محكمة أخلاقيّة لإدانة «باراك أوباما».. كمجرم حرب!

اليوم يخرج "باراك أوباما" من البيت الأبيض ، بعد ان كان في منصبه كرئيس أقوى دولةٍ في العالم ، أبرز شهود الزور على أعظم عدوانٍ ارتُكب ضد الشعب السوري على مدار ست سنوات . اليوم يرحل "باراك أوباما" عن السلطة ، ويداهُ ملطّختان بدم الشعب الذي تركه عمداً لقدره الأسود ، ينزف دماً وتهجيراً وقهراً وظلماً، رغم أنّ كل ذنبه أنه ثار على الظلم والاستبداد والطغيان ، وطالب بالكرامة والعدالة والحرية والديموقراطية وتداول السلطة وغيرها من القيم والمبادئ التي تدّعي الولايات المتحدة أنها الرمز والتجسيد الصارخ لها ، والمدافع الأول عن تصديرها وترسيخيها في كل الثقافات البشرية الأخرى .

كان “برتراند راسل” (١٨٧٢ – ١٩٧٠) الفيلسوف البريطاني، وأبرز مؤسّسي الفلسفة التحليلية، داعيةَ سلامٍ وناشطاً سياسياً بارزاً في مناهضة الامبريالية الأمريكية. ناصر القضية الفلسطينية، وانتقد الأنظمة الشمولية الستالينية، وقام بحملات ضد أدولف هتلر، وهاجم تورّط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. وقد أمضى فترة طويلة من حياته، في خدمة عدة قضايا سياسية وانسانية، على رأسها معارضة الحروب ونزع الأسلحة النووية. في عام ١٩٥٥ ظهر البيان المشترك لراسل مع العالم الفيزيائي “ألبرت أينشتاين”، وكان بمنزلة وثيقة مهمة، حملت توقيع إحدى عشر شخصية من أبرز المفكّرين وعلماء الذرة، ودعت الى نزع الأسلحة النووية.

اقرأ أيضاً: عقيدة أوباما: ترجمة حرفية للمقال الذي شغل العالم

في عام ١٩٦٨ ناشد “راسل” الأمين العام للأمم المتحدة، كي يدعم لجنة جرائم حرب دولية، للتحقيق في جرائم الولايات المتحدة في جنوب فيتنام . ثم بادر بالتعاون مع نخبة من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والشخصيات الحقوقية والإعتبارية، على رأسهم الفيلسوف والأديب الفرنسي “جان بول سارتر”، الى تأسيس محكمةٍ أخلاقية أو “محكمة الضمير العالمي” أو ما بات يُعرف بإسم “محكمة راسل”. وكانت مهمتها الأولى، مقاضاة الولايات المتحدة الأميركية على جرائمها في حرب فييتنام التي راح ضحيتها مئات الألوف من المدنيين الأبرياء.

وعلى الرغم من ان هذه المحكمة الشعبية لا تمتلك قوة القانون الملزم، إلا أن أدلّة الإدانة والوثائق التي تجمعها عن جرائم الحروب والانتهاكات المرتكبة فيها، تُعتبر عملاً ضروري من أجل إجبار الدول، على اتخاذ اجراءات قانونية وخطوات عملية لمحاكمة المجرمين، ومن أجل إيقاظ واستنهاض الضمير الانساني. فالمحكمة الصورية، التي تشرف عليها هيئة من أهم القضاة والحقوقيين والخبراء القانونيين من مختلف الدول، إنما تسعى من خلال محاكماتها، الى توفير منبرٍ لصرخات ضحايا الحروب، وإلى لفت انتباه الرأي العام العالمي إلى مدى فظاعة الجرائم التي تُرتكب بحق الشعوب، والقيام بتسجيل تلك الجرائم في وجدان وذاكرة العالم.

اذن، ليست هذه المحكمة سوى “محكمة أخلاقية” ذات قيمة رمزية، لأنها لا تملك أيّ سلطة إلزامية على الإطلاق، وإن كانت تلتزم بالقوانين والمواثيق الدولية كمرجعيةٍ لها في محاكماتها، بالإضافة إلى استخدامها المعايير الدولية في تلك المحاكمات، من حيثُ طريقة توثيق جرائم الحرب وتوجيه الاتهامات بمنتهى الشفافية والحيادية والمصداقية.

ولقد عقدت هذه المحكمة عدة جلسات محاكمة في عدد من الدول ، أدانت خلالها دولاً ورؤوساء على جرائم ارتكبوها. فقد أدانت الرئيس الأمريكي ليندون جونسون (الذي ارتفع في عهده عدد العسكريين الأمريكيين الموجودين في فيتنام، الى نصف مليون جندي) على جرائمه المروّعة في فييتنام ، وأصدرت حُكم إدانة على اسرائيل بسبب عدوانها اللاإنساني المتواصل على الشعب الفلسطيني، وحربها على لبنان في عام ٢٠٠٦ ، وكذلك أدانت الرئيس الأمريكي “جورج بوش” ورئيس الوزراء البريطاني “توني بلير”، على الجرائم التي ارتكباها أثناء غزو العراق في عام ٢٠٠٣، وأدانت الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” والرئيس الأوكراني “بيترو بوروشينكو” والأمين العام لحلف شمال الأطلسي “راسموسن”، بتهمة ارتكاب جرائم في أوكرانيا.

