الدستور وُجد ليقيّد السلطة فلا تتجاوز حدّها

الدكتور خالد قباني
في الذكرى ال 90 لولادة الدستور اللبناني عام 1926 ، نظمت أمس حركة التجدد الديموقراطي في مقرها في المكلّس حلقة نقاش بعنوان "كي يبقى لبنان دولة دستورية"، ألقى خلالها الوزير السابق خالد قباني كلمة جاء فيها:

“السلطة بطبيعتها جموح، وميل ربما غريزي، إلى التفلت من القيود والحدود. ومن هنا جاءت تلك الكلمات الخالدة للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، إنه لا بد لكل إنسان يتمتع بسلطة من أن يميل إلى الإساءة في استعمالها، وهو يظل متجهاً نحو الإساءة إلى أن يجد حدوداً أمامه.

اقرأ أيضاً: حركة التجدد الديموقراطي تجدّد دمها بالشباب وتبني القضايا الحياتية

وقد تتمثل هذه الحدود بسلطة أقوى، منافسة أو مضادة، وقد تتمثل بسلطة القانون، بوصفه يعبرعن إرادة المجتمع بتنظيم نفسه في إطار دولة، قوامها وأساسها قانون أساسي تنتظم بموجبه حياة المجتمع، وتحدد فيه حقوق المواطن وواجباته و قواعد السلوك داخل المجتمع، فتكون السيادة للقانون، أي للقواعد العامة التي تنظم حياة المجتمع السياسي، وتضبط العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبقدر ما تنتظم حياة البشر والمجتمعات السياسية ضمن دائرة القانون، وفي ظل احترامه، بقدر ما تكون الدولة أقرب إلى مفهوم دولة القانون.

لذلك، وجد الدستور، وجد ليضع حداً للسلطة أو لتجاوز حدود السلطة، جاء قيداً على السلطات الجائرة والاستبداد، جاء لإخضاع الحاكم والمحكوم لقواعده وأحكامه، لكي تستقيم حياة المجتمع في إطاره.

هذا الدستور الذي يشكل القانون الأساسي للدولة، والذي يشتمل على المبادئ الرئيسية والملزمة التي يرتكز إليها وجود الدولة وكيانها، كان ثمرة الصراع التاريخي وعلى مدار العصور بين الحكام والمحكومين لوضع حد للطغيان والتسلط والاستنسابية، وبالتالي للحفاظ على الحقوق الفردية والحريات العامة، ولكي تنتظم بموجبه حياة المجتمع، وتعمل بهديه المؤسسات الدستورية، وتستمر حياة الدولة دون انقطاع، ولكي تستقر البلاد ولا تضيع في الفوضى، فبات الدستور هو القانون الأسمى الذي تستمد منه سائر القوانين والأنظمة مبادئها وأحكامها، وبل شرعيتها، فيلعب الدستور، من جهة دور الحافظ لكيان الأمة وتاريخها وتطلعاتها، ومن جهة ثانية، دور الضابط الأساسي للقوانين التي يقرها المشترع، كما الأنظمة التي تصدرها السلطة التنفيذية، أي دور الصدارة العليا في الانتظام القانوني العام. وعلى هدي الدستور يمارس القضاء الدستوري دوره في الرقابة الدستورية على القوانين، وكل من القضاء الإداري والمدني، دوره في حماية الحقوق والحريات، في إطار اختصاصه.

