ما معنى أن يكون الرئيس قويا؟

بعبدا
لقي انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية ترحيباً اقليمياً ودولياً كبيراً، عكس حرص الجميع على صون الاستقرار (السياسي والأمني) الذي ينعم به لبنان حالياً، وعلى عدم زجّه في أتون الحروب المندلعة في دول المنطقة.

هذا يعني أنه يمكن للعهد العتيد أن ينطلق من لحظة “صفر مشاكل” سواء مع محيطه العربي أو مع عواصم القرار الغربية. ولا شك أن خطاب القسم بخطوطه العريضة ومن خلال توازن مفرداته ووضوح عباراته، يخدم هذا التوجّه الجديد للجنرال القادر اليوم من موقعه الوطني الرسمي على لعب دور مركزي واستقطابي، يلمّ به شعث الجمهورية المتعثرة.
بهذا المعنى وحده يكون الكلام على رئيس قوي في محله. صحيح أن الرئاسة موقع مسيحي ماروني ينصّ عليه الدستور على غرار الموقعين الثاني والثالث، إلا أن الانزلاق به ومنه إلى الخنادق الطائفية، سيفرّغه على الفور من مضمونه الجامع ويجعل منه طرفاً في الصراع على المصالح الفئوية، وبالتالي يُفقد الدولة رأسها ويخلّ بميزان الحُكم فيها.
هذا في الداخل، أما في الخارج، فإن قوة العهد تكتسب معناها الفعلي من خلال القدرة على توحيد المواقف المختلفة للأفرقاء اللبنانيين إزاء القضايا المتعلقة مباشرة بالبلد أو تلك المحيطة به، وتظهيرها ضمن سياسة خارجية واحدة تعكس قدر الامكان صورة منسجمة نسبياً بدل “الموزاييك” الذي قصمٓ، طوال الفترة الأخيرة، ظهر الدولة وكشف هشاشة السلطة فيها.
ثمة فرصة حقيقية لسيّد بعبدا الحالي أن يُعيد القوة للدولة ومؤسساتها، وأن يسترجع دور لبنان العربي خصوصاً والدولي عموماً بما يليق بالمكانة التي يحظى بها في محيطه والعالم، باعتباره جسراً حضارياً متميزاً يربط بين الشرق والغرب، ونموذجاً فريداً للتعايش بين الأديان التوحيدية الثلاثة.
مثل هذه الإرادة المطلوب أن تعمّ اليوم كل مناحي حياتنا على أمل أن تشكل رافعةً للنهوض من كبوتنا الطويلة، لا تعني أن الأفعال المتعلقة بها سهلة المنال أو أنها في متناول يد العهد الجديد، بل دونها صعوبات وعوائق كثيرة، وطريق الوصول إليها مليئة بالألغام السياسية التي على الرئيس الحذر الشديد منها، ومن إمكان الدعس على لغم هنا أو هناك، فيصبح التخلّص من هذه الخطوة الناقصة من دون إحداث إصابات بالغة، أمراً مستحيلاً. لذلك فإن تفكيك الألغام ستكون مهمة أساسية لأي رئيس يخشى على عهده من الجروح، السطحية منها أو العميقة، ويسعى جاهداً لتجنّب حروب استنزافية، تجعله في نهاية المطاف، بحاجة ماسّة إلى التبرّع بالدم!
الكلّ ينتظر إنطلاق العهد بعدما سلّم بضرورة وضع قطار الرئاسة المعطل منذ سنتنين ونصف السنة على السكّة التي عليها وحدها يمكنه أن يسير في طريقه. محاولات اخراجه وحبسه في الحديقة الخلفية لهذه الطائفة أو تلك، لم تجلب سوى الخراب على البلد وعلى المواطنين. هذا ما لمسه الجميع أخيراً، وخصوصا أصحاب التعطيل بعد اجبارهم على إنهاء لعبة عض الأصابع التي تباهوا فيها بتحملّهم للألم، من دون أن يشعروا أن ما أطبقت عليه أسنانهم هي أصابع الدولة التي لا يجوز تحت أي ظرف أو مسمّى أن تـُكسر أو تُشلّ. صحيح أن الوجع الذي سببته أسنان التعطيل كان كبيراً، لكن ما يمكن أن تُحدثه أنياب أصحابه – كما فعلوا بالأمس ليس البعيد – حين تنغرز بكامل قوتها في جسد الدولة ولحمها، سيكون أكثر إيلاماً بما لا يقاس.
فهل سيكون لحمُ جمهوريتنا الطري لحد الآن، محصناً ضد هذه العضّات الفتاكة، ومطعّماً ضد الفيروسات الخبيثة التي يمكن أن تنقلها إلى مجرى دمائنا؟
على الأقل ينبغي على العهد المرتقب أن يجعل لحمنا أكثر مرورةً في مواجهة العضّ بكافة أنواعه، سواء السياسي تحت مسمىّ الثلث المعطل، أو السلاحوي تحت عنوان الدفاع عن مقدس من مقدسات المقاومة.
إن إعادة الدولة إلى حجمها الحقيقي يحتّم ضرورة الالتفات الى أحجام كثيرة تضخّمت متجاوزةً بذلك حقها الطبيعي، وصار لزاماً تصغيرها أو تقليصها، سواء داخل الحدود أو خارجها. ذلك أمر لا مفر منه عملياً، ويصعب السكوت عنه أو حتى تأجيله طويلاً. فالاستحقاقات المصيرية في المنطقة على الأبواب، وفي مقدّمها القمة العربية المقبلة في آذار التي ستستضيفها الأردن، حيث ستكون الأنظار متوجهة نحو لبنان وتحديداً نحو موقفه من الإجماع العربي المنعقد حول أزمات المنطقة ورفض التدخل الأجنبي في شؤون دولها.

