آخر الجسر

هاني فحص

أنست في جبتي سعة أغرتني بالاتساع، لم تُطبق جبتي على أضلعي، كان صدري يضيق بأمور أخرى، بالخطاب المتعالي الذي يرفع التقوى والورع الى مصاف أعلى من المقدور، ثم يهبط بالفعل والسلوك والهم والاهتمام إلى دونية تجعلك حزيناً ومحبطاً ويائساً مغصوصاً ونادماً، ما الذي ألحقني بهذا الركب الذي يختلط فيه ويلتبس الحصى باللؤلؤ ويشتبه الحق بالباطل، وتصبح البطالة فعالة والفعالة بطالة ؟ ولكني قررت الوفاء لمنبتي متحملاً عقاب الأهل الذين لم يعلمهم أحد ولم يعودهم أحد على أن التواضع والاندماج لا يأتيان إلا عن محبة وقوة، وأنهما إغراء بالمحبة والاحتفاء لا الاستهانة والنكران.

اقرأ أيضاً: أتذكر لأحيا وأحلم – أنا قانون الانتخاب –

لقد بقيت المساحة العامة في تكويني الفكري والوجداني غالبة على خصوصيات الموقع ومستلزماته الوظيفية وضرائبه الباهظة وتعقيداته المرة. ولم تكد تمضي سنة واحدة على مواظبتي على إمامة الجماعة في جامع القرية المبني من حجارتها غير المقصبة وبترابها الذهبي والمسقوف بأخشاب من زيتونها (المعني) حتى تبين لي أن المحراب هو مكان أو فضاء للوصل لا للفصل، وأن الصلة بالله تعالى، وهو في غنى عنها، لا يمكن أن تتم أو تتوثق أو تدوم أو تزهر أو تثمر من خارج الجماعة، كل الجماعة، بل من داخلها، لا بلحاظ عصبيتها بل بلحاظ همومها وأشواقها وأوجاعها وحاجاتها الحياتية والمعنوية.
وتساءلت، وما زلت أسأل وأتساءل، عن إمكانية دخول الجنة وحدي، فنبهني المعري.
” ولو أني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا”.
والتمست العذر لأبي فراس الذي قال في لحظة ضيق لم يطقها، ربما لأنه كان من أسرة حاكمة، قال:
” معللتي بالوعد والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر ”
ودلني رسول الله (ص) على مقام للطمأنينة “من عاش بين الناس وصبر على أذاهم كان خيراً ممن اعتزلهم”. وأدخلني أدونيس في حالة من شعره بقوله: “سمني قيساً.. وسم الأرض ليلى.. باسم يافا”.

فتاة على الجسر
وتساءلت : هل استقر في روع أهل الإيمان والمعرفة شك بأن الخلاص فردي ولكنه يمر بالآخر كشرط ؟ وكانت أمي عائدة مع الشمس من حقل تبغها مبتلة بالندى المر شاحبة ذابلة العينين من النعاس، أرخيت عيني في صدرها ورددت مع جبور الدويهي “الموت بين الأهل نعاس”. واهتديت إلى باب في المحراب موصود بالطمأنينة التي تأتي من الجهل والغرور وتنتهي إلى الأمن من غضب الله. أدرت قلقي وأسئلتي حول مزلاجه فانفتح وأدركتني، عندما بهرني الضوء الآتي من خلف جدار الجامع، حيرة كالتي أدركت سيدنا وأبانا إبراهيم (ع) عندما تحرك إيمانه الفطري أو اللدني الصافي نحو المعرفة، نحو الحقيقة، نحو السر، نحو الحيز الذي يتماس فيه الشهود مع الغيب، متطلباً مطابقة ما وانسجاماً ومعرفة، فتقلب بين القمر والشمس والنجم في رحلته من المتكثر الى الواحد.. أخرجه الله من حيرته.. أما أنا فقد دخلت في التجربة والحيرة.
اخترت الثقافة بمعناها الخاص جداً مقاماً لي ومشروعاً للحضور والتغيير. ومن شاعر الى ناقد ومن روائي الى مسرحي ومن ندوة الى خلوة ومن مهرجان الى محاضرة، الى ان تقدم مني والدي متهيباً وحانياً ونبهني الى أن لغتي في البيتومع أهل الضيعة عموماً قد تبدلت، وأصبح فهمها مغلقاً عليهم.
لقد أثمر مشروع الوصل فصلاً إذن.. واكتمل النقل بالزعرور عندما كنا في أحد الأيام نستعد لمناقشة علاقة الشكل بالمضمون في الأدب الحديث في أحد أندية النبطية. وقبل الموعد بساعة أيقظني صديقي من قيلولتي والطائرات تدك مخيم النبطية على مرأى منا ومسمع، وعندما فتحت عيني سألني : ما علاقة الشكل بالمضمون في الأدب الحديث ؟
بعد أيام حزمت حقائبي وعدت الى النجف، كأني هربت إلى أمي، إلى رحمي العلمي.. ولكني لم أمكث طويلاً فقد أتاني خبر بأن شركة الريجي تضمر شراً لمزارعي التبغ.. وكنت قد قرأت “غرامشي” والمثقف العضوي، لم أفهم كثيراً، ولكني أيقنت بأن الثقافة بمعناها النضالي خير من النخبوية المنفصلة ومن الأكاديمية اليابسة.

اقرأ أيضاً: أحوال بين الصخر والماء

فقفلت عائداً عام 1972 الى حيث ولدتني أمي.. أواخر عام 1946 الى جانب شتلة التبغ، ودخلت في المزارعين وحركتهم المطلبية.. رأيت عن قرب مزارعين اثنين يسقطان برصاص رسمي، ولاح لي والدي من بين الجموع المذعورة يركض مرة باتجاه الطريق العام ومرة باتجاه مصدر الرصاص، ولكن حركة المزارعين لم تلبث أن أفلتت من أيديهم لتستقر في أحضان الأحزاب لتستوي مفردة دسمة في سجال الأحزاب مع الدولة، صادرت الأحزاب الحركة والقضية، وهمشت أدواراً وقوى بريئة من المضمرات الفئوية، ولكنها لا عصبية لها ولا رهط ولا رعيل، وكل ما تملكه نوايا طيبة وشفافية في التعامل مع قضايا الوطن والمواطن، ولسان الحرفة السياسية وأهلها المحترفين يقول لها: ذنبك على جنبك.. إذن وأنا ذنبي على جنبي.. انزاحت الغيمة وانزاحت الستارة فإذا بالثقافي ينسحب لصالح الاجتماعي ولا يلبث الاجتماعي أن يندك في السياسي ويمحى.. فأين أولي وجهي ؟ ذهبت إلى فلسطين.. فربما كانت الصعيد الذي أعيد عليه توحيد السياسي والثقافي والاجتماعي.. فكان الذي كان.. فلسطين آخر القوس، فلسطين آخر الجسر، فهل إلى الضفة الأخرى بعد من سبيل؟!

السابق
قوى الامن: توقيف أحد أخطر المطلوبين بجرم السرقة في برج البراجنة
التالي
عذّب طفلته لأنّها رفضت «التسوّل» والوالدة تطلب الحماية