ولذلك احاط الفقه الدستوري موضوع الدستور ووضعه وكيفية إنشائه وصياغته، بأهمية كبيرة، وربما بهالة، لأنه يمثل ضمير الأمة، ولكي يأتي، سواء من حيث وضعه أو صياغته أو مضمونه، مؤثراً ومعبراً خير تعبير عن حقيقة الشعب وأمانيه وآماله، وصورة نابضة بالحياة عن تاريخ هذا الشعب وواقعه وخصوصياته ونمط حياته، والقيم الأساسية التي يدين بها هذا الشعب والركائز التي يقوم عليها نظام المجتمع، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع التركيز على المبادئ الأساسية، التي تتجلى في كل الدساتير الوضعية في العالم اليوم، وهي مبادئ المساواة والعدالة والحرية وحقوق الانسان، والتي أصبحت مبادئ عالمية استقر عليها الضمير العالمي والتي تتصدر مقدمات الدساتير العصرية، دون استثناء، وتكرسها الاتفاقات والمواثيق الدولية التي تحكم قواعد التعامل في عالمنا اليوم. وهذه هي حقيقة وجوهر الدستور اللبناني، ومعه نستطيع القول نظرياً أن لبنان هو دولة دستورية. فهل التطبيق يتماهى مع النص؟ ولماذا في لبنان الدستور في واد والحياة السياسية في وادٍ آخر، وأين تكمن المشكلة؟

في لبنان، لا تكمن المشكلة في تفسير الدستور، أو في الجهة المخولة تفسير الدستور. المشكلة أعمق بكثير. المشكلة تكمن في عدم احترام الدستور وعدم الالتزام بتطبيق أحكامه.

أي خيار للبنانيين لاستقامة وانتظام حياتهم السياسية والدستورية واستقرارها؟ قوننة السياسة Juridicisation de la politique ام تسييس القانون؟Politisation du droit

قوننة السياسة ومعها الحياة السياسية تعني تعميق الإيمان بالدستور، وبشكل عام، بالقانون كمحرك وضابط للحياة السياسية، وبحيث تعمل السياسة تحت سقف الدستور والقانون، وفي كنفه، وليس خارج دائرة الدستور والقانون، وبما يجعل الحوار والجدل السياسي أكثر موضوعية وأكثر عقلانية، وبما يخفف من حدّة الاحتقان السياسي والأزمات السياسية، وبما يرتقي بالدولة لكي تصبح دولة دستورية، نصاً وعملاً.

وتسييس القانون يعني جعل القانون، وبالطبع الدستور أداة في خدمة السياسة، فيفقد الدستور دوره كمرجعية وضعية يحتكم إليه في الصراع أو الأزمات السياسية، بحيث يقع الدستور فريسة التفسيرات السياسية المختلفة والمتعارضة باختلاف المصالح السياسية وتباينها، وبحيث يستحيل الدستور وجهة نظر تتحكم فيها توازنات القوى.

في لبنان، الميل، كما تدل الوقائع، إلى خيار تسييس القانون، لا إلى قوننة السياسة، ولذلك كلما دخل لبنان في أزمة سياسية، تحولت هذه الأزمة إلى أزمة دستورية، فيصبح الدستور هو المعضلة، بدل أن يكون هو الحل. أليس النقاش الحار الذي يدور حول انتخاب رئيس الجمهورية سببه الاختلاف على تفسير الدستور، والأصح الخروج على الدستور؟ ويخوض الجميع اليوم حرباً لا هوادة فيها لإثبات، كل فريق،

وجهة نظره، وإن عجز يحتكم إلى الخارج ويستدرجه إلى الداخل ليحل أزمة البلاد، ولا يحتكم إلى الدستور، او إلى من يفترض أن يكون حامياً للدستور.

S’adressant au Parlement le 8 avril 1986, le Président de la république française,( Mitterand) déclare: “ Devant un tel état de chose la non-coincidence des majorités présidentielles et parlementaires. (période de cohabitation) beaucoup de nos concitoyens se posent la question de savoir comment fonctionneront les pouvoirs publics, à cette question je ne connais qu’une seule réponse, la seule possible, la seule raisonnable, la seule conforme aux intérêts de la nation: La constitution, rien que la constitution, toute la constitution”.

كيف نقنع أهل السياسة في لبنان أن الحياة السياسة محكومة بالدستور، وإلا تكون الفوضى؟!

