إمام الأزهار والقصائد والوعود المؤجلة

نادراً ما قدّمت، يا سيِّد، لعمل أدبي أو مجموعة شعرية. ولكي لا تذهب بك الظنون بعيداً فتأخذني من حيث أنت على محمل الصلف أو التمنين، أقول لك بأن لا صلة للأمرين بهذا التمنع بل لاعتقاد راسخ لدي بأن المقدمات في الأعم الأغلب أقرب إلى أدب المجاملات الاجتماعية منها إلى القراءة الموضوعية والنقد الرصين. وبما أن المقدمات بمعظمها لا تضيف شيئاً يذكر إلى الكتاب الجميل، ولا تنقذ الكتاب الرديء من آفة العقم والهشاشة، فهي تتحول إلى مناسبة لتلميع صورة المقدِّم ورفد نرجسيته الفاقعة بما يلزمها من وجوه الاستحواذ و”الأبوة” المدَّعاة، ورعاية الآخرين بالتشجيع ومعسول القول.

اقرأ أيضاً: رشيد درباس عن هاني فحص: وكيف يكون موت؟!

أتخيلك الآن وأنت في قبرك الظليل على ربوة من ربى جبشيت الساحرة تبتسم لي بشيء من المكر المحبَّب وتخاطبني قائلًا: “ولماذا إذاً تحمِّل نفسك ما لا تطيق وتجازف بتقديم هذا الكتاب؟”. وأنا بدوري أجيبك بأنني لا أفعل ذلك لأنني لم أرد أن أخيب بي ظن أم حسن وبادية وريَّا وحسن وزيد ومصطفى وسائر محبيك، بل لأنها فرصتي الثمينة، يا سيِّد، لكي أستدرج حنيني إليك إلى ساحة اللغة، ولكي أمتحن في ضوء غيابك الجسدي قدرة الكلمات على استيلاد نفسها من شغور المكان الذي أخليته. وربما خالط كتابتي عنك شعور بالندم أو عقدة الذنب لأن هذه الكلمات قد تأخرت كثيرًا عن أوانها، إذ كان عليَّ، أنا المتتبع لمواقفك ونصوصك، أن أبدي بالكلام المكتوب بعض ما أضمر لك من تقدير، ولكن الناس نيام يا سيِّد فإذا مات المبدع الفريد من أمثالك انتبهوا إليه، ووضعوه حيث ينبغي له أن يكون. فإذا كانت المعاصرة حجاباً، على ما ذهب البعض، فإن المعايشة حجاب آخر، لأن انعدام المسافة بين الرائي والمرئي تُعطل الرؤية تماماً وتشلُّ القدرة على الإفصاح. ولهذا كان لا بد أن تتوارى قليلًا لكي يظهر حضورك على حقيقته وتتمكن الاستعارة من التجول.
كان بإمكانك، يا سيِّد، أن تجعل من العمة السوداء امتيازاً للاستثمار في سوق النخاسة الديني، كما فعل الكثير من المعممين، وأن تستعين على فقرك المقيم بأموال الخمس والزكاة والصلوات المأجورة والخطب المدفوعة الثمن، على أنك آثرت التعاقد مع الكرامة والتعفف وشظف العيش، حيث السماء لا تمطر ذهباً، وحيث اليقين طريق معبدة بالشكوك والهواجس المؤرقة. وهكذا لم تعتبر عمَّتك وجبَّتك امتيازاً عن الآخرين في سلم التراتب الاجتماعي، ولا حسماً قاصماً للسجال مع الآخر من موقع اليقين المطلق، بل ربما بدتا أقرب إلى العبء منهما إلى الامتياز، وإلى القيود المرهقة التي يفرضها الزيّ المنمَّط على آداب الكلام وقواعد السلوك منهما إلى الحرية والفضاء المفتوح. كنت تريد أن تكون نفسك دون زيادة أو نقصان، وأن تتكئ على قلمك لكي تحقق فرادتك، وعلى ألمك كي تسبر آلام الآخرين، وأن يكون اسمك مجرداً من أية إضافة لكي لا يكون لقب “السيِّد” الذي يسبقه نوعاً من التمييز أو الاستعانة بالمقدس لتحقيق المكاسب والنجاح المجاني. وهكذا بدأت مسيرتك من حيث يجب أن تبدأ، من الالتحام الكامل بجمال العالم وبؤسه، ومن الانخراط القاسي في تغيير الواقع لا الاكتفاء بهجائه أو التفرج عليه، ومن صناعة اللغة بالكد والقراءة والتراكم المعرفي لا النوم على حرير الموهبة المجردة. وإن المرء ليحار بالفعل كيف أمكنك في حياة واحدة أن تفعل ما فعلت، كأن تكون إماماً ومقاوماً ومفكراً ومجتهداً وناشطاً سياسياً وكاتباً صحفياً ومشاركاً في انتفاضات العمال والمزارعين ومشتغلاً بالأدب وداعية للحوار، وقبل هذا وذاك عاشقاً مفتوناً بالمرأة ومتعلقاً بأهداب الحياة. أما الشعر الذي يجري في عروقك مع دورة الدم، فنادراً ما أصغى إليه أحد بالرهافة التي لديك وما احتفى بنصوصه العالية أحد كما احتفيت. وإذا لم تكن قد اقترفت “إثمه” النبيل كما فعل صديقك ورفيق دربك السيد محمد حسن الأمين، فأنت قد تمثلت في نثرك ومقطوعات أكثر عصاراته صلة بالبراءة والتخييل وفاكهة النقاء الطازج.

