سجن الأرامل المنسي في طرابلس

هنا في الخانكة، ملجأ الأرامل الفقيرات، لا شيء يوحي بالحياة. عزلة المكان، رطوبة الهواء، الرائحة العفنة، الحيطان المهترئة، أقنية المجاري.. كلّها تفاصيل معاناةٍ تتقاسمها نسوةٌ جمعهن القدر بعدما ترملن أو طلقن، وفقدن “الرجل” المعيل.

في أحد الزواريب المنسيّة داخل طرابلس القديمة، تبدأ الحكاية على بُعد أمتارٍ من “قهوة موسى” الشهيرة، وسط منطقة باب الرمل. فمن الطلعة المعروفة بـ”زقاق العوينات”، الحيّ الضيّق الذي يلتفّ صعوداً تحت قبّة جامع “المعلّق”، يبرز مشهد الانفصال عن منظومة الحياة الطبيعية، حيث تعيش عشرات النساء عزلتهن.

الطرابلسيون في غالبيتهم، يجهلون هذا المكان المخصص للأرامل مع أولادهن الصغار فقط. لا رجال، لا محال تجارية، ولا دكّان يبيع الخبز والمؤن الضرورية.

قرب “قهوة موسى”، صادفت سيّدة خمسينية، ما لبثت أن سألتها عن مكان الخانكة، إلا أن شدّت على يدي وسارت مسرعةً وهي تقول بحماسة: “وصلتي”.

لم تعطني فرصةً للكلام عن سبب زيارتي. سردتْ عليّ عن ظهر قلب وهي تلهث من التعب، يوميات الفقر المدقع الذي تعيشه نسوة هذا الحي. لقد ظنّتني فانوس علاء الدين، وقالت: “كل شي بيطلع منك رح يلاقوا أدّ الدني”.

أمتارٌ قليلة داخل الزقاق، توصل إلى حيّ الخانكة. وتحت القبة المحفور عليها اسم الخانكة– أيّ الخان في اللغة التركية– بابٌ عريضٌ يُفضي إلى الباحة الاسمنتية المظللة بشجرة البرتقال، يجلس على عتبتها عدد من النسوة يضعن على رؤوسهن “أغطية الصلاة” ويتسامرن. وما إن يلمحن غريباً دخل عليهن، حتّى يستقبلنه بالسّعة والترحاب: “يا هلا بأهل الخير”. فكلّ عابرٍ لا يعرفنه، هو بصيص أملٍ سيدرُّ عليهن الخيرات.

أمّ عبدلله، واحدة من هذا التجمع النسوي، تقول لـ”المدن” إنّه “بدءاً من ساعات الصباح الأولى، تتجمع مع جاراتها بانتظار المعونات”، وغالباً ما يذهب الوقت سدى وتندثر الآمال.

وسط تجمع الخانكة، بئر ماءٍ صغيرٍة تدور حولها الحشرات، تُستعمل لجلي الأواني والغسيل، وتلتف حولها 12 غرفة محجوبة عن أنوار الشمس، بعض أبوابها الخشبية مخلع، وبعضها الآخر أنتُزِعَ من مكانه، بعدما نهشته الرطوبة وبيوت العنكبوت. وفي كلّ غرفة، تجد أرملة مع أولادها، تستضيف أمّها وقريباتها، ويعشن سوياً على كنبةٍ صغيرة، وينمن على فراشٍ مهترئٍ فوق لوح خشبيٍ منقور. وحدها حبال الغسيل التي ترتمي عليها ثياب أكل عليها الدهر وشرب، تفصل الغرف عن بعضها، وتعطي الأرامل حقّ العزلة والبكاء خلفها، بعيداً من أعين الجارات.

لا مكان للأمل
عند السؤال عن يوميات هذه النسوة، تسرد أم أحمد لـ”المدن”، كيف تجلس مع جاراتها الأرامل في باحة الخانكة، ليقمن برعاية أطفالهن، ويحضرن “الطبخة” التي يتشاجرن على اختيارها، من بقايا البرغل والعدس والأرز، ونادراً ما يتذوقن طعم اللحمة التي تقول عنها: “لا تسأليني عن اللحمة، هيدي للأكابر والبكوات منها لبطن ولادنا”.

أما أم فادي العجوز الثمانينية، كبيرة أرامل الخانكة، فدخلت هذا “المأوى”، كما تحب أن تسميه، منذ ثلاثين سنة بعد وفاة زوجها. وما إن تُسأل عن أولادها، تبتلع صوتها المخنوق وتجيب بحسرةٍ: “ولادي! آخ يا ولادي”. ثم تأخذ نفساً عميقاً وتستأنف الحديث، حتّى تعطيهم مبرراً يحفظ ماء الوجه. “اخترت كون هون ولا شوف ولادي عم يقطعوا عن تمّ ولادهم كرمال يطعموني”.