لقد ادت حركة تطور الشعوب نحو الديموقراطية إلى انبعاث وتعميم فكرة القضاء الدستوري الذي يعهد إليه بالرقابة على دستورية القوانين. وهذه الفكرة هي التي أسست لمفهوم الديموقراطية الدستورية La démocratie constitutionnelle، لأن مفهوم الديموقراطية والنظام السياسي الموصوف بالديموقراطي، لم يعد يستند فقط، في عصرنا الحاضر، على قبول الشعب ومشاركته في الحكم، والذي يسبغ على هذا النظام صفة الشرعية، ولكنه بات يستند إلى فكرة أوسع وأكثر حداثة، وهي فكرة احترام الدستور أي القانون الأسمى، الذي يأتي في قمة البناء القانوني، في هرم القواعد القانونية Normes juridiques. وهذه الفكرة، أي فكرة احترام الدستور كانت في أساس انطلاق مفهوم الدولة الدستورية، بحيث باتت الرقابة على دستورية القوانين تشكل انعكاساً لدولة القانون وتعبيراً عن رسوخ فكرة دولة القانون. فالنظام القانوني، كما يقول المشرع النمساوي هانز كلسن لا يقوم على قواعد قانونية متساوية

من حيث مرتبتها أو قوتها القانونية، ولكنه يشكل بناءً هرمياً متعدد الطبقات، وتستمد هذه القواعد شرعيتها وقوتهاالإلزامية من القاعدة الأعلى التي تتسنم قمة الهرم القانوني، وهي الدستور.

وهذا ما يعطي للدستور هذه المكانة الرفيعة والموقع السامي في سلم هرم القواعد القانونية، وهذا ما يجعل قواعده قواعد إلزامية وقواعد آمرة régles impératives، لا يمكن الهروب من تطبيقها أو تأجيل تنفيذها أو تعطيل مفاعيلها، بطرق ملتوية أو أساليب مقنعة، وسواء عن طريق التفسير أو التأويل، لا سيما إذا كانت أحكام الدستور واضحة وصريحة ومباشرة، ولا يمكن للنائب أو الوزير أن يتهرب من تطبيق هذه الأحكام مدعياً بحق ما ينسبه لنفسه، سياسياً كان هذا الحق أو دستورياً، كما يحصل الآن في التعامل مع نصوص الدستور التي تتناول انتخاب رئيس الجمهورية، وباعتبار النائب أن حضور جلسة او جلسات انتخاب رئيس الجمهورية التي يدعو إليها رئيس مجلس النواب هو حق دستوري مطلق، ينفرد به ويستمده من الدستور، أو هو موقف سياسي لا ينازعه فيه أحد، ويعفيه من أي التزام بالحضور، على الرغم من نصوص الدستور الواضحة والصريحة والآمرة، المبينة في المواد 73 و 74 و 75 منه، ذلك ان الحقوق السياسية، والدستورية منها بشكل خاص،ترتبط بإلزامات وموجبات، وأن مقابل كل حق، التزام وموجب، وحق النائب في حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، ليس حقاً دستورياً فقط بل هو واجب أيضاً، واجب دستوري وواجب وطني، تتأسس على القيام به، حياة الدولة واستمرارها وتحقيق المصالح العامة، وتكوين المؤسسات الدستورية وانتظام عملها، ولا يمكن أن تتوقف حياة الدولة واستمرارها على إرادة النائب او استنسابه او موقفه السياسي، ولا يمكن أن يتعرض استقرار البلاد ومصالحها العليا وديمومة الدولة الى التهديد والخطر بسبب ادعاء النائب بحق استنسابي يدعيه لنفسه، لا اساس له ولا سند في الدستور، ولا يجوز أن تعلق مسيرة البلاد كلها على إرادة واستنساب نائب أو عدد من النواب.

والأمر نفسه ينسحب على حضور النواب جلسات مجلس النواب للقيام بواجب التشريع، وحضور الوزراء جلسات مجلس الوزراء، لتسيير مصالح الدولة وشؤون الناس، طبعاً إذا لم يكن هناك عذر مشروع يبرر الغياب، وإلا تكون محاسبة ومساءلة.