السيد هاني شوقي بزيع
وبالعودة إلى كتابك الأخير “في وصف الحب والحرب”، لا أدري إذا ما كنت أنت قد اخترت له هذا العنوان الذي يختزل انشقاق الإنسان على نفسه ممزقاً، بالمفهوم الفرويدي، بين غريزتي الحياة والموت. ولو عاد الأمر لي لاقترحت عليك قبل رحيلك، وأنت لا تتقن شيئاً سوى الحب، أن تجمع ما كتبته في الغزل والعشق الموزعين بين النساء والأماكن، بين شهوات الحواس وفورانات الروح، داخل كتاب مستقل تسميه “في وصف الحب”، تاركاً الحرب وشجونها وأهوالها إلى كتاب آخر. ومع أنك لم تعرف من الحرب سوى وجهيها العادلين: الحرب مع العدو الغاصب، والحرب مع الأنا المتفاقمة بغية تشذيبها من الجور وتخليصها من المأساة، حين قلت: “إني أرى إلى آثار الدم ما تزال عالقة بأطراف جبتي، بسبب صمتي عن الحرب وأهلها الأصليين ونواياهم وأهدافهم غير الأصيلة”. أو حين لم تشأ أن تزيل شبهة الالتباس بين ضميري المتكلم والمخاطب في قولك: “هل قتلت؟ هل باشرت بالقتل؟ هل حوَّلت عيداً إلى مأتم؟ إذن على أي دم تتكئ لتصل؟”.
ولعلك كنت تدرك بالحذق كما بالمعرفة العميقة أن الراء وحدها ليست كافية لتضليل الجناس الناقص بين الحب والحرب عن العناصر المتشابكة التي تشد أحدهما إلى الآخر، منذ أن آخى عنترة العبسي بين القبلة والدم في صورة السيوف اللامعة كثغر الحبيبة المبتسم، ومنذ أن تحولت النظرات إلى طعنات لا ترحم في قلب امرئ القيس المقتَّل، حتى آخر المعاجم العربية التي تربط الألحاظ بالسهام والعشق بالموت والجمال بالاستبداد والفتنة الصاعقة. ومع أن موجبات الجبة التي اعتمرتها قد دفعت بك إلى الارتباك لدى سؤال أحفادك لك عما إذا كنت قد وقعت في الحب قبل الزواج، فإن ما يرشح من بعض نصوصك كان يشي كهذا، ولو أن حبك لأم حسن قد جَبَّ كل ما قبله ووضعكما معاً ضمن حلقة الثنائيات العديدة التي وسمت هذه الأمة بسمة العشق الجارف منذ زمن عروة وعفراء، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، وكثيِّر وعزة، حتى يومنا هذا. وإلا فما معنى أن تقول لك زوجتك معاتبة على دعابة “هذا الوطن يثير غيرتي”، بعد أن آنست منك انصرافاً عنها باتجاه معارك الحرية التي خضتها بلا هوادة. ولم يشفع لك عندها التفكير بإعلانها حاكمة على الدول الواقعة بين المحيط والخليج، لولا الخوف من أن يؤثر ذلك على “موقعك في معادلة المنزل”!
ولو أردت، يا سيِّد، أن أقتبس من الكتاب كل جملة تشير إلى موقف جريء أو شاهد بلاغي أو حكمة موجزة لوجب عليً أن أستعيد الكتاب كله، أو الكثير من نصوصه وفقراته. لكن أكثر ما استوقفني فيه هو احتفاؤك بالآخر، لا بوصفه منفصلاً عنك، بل بوصفه مكملاً ضرورياً لشرطك الوجودي، وأنت القائل: “عيناي مشرقتان لأنني أرى بهما الآخرين”. والقائل أيضًا، “كن أنت، وعندما تكون أنت تكون الآخر. كن كثيراً عندما تكون أحداً. وكن أحداً فرداً، على فرادة، لكي تكون كثيراً”. فالكثرة عندك تقاس بالتنوع المثري لا بالكم العددي الذي تحوله “البلوكات” الطائفية والأيديولوجيات المعلبة إلى مستنقع آسن من الجهالة والفقر والبؤس المادي والروحي. والماء الواحد القليل، على ما تقول، سرعان ما تصيبه النجاسة، فيما يطهر بالجريان، لأن الجماعة عندك ليست معطى جامداً بل حقيقة سائلة. ولعل هذا التعبير الأخير عن حراك الحقيقة هو أحد أجمل الاستعارات التي سبقت لي قراءتها من قبل.

اقرأ أيضاً: سمير فرنجية وهاني فحص قامتان مؤتلفتان في قيمة أخلاقية واحدة

بهذه الروح الآهلة بالكنوز أعلنت يا سيد صداقتك للعالم وقسمت جسمك، كعروة بن الورد، في جسوم كثيرة. وبهذه الروح منحت أصدقاءك الكثر أقصى هبات الألفة والإيثار عبر نصوصك المهداة إلى أنسي الحاج وعبدالجبار الرفاعي والسيد عبدالله الأمين وطاهر ريشا وعبده قاعي وآخرين غيرهم. وبهذه الروح انتزعت الدين من براثن التعصب والنبذ والإلغاء والكراهية، مساوياً بين فصل الرؤوس عن الأجساد بالسواطير الداعشية وبين سحق براعم الحرية تحت أحذية السلاطين. وكما عنونت مقالتك البليغة عن المطران جورج خضر، الذي منعتك من رؤيته صروف الأيام، أقول للغيوم الخريفية التي تذرع سماء جبشيت: ” سلمي لي على السيِّد، على الإمام الغريب للأزهار والقصائد والوعود المؤجلة”.

(تقديم لكتاب السيد هاني فحص “في وصف الحب والحرب”)

السابق
بين السنّة والشيعة.. فيديوهات استفزازية وشتائم وتعرض لرموز
التالي
قوى الامن: توقيف مطلوبين في برج البراجنة بجرائم سلب وسرقة بقوة السلاح