الإسلام الفردي يُقلقل نظام «ولاية الفقيه»

“أريد إسلاماً للإيمان الفردي وكعلاقة تقوى للإنسان مع الله… أسعى لإزالة الطبقات السطحية الزائدة عن وجه التديّن… لا أرى سبباً يمنع المجتمعات الإسلاميّة من الاستفادة من النظريات السياسيّة العلمانية، بهدف صنع الدولة على أفضل وجه… يكفي أن نحتفظ بالإيمان [كُل شخص لنفسه] ثم نتناقش على أسس عقلانيّة، وبأقصى علانيّة ممكنة”.

إقرأ أيضا: عقدة الأقليات في إيران: عرقية لا دينية ( 1)

إيمان فردي؟ ربما تكون عبارة عاديّة، لولا أنها تجيء على لسان مفكر إيراني، عاصر الثورة الإيرانيّة وكان منخرطاً فيها ومنجذباً إلى الكاريزما المذهلة لآية الله الخميني. وآنذاك، ضجّت صفوف التمرّد الثوري الإيراني بالتناقض والعداء مع الغرب إلى أقصاه، بمعنى رفض الحداثة الغربيّة ونموذجها في الحضارة، مع تشديد هائل على معطى الخصوصيّة (الإسلاميّة حينها) في الهوية والثقافة والتوجّه الحضاري. وآنذاك أيضاً، لم يكن المفكر الإيراني، عبد الكريم سروش، بعيداً من تلك الموجة التي راجت في طيّاتها كلمات “مريض بالغرب” و”جذور” و”شهادة” و”الشهادة” و”الوحدة الإسلاميّة” وغيرها.

وفي شبابه، درس سروش في بريطانيا، الكيمياء والفلسفة، وربطت كتابته المبكرة، العِلم مع الدين، ما لفت أنظار قادة الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة إليه. وانخرط سروش في بناء دولة يفترض أنها تستند إلى ما تحمله من مضامين إسلاميّة، بل انخرط في مسار يشبه “الثورة الثقافيّة الإسلاميّة” في طهران. ومع صعود خط “ولاية الفقيه”، راح سروش يبتعد تدريجيّاً من ذلك. ثم اضطُهد سراً وعلانيّة، بما في ذلك عزله من مناصبه الأكاديميّة في جامعتي “طهران” و”الخميني الدوليّة”، وإغلاق مجلة “كيان” التي أسّسها عقب الثورة. وغادر منفياً إلى أميركا.

في إيران ما بعد “الثورة الخضراء”، ينظر الجيل الذي وُلِدَ بعد ثورة الخميني، إلى سروش وأمثاله، كمصدر لنوع جديد من الثقافة تحاول الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة، لكنها تسعى أيضاً إلى تبديل ثقافي في علاقة الإسلام مع الدولة والمجتمع في إيران. ومن نافل القول أن تلك الأفكار المنادية بتحويل الإسلام إلى دين فرديّ، يرسم علاقة تقوى بين الإنسان والله، تتعارض مع “ولاية الفقيه” التي يرسم فقهها الإسلام أيديولوجيا سياسيّة تتحكّم بالدولة والسلطة والثقافة وبنى المجتمع.

وترسم الكاتبة لورا سيكور، في كتابها “أطفال الجنّة: الصراع على روح إيران” Children of Paradise: the struggle for Iran soul (صدر في أميركا عن دار “بنغوين راندوم هاوس” 2016) تلك الصورة، عن سروش وأمثاله، ضمن رصدها تحوّلاً جذرياً يصعد حاضراً بتؤدة وقوّة في أوساط الشباب الإيراني، من دون أن يكون مأخوذاً كليّاً بفكرة التناقض بين الحداثة (بوصفها غرباً وتغريباً) وبين الإسلام، أو بالأحرى المجتمع الإيراني الذي يسوده الإسلام دينيّاً. وتعتَبَر الصحافيّة النيويوركيّة، سيكور، متخصصة في الشأن الإيراني، وتكتب عنه في صحف ومجلات مثل “نيويورك تايمز” و”نايشن” و”لينغوا فرانكا” وغيرها.

وفي تقصّيها جذور ذلك التيار الذي يقلقل نظرية “ولاية الفقيه” ونظامها حاضراً، تعود سيكور إلى المصادر الثقافيّة لذلك التحوّل الذي يضم الاسلامي المعتدل، سروشن والليبرالي، أكبر غانجي، وغيرهما. ويمكن تقصّى الجذور الثقافيّة لذلك التحوّل في سياق الثورة الإيرانيّة نفسها، فيشمل المفكر علي شريعتي، الذي ربط بين أنساق من السوسيولوجيا الغربيّة، خصوصاً كارل بوبر، والإسلام، وآية الله العظمى حسين علي منتظري الذي اختلف مع الخميني في مسألة تصدير الثورة، وشخصيتين وثيقتي الصلة بـ”الثورة الخضراء” (مير حسين موسوي، ومهدي كرّوبي)، والرئيس الإيراني السابق المعتدل محمد خاتمي الذي نظّر لنظام إسلامي يستمد شرعيته من الشعب وليس من فتاوى الفقه وغيرهم.