نعم، النائب يسأل ويحاسب، والوزير كذلك وكل من يتولى منصباً عاماً، وإلا عمت الفوضى، والا نجيز الخروج من دائرة القانون وشريعته لندخل في شريعة الغاب، فنسقط كل مفهوم للدولة، ككيان سياسي جامع ومنظم وسيد، ونفقد بالتالي، معنى دولة القانون و الدولة الدستورية.

وإذا كان للنائب او للوزير هذا القدر من السلطة، بحيث يستطيع، بإرادته المنفردة، بناء على حق مطلق يدعيه، أن يعطل انتخاب رئيس الجمهورية او انعقاد مجلس الوزراء او امكانية التشريع في مجلس نواب، وبالتالي تعطيل الدستور، باعتباره يمثل الأمة والإرادة العامة، ولا إرادة أو سلطة فوق إرادته أو سلطته، فلماذا إذاً، وجدت المحاكم الدستورية والمجالس الدستورية التي اولتها الدساتير، في دول العالم أجمع، حق إبطال القوانين المخالفة للدستور بوصف الدستور يمثل الإرادة العليا للشعب؟

لقد ساد في الفكر الدستوري، ردح من الزمن، وخاصة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بتأثير من الفيلسوف روسو rousseau وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، ان القانون هو التعبير عن الإرادة العامة، وفيه تتجسد سيادة الأمة، وأن البرلمان هو الممثل لهذه الإرادة، ولا سلطة فوق سلطته، ولا يجوز لهذه الارادة أن تكون خاضعة لأية رقابة أو محاسبة. وهذه النظرية تؤدي الى التماهي بين الحاكم والمحكوم، بحيث تضيع او تختلط إرادة المحكوم في إرادة الحاكم، ويصبح ما يريده الحاكم هو ما يريده الشعب، وما يصدر عنه من قوانين أو تدابير يعبر عن إرادة الشعب الذي لا يسعه الاحتجاج عليها.

الا أن الفكر الدستوري الحديث قد أحدث تمييزاً واضحاً بين الحاكمين والمحكومين، وأكد على استقلال إرادة الشعب عن إرادة ممثليه، وبحيث أصبح الدستور هو التعبير الحقيقي عن السيادة الشعبية، وعن إرادة الأمة، وكل تجاوز للدستور أو تعطيل لأحكامه يعتبر تعطيلاً لإرادة الأمة. ولذلك أناطت الدساتير بهيئة قضائية مستقلة عليا أمر الرقابة على دستورية القوانين، أي على مدى انطباق القوانين على الدستور واحترامها لأحكامه، بحيث تصحح المعادلة الديمقراطية ويستوي مفهوم الديمقراطية الدستورية على أساس احترام الدستور، وبحيث يكتمل مفهوم وصرح الدولة الدستورية، وبحيث لا يكون القانون معبراً فعلاً وحقيقة عن الإرادة العامة، أي عن إرادة الشعب الا بقدر ما يأتي متوافقاً مع أحكام الدستور:

La loi n’exprime la volonté générale que dans le respect de la constitution.

هذا الفكر الديمقراطي الحديث أصبح مكرساً ومعمولاً به، ومنه ينطلق القضاء الدستوري ليفرض احترام الدستور من جهة، ويحمي إرادة الأمة، من جهة ثانية، من إساءة التعبير عنها.

بذلك، نؤسس للدولة الدستورية، التي تخضع في كل جوانب عملها، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، للدستور، ولذلك يصبح العمل السياسي ليس عملاً يخضع للإستنساب والأهواء، أوتحكمه المصالح والتحالفات والصراعات الفئوية والحزبية والسياسية، بل تخالطه الجوانب والاعتبارات القانونية والدستورية. التي تشكل دائرة أمان ووقاية لهذا العمل، وهذا ما يحصن العمل السياسي ويصونه ويبقيه في دائرة الدستور.