إقرأ أيضا: عون حقق حلمه بالرئاسة متى يتحقق حلمنا بالإصلاح؟
فهل سيعود لبنان إلى الحضن العربي الواسع أم سيظل مغرداً خارج السرب، بفعل ضغوط شديدة تمارس على مؤسسات الدولة الشرعية من أجل ابتزازها وحرفها عن مسارها الصحيح؟ الجواب برسم العهد المأمول أن يتسلّم دفة السفينة بقوة، بغية إيصالها إلى شاطئ الأمان، وهو في سبيل ذلك، عليه أن يعمل على سدّ جميع الأبواب التي تعوّدنا أن تأتينا منها رياح عاتية تقلب سفينتنا تارة أو تجعل منها ورقة في مهب الصراعات الاقليمية والدولية تارة أخرى.

عند هذا المحكّ تكتمل معاني القوّة للعهد الجديد، عبر تحصين البلد وإعادة وصله بالقابس العربي الذي سيمدّنا بالطاقة على الصمود في أرضنا وداخل حدودنا المعترف بها دولياً، وعلى إستئناف رسالتنا الحضارية ودورنا الاقتصادي المتميزّ في المنطقة. عن هذا الطريق وحده، يصبح الحديث عن مشروع إصلاحي وتغييري في الداخل ممكناً.

إقرأ أيضا: باسيل: أبو الرئاسة.. وابن برّي

بعبارة أخرى، عندما تدرك جميع الطوائف اللبنانية حدود بلدها ودوره وواقع انتمائه وآفاق حركته داخل محيطه، حينئذ يصبح تجاوز نظام المحاصصة أمراً لا بدّ من ترسيخه كواقع سليم، ينفض عنه غبار الهواجس الطائفية والمذهبية، ويتعالى على لغة الأقليّات والأكثريات، وينظر إلى الأمام دائما بروح متضامنة ومتسامحة بدل أن يتقهقر عند كل استحقاق كبير إلى الوراء باحثاً عن ذاكرة سوداء يتخندق فيها.
الرئيس القوي الذي يرضاه الجميع من دون استثناء، هو الرئيس الذي ينجح في أن يقودنا نحو تحقيق ذلك بالقوة الناعمة لا الصلبة، ويكون مثالا حيا للتضحية بالمصلحة الخاصة والشخصية، كيما تُعاد للمصلحة الوطنية العامة كرامتها المهدورة.

السابق
إذاعة كاثوليكية: زلازل ايطاليا «عقاب رباني»…والفاتيكان يعترض
التالي
أوغلو: معظم دول الاتحاد الأوروبي تدعم «بي كا كا»