لو كان جبران بيننا الآن

الكلمة التي ألقاها الصحافي علي الأمين في الاحتفال السنوي الذي يقيمه حزب الوطنيون الأحرار تخليداً لذكرى جبران تويني.

لم ألتق جبران تويني كثيراً ولم تكن بيننا أواصر صداقة ولقاءات. مناسبات قليلة وسريعة جمعتنا، آخرها كان يوم وقفنا إلى جانبه وخلفه في ساحة الشهداء اثر اغتيال الجَميل سمير قصير. لكنني أعرف جبران منذ النهار العربي والدولي، هذه الأسبوعية التي كنا نتهجاها ونتلمس قصص الحرب والسياسة والثقافة من أبوابها، وهي إلى كونها ابنة “النهار” إلاّ أنّها كانت أكثر من صحيفة وألطف من كتاب، ومساحة لمن هم مثل حكايتي آنذاك، من مساحات الهروب من أعباء الفروض المدرسية، في بيوت لم يكن فيها إلاّ الكتاب سبيلاً للمتعة أو السفر أو الخيال.

منذ ذلك الحين عرفت جبران، من ابنة النهار، ولم تتوقف تلك المعرفة التي تسللت لاحقاً إلى أمّها “النهار” بجلالها وهيبتها. كان جبران في تلك المرحلة خارج لبنان، ويذكر من عايش تلك المرحلة التي سبقت اتفاق الطائف وتلته، أنّ جبران دفع ككثيرين من أمثاله ثمن انحيازه إلى خيار مواجهة الوصاية السورية على لبنان. هكذا برز في شخصية جبران الوجه السياسي، الذي ما انفكّ يُذكر اللبنانيين بأنّهم شعبٌ يستحق الحرية ودولة أقوى من الوصاية وتاريخ لا يطويه عابرون في زمن عابر ومساحة تفاعل خلاق بين اتجاهات وأفكار متنوعة لا يستقيم تفاعلها إلاّ على اعتدال لبناني كانت النهار ميزانه ومسرحه ومختبره.

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عاد جبران بمولوده النهاري الجديد “نهار الشباب”… كانت الثورة بأبعادها المهنية والاجتماعية تخطّ طريقها عبر نهار الشباب، تلك الواحة التي استطاعت بروح جبران وخبرة النهار وأعمدتها، أن تطلق حيوية لبنانية طاقتها جيل من الشباب يحاول تلمس أحلامه ومستقبله على صفحات أفردها جبران لكل الذين تقاطروا من أطراف لبنان ومن قلبه. وكانت “نهار الشباب” في حينه صحيفة أسبوعية تلاقى في مختبرها لبنانيون بشرط التنوع والإختلاف، بعيدا عن أصناف التقوقع والخوف. أراد جبران أن يلتقط نبض جيل ما بعد الحرب، جيل كان ولمّا يزل في ذلك الحين أسير انقسامات الحرب البغيضة من جهة، ومن جهة أخرى باحثاً عن بوصلة تحدد له مسارات الخروج نحو آفاق جديدة لا احتلال فيها ولا وصاية ولا خوف من المغامرة والإبداع. لذا كانت “نهار الشباب” معبراً ومنطلقاً لعشرات بل لمئات نحو نجاحات ليست على الصعيد المهني فحسب، بل على صعيد تقديم نموذج لبناني يتسم بالإمتلاء الوطني والإعتدال الذي لم يكن ليتحقق لولا هذه البراعة لدى جبران. شاب من نشأته وخلال مسيرته كان ممتلئاً بمعرفة الآخر ومتصالحاً مع ذاته، شديد الافتخار بلبنانيته.