وثمة نظرية خطيرة أيضاً تتحكم بالفكر السياسي او بممارسة الحكم في لبنان، يحاول بعض العاملين في السياسة أن يدخلوها قهراً في عقول اللبنانيين، ومفادها أن الوزير إنما يمثل طائفته، وإنه عندما يتخذ موقفاً أو يصوت في مجلس الوزراء، إنما يقوم

بذلك باسم طائفته او كممثل لطائفته، وهذا ما يجيز له ايضاً أن يتغيب عن جلسات مجلس الوزراء او يعطل انعقاده، بدعوى حماية حقوق طائفته، وتحت عنوان الميثاقية، وبذلك يبرر كل تصرفاته ويعفي نفسه من كل مساءلة أو محاسبة، فإن أخطأ أو أساء أو خالف القانون، فلا جناح عليه، طالما هو يمثل طائفته وينطق باسمها. ومن يتجرأ في لبنان على مساءلة الطائفة أو محاسبتها؟

وقد حسم المجلس الدستوري هذه المسألة بموجب قراره رقم 2/2000 تاريخ 8/6/2000، معتبراً ان المادة 27 من الدستور تجعل النائب ممثلاً للأمة جمعاء، وأن وكالته التمثيلية يستمدها مباشرة منذ لحظة انتخابه من الشعب، وليس من الطائفة التي ينتسب اليها بحكم القانون، أو من أبناء طائفته، او من ناخبي المنطقة التي ترشح فيها، وهذا ما يتفق تماماً مع احكام الدستور، ولاسيما مع مقدمته، لأن الشعب، وفقاً للفقرة ” د” من مقدمة الدستور هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، وهو يمارس هذه السيادة عبر المؤسسات الدستورية، ومجلس النواب هو المؤسسة الأم التي تتجسد من خلال مهمته التشريعية، سيادة الشعب، وهذا يعني ان السيادة لا تكمن في الطائفة، ولا في ناخبي منطقة معينة، ولا يمكن للنائب اذن ان يكون ممثلاً لطائفته او للجماعة التي انتخبته، وهوعندما يمارس مهمته النيابية أو التنفيذية، فهو لا يعبر عن ارادة ناخبيه و طائفته، وانما يعبر عن الارادة العامة، وما يؤكد ذلك أن النائب لا ينتخب من أبناء طائفته وإنما من جميع الناخبين في الدائرة الانتخابية على اختلاف طوائفهم.

ولعله، ولأول مرة، في لبنان، ومنذ صدور الدستور اللبناني سنة 1926، يصدر موقف دستوري، ( قرار قضائي ملزم )، من اعلى هيئة قضائية دستورية، يعطي للنيابة، مضمونها الوطني، ويعيد لمجلس النواب طابعه الوطني، ويحرر النائب من التزاماته المناطقية والطائفية، كما والقيود، ليتصرف كنائب وممثل للأمة، كما ينبغي أن يكون. وكأني بالمجلس الدستوري، يعمم الموقف، فيقول، وهو يقصد أن يقول، ان

النائب والوزير والقاضي والعسكري والموظف وكل من انتدب أو ندب نفسه لخدمة عامة، هم جميعاً في خدمة الدولة وبالتالي الشعب، وليسوا في خدمة الطوائف.

وحرص المجلس الدستوري بأن يوضح هذا المفهوم لصفة النائب التمثيلية، بأن الطوائف وان كانت ممثلة في مجلس النواب، أو في مجلس الوزراء، فهي لا تتمثل كجماعات دينية أو طائفية، وان مجموعة النواب أو مجموعة الوزراء، من كل طائفة معينة لا تتشكل داخل كل منهما، ككتلة دستورية طائفية، اي كوحدة عضوية دينية ذات صفة تمثيلية، وتتمتع بصفتها تلك، بحق التصويت داخل البرلمان، أو داخل مجلس الوزراء، لأن ذلك يتعارض مع مفهوم الدستور ومع روح الميثاق الوطني والعيش المشترك، فضلاً عن المرتكزات التي يقوم عليها نظام المجتمع وكيان الوطن، حيث لا فرز فيه للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك ( الفقرة “ي” من مقدمة الدستور).

