أنا منحاز إلى النجف

طالما سئلنا عن الفرق بين الحوزة العلمية الدينية الشيعية في النجف الأشرف والحوزة العلمية الدينية في قم المقدسة، والملاحظ أن البعض لا يرى فرقاً بين هاتين الجامعتين نظراً لكون مناهج الدراسة الدينية بين الحوزتين متماثلة أو متشابهة على الأقل، ولكن من جهتي – وهذا ما يشاركني فيه كثير من الأخوة العلماء – فإني أعتقد بأن ثمة فروقاً، وهي فروق قد تكون طبيعية إذا نظرنا الى الإطار الذي تقع فيه كل من الجامعتين، أو الحوزتين، وانتبهنا إلى أن حوزة أو دائرة مختصة بشؤون العلم والمعرفة لا بد لها أن تتأثر وتؤثر في المحيط الذي توجد فيه، وبالنظر إلى الحوزتين المذكورتين، فإن أبرز ما يمكن أن نلحظه في اختلاف المحيط الذي تقعان فيه، هو كون النجف الأشرف تقع في محيط عربي بينما الأخرى تقع في محيط بشري وفكري وثقافي غير عربي، وإذا نحن تعمقنا في مؤثرات اللغة على المعرفة وخاصة إذا كانت هذه المعرفة فرعاً من العلوم الإنسانية، وكانت اللغة ذات أثر فعال في موضوعاتها ومسائلها فإننا نعتبر حوزة النجف أكثر ارتباطاً لجهة العلوم التي تقدمها باللغة العربية وخصائصها وڤمميزاتها، وهذا ليس أمراً غريباً فالإسلام تجسد بالقرآن الكريم، وهو ذروة اللغة العربية من جهة، كما أن بداية العلوم الشرعية وتطورها كانت مادتها اللغوية هي العربية، ويمكنني أن أذهب إلى أبعد من ذلك، فأشير إلى أن اللغة العربية التي تم إنتاج العلوم الإسلامية بواسطتها كانت لغة بسيطة، وفطرية إلى حد كبير، وعندما تترجم اللغة العربية أو أي لغة أخرى، إلى لغة ثانية سوف تخسر بالتأكيد الكثير من روحها ومن خصائصها على النحو الذي يجعل النص المترجم نصاً ضعيفاً وغير مؤهل تأهيلاً كاملاً لنقل المحتوى الذي تتضمنه هذه اللغة، وهذا ما حصل فعلاً عندما تم نقل العلوم الشرعية من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية.

إقرأ أيضاً:  السيد محمد حسن الامين (2):الحرية الفكرية أطلقها الإسلام وقيّدها الحكام‏

أما بشأن اللغة الفارسية، فلا بد أن نلحظ أمراً يتعلق بتراث هذه اللغة، وبما يحتشد في هذا التراث من خصائص تتعلق بالمضمون وبأسلوب الأداء، فإن هذه الخصائص وهذا الأسلوب، وهو يؤدي المفاهيم الجديدة بالنسبة له، وهي مفاهيم الإسلام وشريعته لا بد أن يتأثر بروح اللغة الفارسية وبحساسيتها، وهذا ما نلاحظه ليس في اللغة الفارسية التي كتب فيها علماء الفرس، بل نلاحظه في اللغة العربية التي كتب فيها علماء فارسيون لجهة ضعف الروح العربية، وبدت لغة هؤلاء العلماء وكأنها ترجمة من الفارسية إلى العربية، ومن خصائص اللغة الفارسية وتراثها العلاقة بالموضوعات الفلسفية وما تتضمنه من تعقيدات ذهنية وفكرية، وهذا ما انعكس مع الأسف على بعض كتب الدراسات الأصولية والفقهية التي تدرس في جامعة النجف نظراً لشدة تأثير العلماء الفرس حتى على حوزة النجف، وهذا الأمر وإن يكن فيه بعض الإيجابيات لجهة الإستفادة من ثقافة اللغة الفارسية إلا أنه جعل العلوم الشرعية وخاصة علم الأصول علماً معقداً ومليئاً بكثير من الزوائد، مزجت إلى حد كبير بينه وبين المسائل الفلسفية، وفي كل الأحوال فإننا نقر بأن الإسلام رسالة وخطاب لجميع الأمم، ومن الطبيعي أن تتلقى الأمم هذه الرسالة بأسلوبها الخاص، متأثرة بتراثها الخاص أيضاً، سواء كانت هذه اللغة عربية أو فارسية أو حتى التلقي بلغات أخرى، ولكن يبقى أن اللغة العربية هي اللغة الأم التي نزل فيها القرآن، والتي كانت المادة الأولى لنشوء العلوم الإسلامية بدليل أن الفرس وغيرهم كانوا مضطرين لتعلم اللغة العربية من أجل فهم القرآن والحديث النبوي، وسائر العلوم التي نشأت في القرون الثلاثة الأولى لنزول الإسلام، ومادتها اللغة العربية.

إقرأ أيضاً : السيد محمد حسن الامين: موجة الابتعاد عن الدين سببها التطرّف الإسلامي
فيما تقدم أرجو أن لا ينظر إلى هذه الرؤية بوصفها نظرة قومية عنصرية، فليس من المقصود أن يتخلى المسلم غير العربي عن لغته أو عن انتمائه القومي، بل لا بد من الإعتراف أن علماء وفلاسفة ومحدثين من الفرس والترك وغيرهم قد أضافوا الكثير إلى العلوم الإسلامية، ولكن ذلك لا يمنع أن نشدد على تعريب علومنا الإسلامية، وهذا في نظرنا لا يمكن أن يتم إلا في محيط عربي وبيئة عربية، والنجف بالمقارنة إلى قم هي المحيط الأصلح بنظرنا لتحقيق هذا الأمر، فإذا أضفنا هذه المعطيات إلى معطى آخر، وهو السبق الزمني الطويل لقيام جامعة النجف الأشرف، وتأسيسها على يد الشيخ الطوسي، منذ أكثر من ألف سنة، وقبل زمن التشيع في إيران، وبالتالي تأخر قيام الحوزة العلمية في قم بمئات السنين عن حوزة النجف، فإننا من أجل ذلك منحازون لا إلى إلغاء حوزة قم، بل إلى أولوية حوزة النجف الأشرف.

السابق
هاشم صفي الدين على لائحة الإرهاب السعودية
التالي
فتوحي: لعدم الإنجرار وراء رهانات نتائجها خاسرة مسبقاً!