منارة “نهار الشباب”، رغم توقفها عن الصدور، ظلّت تضيء لكثيرين في هذا الليل مسالك الطريق نحو فجر لبناني جديد، وهي لم تتوقف عن أن تكون صوتاً في بريّة هذا الوطن وديكاً صدى صياحه يتردد في آذاننا كلما أدلهم ليلٌ أو عمّ سواد. لعل جبران في تجربته الشبابية تلك كان يحاول أن يكتشف لبنان، وأن يعيد اختبار معرفته بالوطن وأبنائه، لذا كان شغوفاً باكتشافه الدائم، شديد الحرص على التعرف إلى جغرافيته…. انتقل من أقاصي الشمال إلى أقاصي الجنوب، وإلى البقاع. لم يكن سائحاً بقدر ما كان يبحث عن لبنان. يتهجاه من أطرافه من مواضع كانت دائماً عرضة لنسيان أو إهمال الدولة لها. فجمع في “نهار الشباب” ما لم يبادر أحدٌ إلى جمعه. على صفحات نهار الشباب اجتمع لبنان من أقصاه إلى أقصاه، وهي خصوصية وامتياز لجبران تويني، إذ أراد من خلال التجربة الشبابية المتحمسة القول أنّ اللبنانيين مهما عصفت بهم نوائب الإحتلال والوصاية يلتقون وينتجون ويبدعون. وكانت نهار الشباب المثال الحيّ، لإلتقاء عشرات الشباب تحت مظلة النهار من دون أن يشعر أيّ واحد من أعضاء فريقها، المراسلين في كل المناطق اللبنانية، انّه منتقص في حضوره أو أنّه ليس هو ديك النهار الذي يصيح في فجرها كل ثلاثاء.

جبران تويني، ولأنّه من مدرسة النهار ومن بيت عميدها الدائم الراحل الكبير غسان تويني، وحفيد الجد المؤسس جبران ونجل الشاعرة ناديا التويني، كان محكوماً بلبنانية لا يستطيع التملص منها، تحيط به كيفما التفت. كأنّه، وإن كان أبوه من رثاه يوم استشهاده، إلاّ أنّه قبل ذلك حمل ثقل تاريخ لبناني خطّه غسان تويني بكلماته. حملها على صفحات أنارت ظلمة في العقول طيلة ما يقارب نصف قرن. والده الشامخ بلبنانيته وبرحابة لا يعكر صفوها صلابة الموقف وحرية هي من طبيعة “النهار” وأساس وجودها. وجبران كان يحمل هذا الإرث الذي كان يثقل عليه حيناً لكنّه حصنه في خطواته وفي مسيرته المهنية والوطنية. كان جبران محكوما لكل هذا الإرث ولهذا التاريخ اللبناني الذي مثلته النهار، ولا تزال. فانبرى دائماً ليقدم النموذج، حافظ على الإرث، ولم يفرط به، بل أضاف إليه من روحه ومن بصماته التي لا تمحى، رغم الحملات التي شنّت ضد جبران سياسياً، ورغم كل محاولات التشويه التي جرى وسمه بها، لا سيما في الأشهر التي سبقت اغتياله قبل إحدى عشر عاماً، وهي بلا ريب كانت من عناصر خطة الإغتيال.

جبران تويني وبلسان الكثيرين ممن اختلف معهم في الرأي السياسي، لم يكن يوماً يريد للنهار أن تكون جريدة الرأي الواحد، أو صحيفة التعاميم السياسية، كان يدرك أنّ قوتها تكمن في هذا التنوع الذي تضمه، والأهم في القدرة في التعبير عنه، وفي مساحة الحرية التي أمكن له أن يعززه ويثبته ولا يخرج عليه هكذا رأى لبنان. ولن تكون النهار الصحيفة اللبنانية الأولى لو لم تكن على صورة لبنان الفكرة والمشتهى، والنموذج المتنوع والحر.

 

جبران تويني

 

هذا بعض مما أراه في هذه القامة اللبنانية التي كانها جبران تويني الشهيد، الذي ما انفك منذ أن أطلّ عبر صفحات النهار وهو يفتح باباً على جديد ما، ساعياً إلى تغيير في المهنة أو في الشأن السياسي والوطني، يفتح أبواباً على الحلم، حين يكون الأفق مسدوداً حتى على بارقة أمل، في النهار كما على مستوى الوطن شعلة تضيء وديكاً يصيح وكلمة تكتب بحبر الحقيقة.

لعلنا وبعد كل هذه الأعوام على غيابه، نظل نكتشف كم كان القاتل يعرف جبران بل يعرف لبنان، هذا الـ”لبنان” الذي كان متأصلاً في خلايا جسد جبران وفي بنات أفكاره، لكأن القاتل كان يدرك مكامن الخطر الذي يشكله جبران تويني، بكل تاريخه المهني والوطني، كان يعلم أنّ في قتل جبران قتل لإمكانيات جدية لنهوض وطن.

