ربيع البطريرك وخريف الوريث

في فصل ترشيح الثمانيني لرئاسة الجمهورية، بدا البطريرك، ميشال عون، سعيداً، مبتسماً، نابضاً بالحياة، عكس ما ينتظره المرء من رجل يكون عادة في هذا العمر، بعد شقاء سياسي طويل، يداعب احفاده ويشحذ منهم الإنتباه، وينتظر نهاية خريفه بأسى. أما سعد الحريري، الأربعيني، الأصغر من أولاده ربما، فطلع علينا وكأن خريفه بدأ لتو: ممْتعض، متجهّم، حزين، واضعاً إصبعه على فمه، بالكاد يستطيع أن يتفوّه بـ”مبادرته”، تاركاً لحيته تطول ووزنه يزيد؛ بطيء الحركة، ثقيلها.

يتكلم بلسان والده الشهيد، يقف تحت صورته، يستجدي ماضيه، يعتز بأن ما يفعله الآن، كان أبوه سوف يفعله. فيما الثمانيني السعيد، فلا صورة غير صورته، ولا لسان غير لسانه، يطلب أن ننسى ماضيه، أن نتطلع إلى المستقبل، تذهب كل امانيه نحو “الأخوة والأولاد والأحفاد”، غافلاً قصداً الصهْرين . فيما بدا الأربعيني منغرزاً في جذره السطحي، ملقياً نظره على الماضي وأمجاده، ومنبع شرعيته. كل هذا من باب العجائب المادية: إذ كيف لثمانيني ان يثبت على رغبته بالرئاسة والزعامة على الرغم من تقدمه في العمر؟ وكيف لأربعيني أن ينحني لهذه الرغبة، بعد مقاومة متأرجحة، على الرغم من صغر سنه؟

اقرأ أيضاً : الحكيم والحريري بعد«كسب الرهان» وانكشاف نوايا حزب الله!

ليس معروفاً بالضبط سبب هذه المعادلة الشاذة في علم الأجيال، خصوصا السياسية منها: أن يطلع المسنّ إلى الخشبة، منتصراً مزهواً، في وقت ينتظر فيه مجايلوه الإكتئاب ثم الموت. وأن يكون البطل الذي أمامه، وهو في عزّ شبابه، مكسوراً، بالكاد يستطيع أن يتفوه بالكلمات التي تزكّيه، لشدة مرارتها. الأول عازم منذ عقود على الرئاسة، والثاني متذبذباً، بين رفضه القاطع له، وبين إعلانه عن ترشيحه له، مروراً بمرشحين آخرين، وفي كل مرة يتراجع، ثم يتقدم، وصولاً الى هذه الخاتمة البائسة.

ولكن إذا دقّقتَ بخلفية المشهد، فسوف تفهم لماذا يحتفل الآن البطريرك بربيعه: فهو، فوق الرئاسة، أي “تحقيق الحلم المنشود”، والشعبية الجارفة وسط أبناء طائفته، أي أساس زعامته… أمّن تجديد هذه الزعامة، توريثها، بالإنتخابات المقبلة، والتي تليها. فوق هذا، يكسب ثلاث كتل سياسية كبرى، تضمن له، حتى الآن، نجاح ترشحه: “القوات” و”حزب الله” و”تيار المستقبل” الذي يتزعمه الشاب الخريفي.

فيما يخسر هذا الأخير حليفه، عمود النظام، نبيه بري، بعدما تفرّد في “طبخ” هذا الترشيح، فضلاً عن “صديقه” سليمان فرنجية بعدما خذله، ويواجه رفضاً لهذا الترشح من نواب كتلته ومن طائفته؛ والخسارة الأقوى من الجميع، تلك التي تهدّد زعامته، هي قاعدته الشعبية التي رباها منذ عشر سنوات على “الموقف” من البطريرك، المعتمد المسيحي لمحور الممانعة… ها هو المحور مغتبط، يشاهده على خشبة السياسة، وهو يكاد يختنق لدى إعلانه عن ترشيحه، يجف الريق في فمه، يعبس، يغلب السواد على وجهه، فيما البطريرك، متألق، تقدح عينه شرراً والتماعاً، ويسهر على ابتسامته، لا يريد ان تكون أعرض مما يجب، يمسك عن القفز في السماء فرحاً، ولا تنقصه الهمّة، بعدما أخذ جرعته الكيميائية من “الإنتصار”

“التفاهم” بين الإثنين واضح على الخشبة. هما سوف يهتمان بـ”الدولة” ومؤسساتها ومسيرتها، فقط لا غير؛ لن ينظرا إلى النشاط العسكري للدويلة، “حزب الله”، داخل هذه الدولة، على جوانبها، أو أبعد من حدودها. وبتركيز إهتمامهما على “الدولة” وحسب، سوف ينكبّان على خيراتها: أنت رئيس جمهورية، وأنا رئيس وزراء؛ نترك “حزب الله” يسرح ويمرح، لا يقترب صوبنا إلا لنيل حصته، التي لن تكون صغيرة في كل الأحوال. لن تكون صغيرة؟ بل حصة الأسد، بعدما تمرد قليلاً، هو وحليفه الشيعي.

وبذلك تفهم شيئاً من سعادة الثمانيني وتعاسة الأربعيني على الخشبة: لقد انتصر “حزب الله” خلفهما، وبرصاص “كاتم الصوت” (على حد تعبير أحدهم). من دون صواريخ بعيدة المدى، ولا شهداء في ساحة الجهاد. فالثمانيني منتصر على الخشبة؛ خلف كواليسها، “حزب الله”، الذي رفع ترشحه عالياً، هو اكبر الرابحين. “حزب الله” الذي وصفه الأربعيني، طوال عقد من الزمن، بأصل الشرور الوطنية كلها. ها هو خلف الثمانيني، يرسّخ دوره الاقليمي، ويرفع مرشحه إلى الرئاسة الأولى.

اقرأ أيضاً : ترشيح عون يضاعف كراهية الشيعية السياسية للحريري

كل هذا ليس سوى مسرح، أو بالأحرى فصل من مسرحية السياسة. لن يغير شيئاً من هذا الفصل، بعد ذلك، إن كان الثماني سوف يُنتخب، وإذا انتخب سوف “يحكم”. وإذا “حكم” لعام واحد أو مئة عام، ويجرّنا إلى هاوية تلو الأخرى…

كان يمكن أن يكون كل هذا الفصل مسلياً، ممتعاً بمفارقاته وتشويقه وخروجه عن الروتين التعطيلي. كان يمكن أن يكون مسلياً، لو لم يكن مؤشراً إلى محاولة جديدة، فاشلة أو ناجحة، لإدامة نظام سياسي متآكل مهترىء، ولولا عودة جبال النفايات إلى الشوارع، وانقطاع المياه، واختلاط الجوفية منها بمياه المجارير، وسرقة رمول الرملة البيضاء… وحرية “حزب الله”، مدعوماً بإنتصاره الجديد، في قتل المزيد السوريين، وحصارهم وتجويعهم.

السابق
ملكة جمال لبنان على مشرحة مواقع التواصل الاجتماعي: واسطة أم عونية؟
التالي
رفيق الحريري كان ليرشح عون دون مشاركته الحكم