واستطراداً، تستعيد سيكور تلك الصورة التي رافقت تفجّر الثورة الإسلاميّة في إيران، خصوصاً تجمّع تلك التيارات السابقة مع مسارات جاءت من اليسار الشيوعي و”اليسار الإسلامي” (خصوصاً “مجاهدي خلق”، مع ملاحظة أن الخميني أصدر فتوى بتكفيرهم وهدر دمهم) وغيرهم. وتلاحظ سيكور أيضاً أن الطريقة التي عمل بها نظام الشاه محمد رضا بهلوي، على فرض الحداثة قسراً على البنى الإيرانيّة، أدّت إلى تغريب، بل حال اغتراب لفئات واسعة من الشعب في إيران، ما جعل العداء للغرب في تلك الحقبة، تساوي استعادة الشعب الإيراني لهويته ووجوده على أرض وطنه.

في كتاب “أطفال الجنّة”، تقدّم سيكور مثلاً معروفاً تماماً: كتاب “مُلتاثون بالغرب”. راج ذلك الكتاب الصغير ووُزّع تحت الأرض بين ستينات القرن العشرين وسبعيناته، خلال حكم الشاه. وتُرجِمَ ونُشِرَ بالإنكليزيّة بعنوان “التسمّم بالغرب” (1984)، رغم أنّ عنوانه بالفارسيّة أقرب إلى معنى “المرض بالغرب”. وكتبه المفكر الإيراني جلال آل أحمد (1923- 1969) في مطالع الستينات من القرن العشرين. وفي بداية الثورة في إيران 1979، بعد سنوات من انتشاره الواسع عبر التوزيع السريّ، أغرق “مُلتاثون بالغرب” مكتبات إيران وأكشاك بيع الكتب فيها. ونال آل أحمد إقراراً رسميّاً من جهات متنوّعة. وفي 1979، لاحظ صادق قطب زادة، الذي صار لاحقاً وزير خارجية إيران، أنّ آل أحمد كان أحد “النماذج في النضال الذي خاضه المثقّفون ضد التأثير الغربي”. ووصف السيّد علي خامنئي، الذي صار المُرشِد الأعلى للثورة الإسلاميّة في إيران في 1989، آل أحمد، بأنّه “وقف على رأس أدب المقاومة”.

وعلى رغم التزام آل أحمد بأفهومات ترجع إلى تقليد الانتماء العضوي، والاستمراريّة الدينيّة والقوميّة؛ يبقى “مُلتاثون بالغرب” نصّاً مناضلاً من أجل الديمقراطيّة.

وفعليّاً، من الناحية السياسيّة، يملك “مُلتاثون بالغرب”، تقاطعات، مع الحداثة الإسلاميّة التقدميّة للمفكر علي شريعتي الذي عاش في المنفى (في بريطانيا)، أوسع من تقاطعاته مع مشروع الخميني لصنع الكمال الديني على الأرض. وهناك تقاطع آخر مع شريعتي. فخلال دراسته في باريس في مطالع الستينات من القرن العشرين، تأثّر شريعتي بالأجندة المناهضة للاستعمار والكولونياليّة المرتبطة بالمفكر المتمرّد المعروف فرانتز فانون. وبالنتيجة، شرع (لكنه لم يُكْمِل أبداً) في ترجمة كتاب فانون “موت الكولونياليّة” إلى الفارسيّة.

وفي تعبير عن الميول الماركسيّة لآل أحمد، الذي كان عضواً بارزاً في حزب “تودة” الشيوعي، خُضِّب كتاب “مُلتاثون بالغرب” بنبرة شعبيّة نقديّة صارت الصوت المفضّل في الوسط اليساري والثقافة المُضادة عالميّاً.

فمنذ مطالع الستينات، روّجت الملكيّة مشروعاً مركزيّاً واستبداديّاً لغربَنَة البلاد. وترافقت تلك الغربَنَة مع فساد، قمع سياسي، وتدمير الحياة في الأرياف.

ويبقى السؤال مفتوحاً عما إذا كانت مرحلة الغربَنَة الشاهنشاهيّة أكثر أو أقل وحشيّة من النظام الذي أرساه الإسلاميّون في 1979. لكنما يصعب الجدال في أن نظام الشاه كان قمعيّاً تماماً، والفضل في وصوله إلى السلطة واستمرار إمساكه بها يرجع إلى دعم الولايات المتحدة وقوى غربيّة اخرى؛ وأنّ مناهضة الغرب في إيران برزت على خلفيّة الطغيان الذي نُفّذ بإسم الحداثة الغربيّة.

السابق
عريجي يفتتح معرض الكتاب الفرنسي الـ23
التالي
الأمير هاري اللعوب… ابن جدّه!