الحرب والحرية وأحلام العصافير

قالت عصفورة الشوك لفرخها وهي تدغدغه :استعد، غداًأبدأ تعليمك الطيران.
نقرها بمنقاره نقرة في بطنها وقال: لا أريد ان أطير، كل الأولاد الذين مروا من هنا ورأوا عشنا نظروا إليّبعطف وتركوني لأني وحيد، كانوا أرحم من ذلك الحمار الذي أفقدني إخوتي بصوته الكريه.

اقرأ أيضاً: الاعتدال بين الطمأنينة والقلق

كان في أيديهم بنادق صيد وبنادق حرب، تشاوروا وقرروا انتظار عودتك ليصطادوك لاحقاً بعد أن تكوني قد ربيتني وأخذوني الى القفص الذي سوف يضعونه في مرأى منك فتأتين لزيارتي ويصطادونك بسهولة…إذن فمصيري الى القفص، فلماذا أتعب نفسي بتعلم الطيران؟ دبري رأسك ودعيني لمصيري.
قالت العصفورة :أعلمك الطيران بسرعة، نظام مرصوص، نبدأ الآن، وأنت تشد همتك حتى نطير معاً وننجو…
قال الفرخ :عبث…أين نهرب؟ وطننا صغير المساحة والسلاح في أيدي الكبار والصغار، لقد أصبح بإمكان أي مواطن أن يصطاد بطلقة واحدة نوايا وأحلام وعواطف واسرار وآلام وآمال من يشاء ساعة يشاء من دون أن يراه أحد، من دون أن يرى نفسه أو يرى القتيل نفسه، إنهم يقتلون عشرين أسرة دفعة واحدة، فيها نساء حوامل، وعرائس، وصبايا تحب، وصبيان ينتظرون أفلام الكارتون، ورضع يبكون فيما أمهاتهم مشغولات بتحضير حليب المساء لهم، وعجائز لا يفرقن بين لينين وبينوشيه، وعمال عادوا لتوهم ونزعوا جواربهم ريثما تأتي الزوجة بمغطس الماء الساخن، وتلاميذ في الصفوف النهائية من الدراسة الثانوية ينتظرون نهاية العام الدراسي ليدخلوا الجامعة ويقرؤوا شعراً كثيراً ويشمخوا على بنات الحي أو القرية اللاتي يبادلنهم بالود الصدود على رغبة بالوصل والاعتراف، ومارة لا يعرف الواحد منهم الآخر ولا الآخر يعرفه، يقتلونهم جميعاً بضغطة خفيفة واحدة من سبابة مبتورة أو مقطوعة العصب، لأنهم يريدون قتل رجل واحد.وأضاف الفرخ :اتركيني، لا تتعبي نفسك، وأنا لا أريد تعباً، لماذا أتعلم الطيران ومصيري الى القفص؟ وهو أفضل من الموت بطلقة طائشة أو عاقلة!
قالت العصفورة الأم وهي تضحك وتحاول أن توهم نفسها بأنه مزاح وكلام عيال:
يا ويلي من أين لك هذه الأفكار والأخبار؟ ستقول أيضاًإنك لن تتعلم الزقزقة.تراث الأجداد، ولن تعرض نفسك لشمس الصباح حتى تزهو ألوان ريشك ويصبح منقارك بلون الورد الجوري!
قال الفرخ :العيال كبرت يا ماما، لم يعد هناك أسرار، وأصبح بإمكان الباشق أن يراك وأنت مشغولة ليلًا بقضاء حاجتك، وهو ليس مضطراًأن يكلف نفسه عناء الطيران والانقضاض عليك من شاهق لافتراسك، بل يوجه إليك نفساً من أنفاسه ينزلق على أشعة (ليزر) ويصل إلى دماغك في ثوان فيسلبك إرادتك، وتذهبين إليه طوعاً وعلى عجل وتسألينه ما إذا كان يفضل التهامك بريشك أو من دونه، وحتى لا تزعجي خاطره تنتفين ريشك بنفسك، وتتمددين بين مخالبه ليقطعك كيف يشاء، وتعتذرين لعدم قدرتك على تقطيع نفسك بنفسك…أما عن الزقزقة فلا داعي للتعب، إن باستطاعتك أن تعلميني لوناً واحداً – كلاسيك – بينما في القفص يعلمونني بالكاسيت ألواناً متعددة الجنسيات من الديسكو والراب والتكنو والجاز.وأما عن زهو ريشي وورد منقاري فلا تقلقي فما زال في هذه المدن المكتظة فسحات تتسلل إليها الشمس. سوف تأتي الشمس إليّتزورني وتلمع ريشتي فلماذا أذهب إليها؟
قالت العصفورة:يا ولدي الشمس على الشجرة في البرية مع نسيمات تهب وتداعب أغصان (الزنزلخت) غير الشمس في بيت من الباطون المسلح في حي متداع في مدينة محترقة… وما يزال الاحتراق فيها يحترق وسيبقى يحترق إلى أن يفقد قابلية الاحتراق فيبحثون عن مدينة أخرى يحرقونها.