وتمثيل الطوائف في مجلس النواب وفي الحكم، لا يخل بهذه الرؤية الوطنية، ان هو الا تعبير عن توافق اللبنانيين على مشاركة جميع الطوائف في بناء الوطن وفي صنع القرار السياسي، دون استبعاد او اقصاء اي فئة من فئات الشعب، نظراً لأن المجتمع اللبناني هو مجتمع متعدد الطوائف. وعندما يكتمل عقد السلطات الدستورية، وتتكون المؤسسات الدستورية، مع مراعاة هذه الخصوصية، سواء عن طريق انتخاب مجلس النواب أو تأليف الحكومة، يتحول كل منهما إلى مؤسسة دستورية تعمل في خدمة الشعب اللبناني وفي تسيير المصالح العامة، أي في خدمة جميع اللبنانيين، لا في خدمة الطوائف أو الأحزاب، وتعمل، بوصفها تمثل جميع المواطنين، وفقاً لأحكام الدستور ولآليات النظام البرلماني.

خاتمة:

لا بديل للمواطن عن الدولة، ولا يمكن لسلطة مهما أوتيت من القوة أو القدرة أن تحل محل الدولة، أو تؤمن الحماية للمواطن، ولا يجوز للطوائف أو للأحزاب أو للقوى السياسية أن تقاسم الدولة سلطتها أو تنازع الدولة على سلطتها، أو تشاركها في السيادة على إقليمها أو على مواطنيها، لأن ذلك لا يضعف سلطة الدولة فقط ويذهب بهيبتها ويلغي دورها، بل إن ذلك يؤثر على الكيان ويشكل خطراً على وحدة الدولة ويضرب الوفاق الوطني وصيغة العيش المشترك في الصميم.

ولم يعد من المقبول أن تستقوي الطوائف أو الأحزاب أو القوى السياسة، على الدولة وأن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تصادر الحقوق والحريات، أو أن تستقطع لنفسها الإدارات والمرافق العامة، وأن تتوزع منافعها وخيراتها، لأن ذلك كله يقوض أركان الدولة، ويهدم مقوماتها وركائزها، ويلغي مفهوم الحرية والديموقراطية، ويجعل الدولة ومؤسساتها حقلاً للتجاذب والمنافع، ويجعل الطوائف في مواجهة بعضها البعض، مما يسيء إلى علاقات الود والتفاهم والتعاون والثقة التي يجب أن تسود في ما بينها، بحيث يصبح اللبنانيون في خدمة طوائفهم لا في خدمة مواطنيهم، وهو ما أدى إلى تعميق الحساسيات الطائفية والمذهبية، وحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة صراع وتنافس داخلي بين هذه الطوائف والمذاهب، تتسرب إليها الصراعات الإقليمية والدولية كما يتسرب المطر من سقوف وجدران البيوت المشققة، فتغرق هذه البيوت بالمياه وتفقد صلاحيتها للسكن.

لم نفقد الأمل ببناء الدولة، الدولة الدستورية، دولة الحق، دولة المواطن والإنسان، فالإرادة اللبنانية الجامعة متوفرة، ولكن النفوس مازالت حائرة وهائمة تتقاذفها وتتصارع في أعماقها المخاوف والهواجس، وتستبد بها الشكوك، ورواسب الماضي البعيد والقريب، وزادتها المواجهات والممارسات السياسية التي شهدها لبنان خلالالسنوات الماضية رسوخاً. كيف نداوي هذه الجروح وكيف نخرج النفوس من سجنها، إنها مسألة تستحق العناء.
ليست هذه دعوة للاستلام إلى واقع مرير، هي دعوة للتفكير والتحرك لكي نبني دولة تقوم على احترام الدستور، لكي يكون لبنان بحق دولة دستورية، وحتى لا نفقد وطناً يراود أحلام الكثيرين.”

السابق
نحو جدول تاريخي لأحداث السيرة النبوية تحت الرعاية الملكية السامية
التالي
الميثاقية ليست ترفاً ولا تحتسب بالترتيب العددي