول إن أي اعتداء على أحد الأعضاء يعني الاعتداء على الجميع. هذه المواقف، مضافة الى الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، دقت ناقوس الخطر عند منظّري الحفاظ ليس فقط على العولمة، بل أيضا على القيادة الاميركية للنظام العالمي.

أمام ما تقدم، هل نحن أمام انكفاء وتقوقع للدور الأميركي؟ وماذا يعني ذلك إذا ما حصل؟

المتابع للسياسة الأميركية يلحظ ابتعادا عن بعض الشعارات الانتخابية، واقترابا من نهج براغماتي قد يترك بصماته على توجهات مستقبلية للادارة. ولكن حتى الساعة، يبدو واضحا غياب استراتيجية بعيدة المدى، والاكتفاء بردات فعل على طريقة «نقطع الجسر عندما نصل اليه». على كل، يمكن الاستنتاج حتى الساعة، أن إدارة ترامب لا تنوي الانكفاء الكامل، أو حتى التحكم عن بعد بما يجري، بل التدخل وقت الحاجة فقط، ولتصويب الامور بما تقتضيه المصالح الاميركية، دون الانغماس التام. الدليل على ذلك مثلا، ضربة الشعيرات في سوريا، التي أعادت رسم خطوط أميركية حمراء، كانت أضحت باهتة في عهد الادارة السابقة.

داخليا، يواجه ترامب أزمات متلاحقة، أبرزها موضوع التدخل الروسي في الانتخابات وتداعياته، وما يمكن أن يُخلّفه من تعميق لحالة استقطاب يعيشها المجتمع الاميركي. هذا المجتمع سيتأثر أيضا بقرارات زيادة ميزانية الدفاع وخفض بعض الضرائب، والتوقعات هنا تشير الى أنها قد تفاقم من أزمة اقتصادية كان ترامب وعد بحلها. ذلك على الرغم من الاتفاقيات الثنائية التي نجح بالحصول عليها، وتشكل رافدا للاقتصاد الاميركي قد يصلح مسكّنا للأزمة، دون ان يكفي لعلاجها. هذا دون إغفال محاولات فرض منع سفر مواطني بعض الدول الى أميركا، والاستمرار في تسعير مشاعر القلق من المهاجرين واللاجئين، واعتبار أن الحل يكمن في بناء الأسوار.

حالة تخبط إذا تعيشها الامبراطورية الأميركية، وحالها كحال الكثير من الدول-الأمم، التي اضطرت الى التنازل رويدا رويدا عن سيادتها لصالح الرأسمالية والاندماج في النظام العالمي، بعدما انهارت الحدود الاقتصادية والتجارية. هذا الامر، جعلها عاجزة عن تأمين ما قامت على أساسه من قيم عدالة اجتماعية ومساواة بين أفراد يتمتعون بحقوق المواطنة، بسبب فقدانها السيطرة على الاقتصاد والموارد. المتضررون صبّوا عليها جام غضبهم، ولجأوا الى مجتمعات محلية قائمة على أساس العرق أو اللغة أو الدين أو الانتماء الى بلدان أصلية، ما زاد الشروخ في المجتمع، ورفع منسوب التوتر والحوادث. أما المستفيدون، وهم القلة التي أضحت تمسك بزمام الاقتصاد العالمي ويُقال إن عددها لا يتخطى الستة آلاف شخص، فقد وضعوا مصلحتهم أولا، وأصبحت تلك الدول بالنسبة اليهم عقبة أمام تطور العولمة الرأسمالية بأشكال جديدة، في ظل نظام عالمي جديد.

اقرأ أيضاً : سيلامس 30 وربّما 15 دولاراً: انهيار أسعار النفط سيدمّر الاقتصاد العالمي

لمن ستكون الكلمة الأخيرة؟ من سيتسلم قمرة القيادة في النظام العالمي الذي نعيش هذه الأيام مرحلة مخاضه؟ الأنظار تتجه في المدى البعيد الى العملاق الصيني الذي يخطو ببطء، ولكن بثبات، نحو مزيد من الانخراط في العالم وفق عولمة على قياسه. وهنا إشارة ليس فقط الى طريق الحرير الجديد، والمؤسسات المالية العالمية التي يتم انشاؤها، والكتلة الديمغرافية الهائلة، بل أيضا الى التزام باتفاق باريس للمناخ، واستعداد لملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأميركي من الاتفاقية. الهند أيضا قد تكون لاعبا أساسيا مؤهلا لاقترابها أصلا من مفاهيم الرأسمالية العالمية. والملفت أنه ولأول مرة في التاريخ نلحظ صعودا للقوى الآسيوية الثلاث: الصين والهند واليابان في نفس الوقت الذي يتراجع فيه الغرب.

طبعا، ما تقدم هو مسارات ما زالت تحبو، وأمامنا سنوات قد تكون عجافا، وقد نشهد خلالها العديد من المفاجآت، ستعتمد على السياسات التي يمكن آن تُتّبع. وهنا التساؤل عن البلدان النامية، وموقعها ودورها في أي نظام عالمي مستقبلي. بالطبع، الكثير من هذه الدول، خاصة في منطقتنا، غارقة في بحور النزاعات والصراعات ورد الفعل، وغائبة عن الفعل. فهل تستفيق لمواجهة التحديات الماثلة أمامها، والبحث عن شقوق تتيح لها القيام بوثبات تختصر من خلالها تاريخا غابت عنه، للدخول في مستقبل لن ينتظرها؟

السابق
من بعد تمجيده للعهد الجديد… سمير صفير ينقلب عليه!
التالي
الحرس الثوري الإيراني: أطلقنا الصواريخ على دير الزور بالتنسيق مع الحكومة السورية