الحرية
قال الولد: أنت بطرانة يا ماما، أي شجر هذا؟ ألا ترين إلى الباطون كيف يزحف؟ ان احلامك ماضوية، بينما الواقع يسرع خطاه إلى المستقبل، إلى ما بعد الحداثة.ولو يا ماما…ألم يستبدلوا بحليب الأمهات العائدات من الحصاد على شوق لإرضاع أولادهن، علب حليب تاترا وكيكوز – حسب الطبقة – وبالهندباء البرية أخرى مدجنة، وبصوت المؤذن الآتي مثل الندى، الأذان المسجل ومكبر الصوت الكهربائي، وبمزهريات الحبق والدحنون صور القيادات والكوادر والشهداء الذين عرفوا لماذا ماتوا والذين لم يعرفوا ولا يبدو أنهم سيعرفون…وبالحب والمواعيد السرية والانتظار الجميل، التعرف على العروس أو العريس صدفة، على الصورة عند بائع الأحذية، والعروس أو العريس غائبان في أم القيوين أو سيدني أو كوبنهاغن أو بروناي، ويتم إجراء مراسيم الزواج وكالة في المحكمة، في صباح اليوم التالي كما يتم تسجيل سيارة في دائرة الميكانيك أو عضو جديد في حزب جديد وقد مضت ليلة واحدة على طرد العضو هذا من حزب آخر لأسباب مسلكية… ولا زغاريد ولا شراب ورد ولا ملبس ملفوفاً في محارم الورق، ولا منافسة بين أم العريس وأم العروس.. ولا غمز ولا لمز ولا فقش ولا طقش ولا! كذلك استحدثوا نوعاً من الاشجار التي تعيش في الظل، لا تحتاج إلى الشمس، ولا تحتاج الشمس إليها، ولا الظل، وعندما ضاقت بها البيوت وهي مدجنة مطيعة تحكموا بنموها طولاً وعرضاً وعمقاً، وحتى بأنفاسها.وإذا لم يكن بإمكان الواحد منهم أن يقتني شجرة من هذا النوع عوض بالبلاستيك… لماذا البحث عن الشمس والشجر وحبات الدخن والقنبز والمخبأ الذي يواري العصافير عن عيون الأولاد الأشقياء…وانا يصلني كل شيء من دون أي جهد أوعناء؟ وانتبهت العصفورة الوالدة على لغط.نظرت. رأت صبيين قادمين باتجاه الشجرة، سكتت وغمزت لفرخها بعينها وغمزت بطنه بمنقارها ليسكت فسكت.
جلس الصبيان يتحاوران.
قال الأول: مصيبة يا أخي، السنة الماضية كان قرب دار الحاج أحمد أكثر من خمس شجرات مشمش، وكنا نسرق ما يكفينا ويبقى لهم ما يكفيهم…قصوها؟
قال الثاني: الأرض تضيق والبناء يتسع والهجرة من المدينة إلى الريف مستمرة بسبب الحرب، لماذا لا يقيمون وحدة عربية؟ أسمع أن البلاد العربية واسعة وخصبة وفيها نفط وسكانها قليلون وشجرها كثير…
قال الأول : وحدة؟ يعني تريد أن يصبح كل الرؤساء والأعلام واحداً؟ وتلفزيون واحد…لا.. ليس حسناً، والذين يحبون أن يكونوا رؤساء في المستقبل ماذا نفعل بهم؟ نحن بحاجة إلى تجزئة لتلبية كل الرغبات القومية. قال الثاني: لو استطعت الوصول إلى الرؤساء لألقيت عليهم هذه القنبلة. وتحسس قنبلة يدوية متدلية من وسطه…
قال الأول: ومن أين أتيت بها؟ هجومية هي أم دفاعية؟
قال الثاني: دفاعية (رمانة) صادرتها من جعبة أخي الذي يعمل مرافقاً لمثقف يعمل في السياسة، أخي لديه الكثير وفي المرة القادمة سوف أصادر (صاروخ كاتيوشا).
قال الأول: يعني سرقتها!
قال الثاني: لا، صادرتها.
قال الأول: ما رأيك وغداً عيد الفطر، لو ربطناها بذيل هرة أو كلب سائب وفجرناها به أمام منزل الحاج أحمد عقوبة له على قطع شجرات المشمش؟ وحانت منه التفاتة إلى العش فقال: هذا عش حسون، انظر إلى ذيل العصفورة تعال نفجر القنبلة في العش.

اقرأ أيضاً: الأمهات والحرب

لم تصدق الحسونة عصفورة الشوك ما سمعت ولم تطر، ولو طارت لطارت وحدها وبقي فرخها الذي لم يتعلم الطيران بعد.
تناول الولد القنبلة. نزع مسمار أمانها، وقال لرفيقه: لنبتعد ونرمها من وراء الحائط ذاك، لأنها دفاعية ولا بد من ساتر… أرادا أن يبتعدا.. انفتلت قدم حامل القنبلة على كومة تراب هشة، انحلت الكتلة تحت قدمه، سقط أرضاً وانفجرت القنبلة.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
ترامب وجه هتلر في أميركا
التالي
ترامب قَصَدَنا نحن …المسيحيين!