تتناقض طباع أرامل الخانكة رغم وحدة الواقع والمصير. فأم جلال لا تكترث للفقر والحرمان بعدما أصبحا جزءاً من يومياتها، بل تروي قصص حياتها بعنفوانٍ وقوّة، وتتحدث عن الآلام القاسية التي عاشتها بعد دمار منزلها إبان مجزرة التبانة عام 1986، والتي أودت بحياة زوجها.

ألم واغتصاب
في هذا السرب، تعيش ربيعة الشابة والأمّ الثلاثينية، أوجاعاً من نوعٍ آخر. فهي جاءت إلى غرفة أمّها في الخانكة، بسبب ضيق حالها بعد دخول زوجها السجن لسببٍ لم تفصح عنه. إلا أن بداية شهر رمضان الماضي لم تكن خيراً عليها.

ففي إحدى الليالي، وفق حديثها، دخل غرفتها شابان شقيقان من أبناء جارتها، تراوح أعمارهما بين 16 و18 سنة وتحرشا بها. لكن ارتفاع صراخ أولادها الصغار، دفع إحدهما إلى طعنها بالسكين في ظهرها، ما استدعى تدخل الإسعاف والدرك.

نشأة الخانكة
لماذا خُصّص هذا المرفق المملوكي الكبير للأرامل فقط؟

القصّة تعود إلى القرن السادس عشر. ففي العام 1500، جاءت سيدة تُدعى “الصالحة”- كانت ترفض الإفصاح عن اسمها- وأمرت ببناء الخانكة كمكانٍ سريٍّ يلجأ إليه المجاهدون الذين يعبرون طرابلس في ذهابهم وإيابهم خلال الحرب، وأوصت بتحويله إلى ملجأ للأرامل اللواتي ليس لهن معيل.

إلا أنّه ومع مرور الزمن، أقدمت دائرة الأوقاف الإسلامية على شراء هذا المرفق، وأصبح وقفاً خاصاً لها، مع الاستمرار بوصية “الصالحة” على اعتبار أنها “تكليفاً شرعياً” وجب الالتزام به.

إقرأ أيضاً: السلاح الحلال.. والسلاح الحرام: بين القاع وطرابلس!

وفي هذا الصدد، يشير الشيخ نزيه موسى في حوارٍ مع “المدن”، وهو أحد المكلفين من دائرة الأوقاف الاهتمام بشؤون الخانكة، إلى أنّ هذه الدار تعاني من حرمانٍ كبيرٍ نتيجة تراكم الإهمال فيها منذ سنوات. لكن موسى، الذي يحصر دور دائرة الأوقاف بتوفير مكان الإقامة للأرمال، ووصلهن بجميعاتٍ تقدّم المساعدات بين وقتٍ وآخر، لا ينفي حاجة الخانكة إلى الترميم وإعادة التأهيل، وهي مسؤولية تقع على عاتق الدائرة لأنّها تندرج على لائحة أملاكها الخاصة.

وعن كيفية اختيار الأرمال اللواتي يحصلن على غرفٍ مجانية في الخانكة، يشير موسى إلى أن النساء يتقدمن بطلباتٍ لدى دائرة الأوقاف، وينتظرن شغور إحدى الغرف، على أن يتمّ اختيارهن بناءً على مبدأ “الأكثر حاجة”. يضيف: “مما نأسف له، أن الأمور في الخانكة انقلبت رأساً على عقبت، وتحولت إلى مخبئٍ للتحشيش وممارسة الفواحش، بعدما دخلت عليها بعض النساء اللواتي لا يستحقن المساعدة والبقاء فيها، وربين أولادهن على الرذائل”.

إقرأ أيضاً: من اغتصب طرابلس؟

على أن تحميل النساء مسؤولية ما يجري، خصوصاً في الحادثة الأخيرة التي تعرضت لها ربيعة، فيه كثير من الظلم والتغاضي عن تراكمات الأهمال التي أفضت إلى هذه النتائج السيئة. في حين يبقى تفرد دائرة الأوقاف الإسلامية، بالسلطة على الأماكن المخصصة لها، واحداً من مشاكل الخانكة الأساسية، لاسيما أنّه لا يحق لبلدية طرابلس لها التدخل في شؤون ممتلكات الأوقاف، حتّى لو كان الهدف إنمائياً، وفق عضو مجلس بلدية طرابلس جميل جبلاوي.

وفيما تعيش أرامل الخانكة على أمل الشائعات التي تعد بتحسين ظروفهن، يقول توفيق بصبوص، المحامي في دائرة الأوقاف لـ”المدن”، إن مشروع تأهيل الخانكة، “غير مدرجٍ حالياً على لائحة القضايا المستعجلة التي ستسرع الدائرة على إيجاد حلٍ لها، نظراً إلى تراكم الأولويات، على أن يُطرح المشروع لاحقاً”.

(المدن)

السابق
هل مشكلة المستشفى في العرقوب اسم الشيخ خليفة بن زايد؟
التالي
وزير تركي: الولايات المتحدة «دبرت» محاولة الإنقلاب