ورغم انّ الدول العظمى قد عمدت الى الحدّ من تأثير وفاعلية الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة، وذلك بحصرها الحقّ بإصدار أحكام الاتهام والإدانة، بالمحكمة الجنائية الدولية ، وبإرادات الدول العظمى التي تملك في مجلس الأمن، حق استخدام الڤيتو على أيّ قرار يعارض مصالحها؛ ورغم أن “محكمة راسل” لا تمثل أكثر من قوة أخلاقية، وأحكامها القانونية غير ملزمة بتاتاً لأي طرفٍ أو دولة، إلا أن عقد هذه المحكمة تظلّ واحدةً من أهمّ نقاط الدعم للقضايا العادلة أمام الرأي العالمي، وذلك بسبب مناصرتها الأطراف المضطهدة والمظلومة في العالم، بعيداً عن الضغوط السياسية التي تتم ممارستها لإفشال أي مسعى لتحقيق العدالة الحقيقية، أو لإنصاف الضحايا، أو معاقبة الجناة على ما اقترفوه من جرائم ترقى الى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. ومن هنا تأتي أهمية أحكامها الأخلاقية والسياسية والقانونية القادرة على المساهمة في بناء عالم يسوده السلام والعدالة، ويخلو من العنف والحروب.

فلماذا لم يتداعى المثقفون والمفكرون والنخب من أصحاب الضمائر العرب، الى إحياء إرث “راسل”، والقيام بعقد محكمةٍ أخلاقية مماثلة، وإطلاق حملةٍ لمحاكمة مجرمي الحرب من قادة ورؤوساء ممَن شاركوا في الحرب السورية، خصوصاً بوجود وفرة غزيرة وغير مسبوقة، من الأدلٌة والبراهين الموثّقة والمتلفزة التي تدين انتهاكاتهم وجرائمهم؟! ألا تستحق تلك الأطراف (الأسد، الخامنئي، بوتين، أوباما) التي ارتكبت أو سهّلت أو غطّت أو تعامت عن ارتكاب المجازر التي راح ضحيتها الملايين من السوريين، بين قتيل وجريح ومهجّر، عقْدَ “محكمةٍ للضمير” كتحدٍ مباشر لصمت وعجز وتخاذل المؤسسات الدولية، بغية كشف حقيقة ما جرى من فظاعات وشناعات وانتهاكات، تمهيداً لإدانة جميع المتورّطين في الحرب السورية، كمجرمي حرب؟!

ألا يستحق “بشّار الأسد” كرئيس دولةٍ ديكتاتوري تفنّن في قتل شعبه بالبراميل المتفجّرة والأسلحة الكيميائية، عقد “محكمةً شعبية” تدينه وتصنّفه كمجرم حرب؟!

ألا يستحق “الخامنئي” الذي أمر ميليشياته بتهجير مدنيين سوريين ينتمون الى طائفةٍ معينة من أراضيهم قسراً، للإتيان بآخرين ينتمون الى طائفة أخرى، بغية تحقيق مشاريع توسعية ذات طابع طائفي ومذهبي، عقد “محكمة أخلاقية” تعرّي عنف النظام الإيراني المذهبي وهمجيته، وتتهم قادته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟!

فلاديمير بوتين

ألا يستحقّ “فلاديمير بوتين” عقْد “محكمة أخلاقية شعبية” بديلة عن إرادات الدول ومصالحها وأنانياتها، كي تجرّمه وتصنّفه كمجرم حربٍ بعدما ضُبط متلبّساً وهو يستخدم سياسة الأرض المحروقة ضد الأبرياء، ويقصف بطائراته الحربية بيوت الآمنين والمستشفيات!

ألا يستحقّ “باراك أوباما” عقد “محكمة أخلاقية” تفضح جريمة الصمت واللامبالاة التي انتهجهها حيال الإبادة الجماعية التي حصلت وتحصل في سوريا تحت ناظريه؛ وتدين امتناعه عن اتخاذ أيّ خطوات عملية جديّة لوقف شلّال الدم والعنف والتطرف الذي انفجر وتنامى وتمدّد تحت ناظريه؛ وتخلّد في سجّلاته سقوطه الأخلاقي والقيمي وموت ضميره وحسّه الانساني؟!

بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ، خرج علينا الكاتب الامريكي “فرنسيس فوكوياما” ليبّشرنا بنهاية التاريخ وانتصار النموذج الديمقراطي. لقد أدّت الثورة السورية التي اندلعت في شباط من عام ٢٠١١، الى انفجار موجاتٍ عاتية من العنف والتطرّف والغلوّ والوحشية، وما كان ذلك ليحدث لولا موت الضمير العالمي واندثار التعاطف الانساني وإفلاس الأخلاق الرأسمالية المتوحشة.

اليوم يغادر أوباما حصنه الحصين، ولكنه لن يستطع مغادرة سجّلات ذاكرة التاريخ التي ستذكره كمجرم حربٍ تسبّبت سلبيته وتخاذله ولاإنسانيته، بإشعال منطقة الشرق الأوسط بالحرائق، وبخلق أزمةٍ عالمية، وبكل المآسٍي والمجازر والتطهير المذهبي والجرائم ضد الإنسانية التي طالت الشعب السوري، بسبب النفاق السياسي العالمي العظيم.

اقرأ أيضاً: فيصل القاسم: أوباما اخطر رؤساء اميركا

في عام ١٩٧٠، كتب “برتراند راسل” ما يلي: “قيل لنا مراراً وتكراراً إنه يجب التعاطف مع إسرائيل، وذلك بسبب معاناة اليهود في أوروبا على أيدي النازيين. الحقيقة إنّ ما تفعله إسرائيل اليوم، لا يمكن التغاضي عنه، وإنّ إثارة أهوال الماضي من أجل تبرير أهوال الحاضر، هو نفاق عظيم”!

السابق
السبب وراء حظر الطيران فوق مكة؟  
التالي
من هو سعد ريشا؟