لم يكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري كافياً رغم فداحة ذلك الاغتيال وجريمته على لبنان. كان لا بدّ أن يستكمل بمسلسل قتل يمنع إطلاق حيويات لبنانية كتلك التي أطلقها جبران تويني في النهار ومن النهار. سمير قصير نموذج آخر في النهار، كان استشهاده مؤشراً لما يخطط له القاتل. فكان جبران الشاهد والشهيد.

إقرأ أيضاً: آخر اتصال مع جبران تويني: شو الأخبار؟

قتلُ جبران تويني لم يكن قتلاً لإنسان فحسب، ولا استهدافاً لشخصية سياسية لها دور فاعل في انتفاضة الاستقلال الثاني، ولم تكن محاولة اغتيال خبيثة للصحافة اللبنانية من خلال محاولة قتل النهار. بل إنّ القاتل كان يصوب ولا يزال على قتل لبنان، قتل الروح اللبنانية التي يمثلها جبران تويني، قَتلٌ لحساب التقوقع والإنكفاء، قَتلٌ من أجل تعميم التطرف بدلاً من الاعتدال، وتعميم الفوضى بديلاً من الحرية، وتعميم العنف بديلاً من السلام.

إحياء ذكرى جبران لا تكون إلاّ بالتمسك بلبنانيتنا، ليست تلك اللبنانية التي تلاك بالألسن من دون أن يكون لها مثالها على أرض الواقع. فلا معنى للبنان من دون مؤسسات دستورية يحترمها القائمون عليها قبل أن يطالب المواطنون باحترامها. لا معنى للبنان إن لم يكن واحة حرية ومساحة التقاء وتفاعل تحت سقف الدستور، لا معنى للبنان إن لم يكن نموذجاً للحريات السياسية والاعلامية، لا معنى للبنان إن لم يجد فيه الهاربون من ظلمات الإستبداد نافذة يطلون من خلالها على الحياة، لا معنى للبنان إن لم تكن الدولة فيه مظلّة وفوق الجميع، لا معنى للبنان إذا كانت الصحافة فيه عليلة.

إقرأ أيضاً: جبران تويني.. معه اغتيلت الصحافة اللبنانية

لو كان جبران تويني بيننا الآن لقال الكثير من الحب والأمل والألم بحق جارتنا الحبيبة سورية، ولأنّنا في محضره الباذخ بالإنسانية وبهويته اللبنانية، نتلمس من ذكراه وسيرته المسكونة بالإنحياز للحرية والتحرر وللإنسان ولقيم العدل، نتلمس بعضاً من نبضه عبر التأكيد على أنّ الحرية ليست منّة من أحد بل هي وديعة الخالق فينا. ولا تكتمل انسانيتنا من دونها ولا ترتقي الشعوب من دونها. لذا لا تكتمل لبنانيتنا من دون حرية الشعب السوري، هذا الشعب العظيم يستحق حريته ويستحق ألاّ نكون كلبنانيين شهوداً صامتين على إبادته وتشريده، بل أكثر، حق إخوتنا السوريين علينا ألا نعين القاتل على قتلهم وأن نقول “لا” كما قال جبران تويني، “لا” عالية في وجه القاتل.

يبقى الأهم… جبران تويني كان صحافياً حقيقياً. كان النهار والقلم والديك. والحفاظ على إرثه يكون بالحفاظ على النهار. أمس توقفت السفير وغداً قد تتوقف وسائل إعلام أخرى. الوصية الأساس حفظ النهار، منبراً لكل اللبنانيين، وحمايتها من اللهاث وراء اللايكات والكليكات والإعلانات. لا أعرف كيف. لو كان جبران حيّاً لما عدم وسيلة. وعلى الورثة ألاّ يعدموا وسيلة. جبران هو النهار المشاكسة والواضحة والحقّانية والموهوبة، فلا تتركوا إرثه نثراً في الرياح.

السابق
ديما صادق ترد بالفيديو: أنتم تملكون الشتيمة وأنا أملك الحقيقة
التالي
نائب من كتلة «برّي» لمحطة «الجديد»: أنتم شركة مقاولات ولن نسكت بعد اليوم!